من دروس التخصيص
لقد أثبتت التجربة على مدى عشرين عاماً في الموانئ ومرافق عامة أخرى، أن معالجة موضوع السعودة ضمن إطار ترتيبات التعاقد التقليدية مع شركات التشغيل لا يحقق الهدف المطلوب. إذ إنها عادة ما تصطدم بعقبات، أبرزها أن الأجور المتاحة في هذا المجال متدنية. كما أن فترات عقود مقاولي التشغيل لا تتجاوز ثلاث سنوات، وهي فترة قصيرة نسبياً لا توفر استقراراً كافياً للعامل المنتج الذي يتطلع إلى وظيفة تمنحه الاطمئنان على مستقبله. ومن ثم كان لابد من البحث على آليات أخرى لتجاوز العقبات التي تحول دون تحقيق هذا الهدف. ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أنه مهما كانت نوعية الآلية التي يتم اختيارها، فإن نجاح إحلال السعوديين في وظائف التشغيل المدربة يتطلب توافر عدة عوامل مهمة، على رأسها تقديم أجور ورواتب مجزية وتأمين الاستقرار الوظيفي الملائم للعامل وتوفير برامج تدريب جيدة.
وبالرغم من أن إطار التخصيص يصلح كآلية لتوفير هذه العوامل، إلا أن معالجة موضوع السعودة في هذا الإطار يتطلب قدراً كبيراً من الحذر لئلا تصبح تكلفة السعودة عبئاً على الربحية التجارية لبرنامج التخصيص، ما قد يؤدي إلى إجهاض البرنامج برمته. ونكون بذلك – لا سمح الله – كالمنبت الذي لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع. إذ إن أي برنامج للتخصيص سيكون مصيره الفشل إذا كانت تكلفة عناصر إنتاجه، أو بعضها، مثل اليد العاملة تعيقه عن المنافسة. ليس هذا فحسب، بل إن التخصيص الناجح يقتضي توافر المرونة الكافية للمستثمر في اختيار أدوات وعناصر الإنتاج، ومنها العمالة وتحديد مستوياتها بما يتفق مع الاستخدام الأمثل للموارد وإدارة العمل بأسلوب تجاري.
لقد كانت هذه الاعتبارات نصب العين عندما بدأ تصميم برنامج تخصيص خدمات الموانئ السعودية. وكان لابد من تناول الموضوع بشكل متوازن يحافظ على الغاية الأساس من التخصيص، وفي الوقت نفسه عدم التفريط في تحقيق هذه السعودة الجادة المنتجة. ومن توفيق الله تعالى، كانت هناك عوامل ساعدت على تحقيق ذلك التوازن. من بينها وجود قاعدة بيانات عن العمالة الوافدة والأعمال التي يؤدونها في الموانئ. وكذلك الأجور التي يتقاضونها على وجه التقريب. كما كان من بين العوامل المساعدة أيضاً، توافر خبرة طويلة لدى الموانئ في تدريب وسعودة بعض الوظائف في التشغيل.
وهناك عامل مساعد آخر لا يقل أهمية عن المعلومات والخبرة، ألا وهو التدرج الزمني في طرح منافسات فرص الاستثمار ضمن برنامج التخصيص لقياس ردود فعل المستثمرين تجاه متطلبات السعودة، وكان القياس من خلال الاستفسارات التي طرحها المستثمرون أثناء فترة تحضير العطاءات. أما القياس الأكثر دقة فيكمن استقراؤه من أسعار العطاءات. وفي ضوء هذه القياسات تم تنقيح وتنسيق متطلبات السعودة مرحلة بعد مرحلة.
لقد تبلورت كل هذه العوامل والمدخلات في وضع برنامج لسعودة العمالة المدربة في الموانئ لكل عقد استثماري على حدة بما يتناسب مع طبيعة العمل. غير أن هناك قواسم مشتركة بين هذه البرامج، أهمها:
ـ بنيت البرامج على تقديرات واقعية لإحلال السعوديين في وظائف التشغيل المدربة، تأخذ في الاعتبار طبيعة العمل والفترة المطلوبة لتدريب الشباب السعودي إلى مستوى تتم عنده عملية الإحلال بشكل لا يؤثر على استمرارية تقديم الخدمة للسفن وقطاع الأعمال.
ـ عند طرح المنافسة، وقبل التعاقد، كانت الالتزامات المطلوبة من المستثمر واضحة ومحددة بالنسبة لبرنامج التدريب وإعداد ومسميات الوظائف التي ينبغي سعودتها، وتواريخ إنجاز ذلك حتى يتسنى للمستثمر احتساب تكلفة دقيقة لهذه الالتزامات، وعدم فتح الباب مستقبلاً أمام المستثمر لمطالبة الدولة بتعويضات أو التخلي عن التزاماته، بحجة غموض المتطلبات التي قد يفسرها المستثمر لصالحه.
ـ عدم المبالغة في تقدير أعداد الوظائف المطلوب سعودتها بشكل يفوق احتياجات العمل أصلاً، وترك مساحة كافية من المرونة للمستثمر لكي يتمكن من إدارة العمل بأسلوب تجاري منافس، لا سيما وأن المستثمرين في خدمات الموانئ عليهم التنافس في الأسعار ومستوى الخدمات، ليس فقط على نطاق السوق المحلية فحسب، بل أمامهم منافسة حادة من الموانئ الأخرى.
ـ لضمان جدية التنفيذ، ولئلا تصبح الالتزامات مجرد حبر على ورق هناك ضمانات بنكية (من 5 إلى 25 مليون ريال) مقدمة من المستثمرين يمكن استخدامها، إذا أخفق المستثمر في تنفيذ التزاماته، في توظيف السعوديين وتدريبهم وصرف مستحقاتهم الشهرية.
وخلاصة القول إن التخصيص يوفر آلية جيدة، إذا أحسن استخدامها، لتوفير فرص عمل جديدة للسعوديين.
|