السعودة بين نظام السلطة ونظام السوق
من أجل تحقيق الإدارة الفعالة، فإن جميع الحكومات تبذل قصارى جهدها للسيطرة على مختلف أنواع حالات عدم التوازن في المجتمع. ويعد عدم التوازن الاقتصادي من أهم هذه الاختلالات وأخطرها فيما يتعلق بالاستقرار في المجتمع.
واستناداً إلى ذلك، فقد تم تطوير عدد من المؤشرات الاجتماعية الاقتصادية في الدول المتقدمة كما تقوم فرق من القطاعين العام والخاص بمراقبة هذه المؤشرات بجدية واهتمام كبيرين. ومن هذه المؤشرات النسبة المئوية للبطالة في دولة ما التي تستخدم بشكل عام كأحد أهم المؤشرات النموذجية لقياس عافية الاقتصاد ونجاح مجهوداتها الرامية للوفاء بالتزاماتها بتحقيق الرفاهية لمواطنيها. ولكن في هذه الدول، لا يعد توفر البيانات مشكلة كما أن احتمالات الخطأ في معظم العمليات الحسابية والنسب المئوية بهذا الموضوع تعد هامشية.
إن المملكة العربية السعودية، التي تشهد نمواً مضطرداً في عدد السكن، مهمومة بمشكلة البطالة وتسعى جاهدة للقضاء عليها. غير أن الافتقار إلى المعلومات والبيانات الموثوقة أدى إلى عدد من الآراء المختلفة التي تتعلق بمستوى البطالة في البلاد. ومع ذلك، فقد ترسخ مفهوم أن البطالة تمثل تهديداً كبيراً للاستقرار وإدارة الأمور وتؤثر على الأنشطة المتعلقة برفاهية المجتمع.
لقد قامت الحكومة، بعد أن استشعرت الخطر المحتمل المتأصل في قضية البطالة، بالمبادرات الرامية إلى استيعاب المواطنين السعوديين في الأنشطة الاقتصادية. وقد أطلق على هذه المجهودات اسم "السعودة". إن لكل برنامج اقتصادي إيجابياته وسلبياته الاقتصادية التي تقاس في شكل تكاليف وعائدات. إن الطريقة التي انتهجتها الحكومة لتطبيق برنامج السعودة هي "الطريقة المفروضة من السلطة" أو ما يسمى بالمنهج السلطوي. ورغماً عن أن تطبيق هذه الطريقة أدى إلى تحقيق حد أدنى من النجاح من ناحية العدد، فإن لديها عدة إفرازات سلبية في المجال الاقتصادي خصوصاً فيما يتعلق بالإنتاجية والتكلفة.
لقد تم تبني مثل هذا النهج في وقت سابق بواسطة الاقتصاديات الاشتراكية حيث كانت الحكومة في ظل ملكيتها لكل وسائل الإنتاج تعد مسؤولة عن توفير الوظائف لكل فرد من مواطنيها. هذه النظرية أثبتت عدم نجاحها وأصبح واضحاً أن تأثيرها السلبي على معدل الإنتاجية والنمو الاقتصادي كبير جداً الذي أثر سلباً على إمكانية خلق فرص وظيفية مستقبلية في القطاع الخاص ومصر كدولة عربية هي أفضل مثال على هذه الحالة.
لقد عمل أنصار الاقتصاديات الحكومية منذ زمن ليس بالبعيد على إعادة صياغة سياساتهم الاقتصادية الخاصة وتشكيلها بهذا الموضوع بعد أن أصبحت النتيجة واضحة للعيان.
إن "قوى السوق" تعتمد بشكل أساسي على الإنتاجية في توظيفها لجميع الموارد الاقتصادية ومنها وأهمها الموارد البشرية.
وإن اعتماد "النهج السلطوي" بديلاً لذلك، أو جعله الأساس في سياسة التوظيف "السعودة" سيؤدي كما حدث في دول أخرى، وبلا شك، إلى تداعي الإنتاجية في القطاعين العام والخاص، وزيادة في تكلفة الموارد البشرية وهي من أهم عناصر التكلفة الإنتاجية وانخفاض النمو الاقتصادي وضعف قدرة المنتجات الوطنية على المنافسة في السوق المحلي والعالمي، وهذا بدوره سيؤدي إلى انكماش اقتصادي عام وإفلاس في القطاع الخاص تكون نتيجته تسريع العاملين وبالتالي زيادة معدل البطالة.
وتجدر الإشارة هنا أن التكلفة بالمفهوم الاقتصادي لا تقاس فقط بالأجر (الراتب)، وإنما بالأجر منسوباً إلى الإنتاجية. فالعامل السعودي أو الأجنبي ذو الأجر المرتفع لا يعتبر مكلفاً إذا كانت إنتاجيته مرتفعة تعادل أجره وتزيد والعكس صحيح. فالعامل السعودي أو الأجنبي حتى وإن كان أجره منخفضاً يعد مكلفاً إذا كانت إنتاجيته أقل من راتبه.
إذن العبرة أولاً وأخيراً بإنتاجية العامل، والإنتاجية مرتبطة بشكل أساس بالتأهيل العلمي والمهني للعامل. ولكي ترفع الدول من مستوى الدخل والمعيشة لمواطنيها فإن عليها أولاً الرفع من مستوى إنتاجيتهم وهذا يتم بإتاحة الفرصة العادلة والمتساوية أمام جميع المواطنين، كل حسب قدرته الذهنية للوصول إلى مستوى عال من التعليم العام والتقني يسبقه تأمين حد أدنى من المستوى الصحي والسكني والاجتماعي الجيد الذي يساعد على الاستمرار ويساعدهم على التحصيل العلمي والمهني وبناء قدرة إنتاجية عالية. وبذلك تكون الدولة قد أدت واجبها الأساس تجاه مواطنيها.
أما محاولة توطين الوظائف أو السعودة من خلال قرارات بيروقراطية وأوامر حكومية فإنها لن تؤدي إلا إلى الفساد الإداري في الأجهزة الحكومية المعنية بموضوع العمالة الأجنبية وإلى إحلال السعوديين في وظائف هامشية ذات إنتاجية متدنية وإلى زيادة التكاليف الإنتاجية في الاقتصاد الوطني، وهذه أمور تؤدي جميعها إلى إضعاف الاقتصاد الوطني والحد من قدرته على النمو وعلى المنافسة وعلى خلق وظائف مستقبلية، وهذا بدوره، يؤدي إلى مستوى عال من البطالة تحمل في طياتها بذور أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية.
إن الحل الناجع في نظرنا هو في تبني الدولة سياسة للسعودة تقوم أولاً وقبل كل شيء على اضطلاع الدولة بمسؤولية تأهيل المواطن السعودي تأهيلاً علمياً ومهنياً عالياً، يتناسب مع احتياجات الاقتصاد الوطني الحالية والمستقبلية، وهذا أمر لن يستطيع أي قطاع خاص في أي مكان في العالم القيام به، لأنه أمر يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للدولة تجاه مواطنيها بعد مسؤولية الأمن والدفاع، وفي كثير من الأحيان يكون الأمر الأول أهم. إن على القطاع الخاص واجب الدعم والمشاركة والمساندة المادية والمعنوية لخطة الدولة ولكنه لن يكون بأي حال من الأحوال بديلاً عنها في أداء دورها تجاه الأمة.
إن قيام الدولة بواجبها الرئيس في إعداد المواطن إعداداً علمياً ومهنياً ليصبح عاملاً منتجاً في بناء حياته الخاصة ومساهماً منتجاً في بناء الأمة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، يتطلب إرادة سياسة علياً واضحة وقوية في هذا الشأن يرصد لتحقيقها بلايين الريالات ويعد لها تنظيماً يتخطى كل العقبات الإدارية والمالية الموسوم بها حالياً نظامنا الحكومي. إن تم ذلك نكون قد قطعنا شوطاً كبيراً وأساسياً في تأمين العمل ولقمة العيش الكريمة للمواطن من خلال مشاركته الفاعلة والإيجابية في زيادة الإنتاج الاقتصادي العام وفي زيادة إنتاجه ودخله الخاص، وإن لم نفعل وهذه حالنا اليوم سنظل نردد قول الشاعر العربي:
"وكل يدعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك"
|