توطين العقول أم توطين التقنية
تتسابق دول العالم المتقدم على استقطاب الكفاءات العلمية والمهنية وأصحاب رؤوس الأموال وتوفر لهم البيئة المناسبة للعمل والإنتاج لعلمها بالأثر الإيجابي لوجود هؤلاء وزيادة أعدادهم في المجتمع على الناتج المحلي والإنتاجية ومستويات المعيشة والدخول والتقدم في مناحي الحياة المختلفة.
ونجد في الدول النامية نقيض ذلك، فغالبيتها تنتهج سياسات لا تساعد على استقطاب الكفاءات الأجنبية وحسب، بل تعمل على طرد الكفاءات والخبرات المحلية إلى الخارج، وهي بذلك تتناقض مع نفسها وتفرغ دعوتها لزيادة معدلات النمو الاقتصادي وتحسين مستويات معيشة سكانها من مضمونها.
وإذا كان استقطاب الاستثمارات الأجنبية عاملاً مساعداً على تحقيق مزيد من النمو الاقتصادي فإن استقطاب الكفاءات والخبرات والكوادر لا يقل لأهمية عن ذلك. ويؤكد هذا ما هو متاح من إحصاءات والتي تبين أن أكثر من ثلث أساتذة الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية هم من الأجانب، بعضهم درس وتخرج فيها وآخرون جاءوا مباشرة من بلدانهم وأن كثيراً من البارزين في مجالات مختلفة ممن يعملون في الولايات المتحدة الأمريكية هم من غير الأمريكيين ولإدراكهم بأهمية جذب الكفاءات فقد أوصت السلطات التشريعية في فترة من الفترات بإعطاء تسهيلات ومنح الجنسية الأمريكية للمختصين في بعض مجالات الحاسب ممن يرغبون في العمل في أمريكا وفق شروط معينة ويتم سنوياً منح عشرات الآلاف من الأجانب الجنسيتين الأمريكية والكندية ممن يحملون تأهيلاً معيناً أو لديهم رأس مال مناسب.
وما يقال عن الولايات المتحدة الأمريكية وكندا يقال عن دول أوروبا الغربية واستراليا والتي تسعى إلى جذب الكفاءات التي تحتاجها وإلى توطينها.
وحتى تكون الصورة مكتملة فإن الدول النامية بشكل عام بحاجة إضافة إلى هذا التعرف على المتفوقين والموهوبين من أبنائها وبناتها وممن يقيمون على أرضها ورعايتهم والاهتمام بهم بأساليب موضوعية وجادة بعيداً عن المحاباة ومظاهر التفاخر والبرستيج التي تحول البرامج والمشاريع المخصصة لدعمهم إلى سلع ومنتجات استهلاكية ضررها أكثر من نفعها بدلاً من أن تكون استثمارية تعود بالنفع على المجتمع.
علاوة على ذلك فالمجتمع بحاجة للمحافظة على ما هو متاح لديه الآن من كفاءات وعدم التفريط فيها بأي شكل من الأشكال.
هذه الوصفة بمكوناتها الثلاث ليست رؤى وأفكاراً جدلية، بل هو واقع مطبق منذ عشرات السنين وهي إحدى الركائز المهمة للرقي بمستوى المعيشة في الدول المتقدمة. لكن مشكلة الدول النامية في كونها تنظر إلى آثار النمو الاقتصادي ونتائجه ولا تلتفت إلى محركه ومشغله. ويصل بها الأمر أحياناً أن تفسد بيد ما تحاول اليد الأخرى إصلاحه عندما تحرص على الجوانب المادية لعملية التنمية الاقتصادية وتهمل أو تؤثر سلباً على الجانب البشري وأصبح لدينا اتجاهان متعاكسان الأول من الغرب إلى الشرق أو من الشمال إلى الجنوب لنقل السلع والخدمات والاتجاه المعاكس لـه لنقل الكفاءات والخبرات وكل واحد منهما يدعم الآخر.
|