من أجل "فصاحة" نفطية
يتساءل البعض، بما في ذلك الصحافيون، عما يتصورونه تناقضاً في معطيات أسواق النفط العالمية. فكيف لأسعار النفط أن ترتفع والجميع يتوقع انخفاضاً في نمو الطلب على النفط؟ وكيف لأسعار النفط أن ترتفع وهناك ارتفاع في مخزونات الدول المستهلكة؟ ولماذا تخاف دول "أوبك" من تأثير ارتفاع أسعار النفط في الاقتصاد العالمي ومحافظ البنك المركزي الأمريكي يرى أنه حتى لو ارتفعت أسعار النفط إلى 80 دولاراً للبرميل فإنها لن تؤدي إلى انكماش الاقتصاد الأمريكي؟ لتوضيح ما يبدو "تناقضاً" لابد من "فذلكة" نقطية هدفها نشر "الفصاحة" النفطية في زمن لا نقرأ فيه عن نفطنا "العربي" إلا من مقالات أعجمية "مترجمة" افتقدت فصاحة اللسان، وفصاحة المعنى، وفصاحة المصطلح! مقالات أصبحت فيها "الطفرة" "صدمة"، و"المنتج" "كارتل"، والأسعار المستقبلية "فيوتشرز"!
انخفاض نمو الطلب العالمي على النفط
يتساءل البعض عن سبب ارتفاع أسعار النفط رغم تخفيض كل من وكالة الطاقة و"أوبك" وغيرهما لتوقعاتهما المتعلقة بالطلبية المستقبلية على النفط، خاصة طلب الصين والولايات المتحدة. هنا لابد من التفريق بين "الطلب على النفط" و"نمو الطلب على النفط". فالتعديلات التي قامت بها وكالة الطاقة و"أوبك" في الفترات الأخيرة تتعلق بـ"نمو" الطلب على النفط، ولي بـ"الطلب على النفط". فعلى سبيل المثال، لنفرض أن وكالة الطاقة توقعت في بداية العام الحالي نمو الطلب العالمي على النفط عام 2005 بمقدار مليوني برميل يومياً ثم قامت في الشهر الماضي بتخفيض هذا التوقع إلى 1.8 مليون برميل يومياً. إن هذا يعني أن الوكالة خفضت توقعاتها لـ"نمو" الطلب على النفط بمقدار 200 ألف برميل يومياً، ولكن الطلب سيظل ينمو بمقدار 1.8 مليون برميل يومياً. وستبقى أسعار النفط مرتفعة رغم هذا التخفيض، لأن هناك زيادة حقيقية متوقعة في الطلب بمقدار 1.8 مليون برميل يومياً. إضافة إلى ذلك فإننا لا ندري إذا كان هذا التخفيض ناتجاً من انخفاض فعلي في الطلب أو عن خطأ في تقدير الطلب.
ارتفاع المخزون في الدول المستهلكة
كما يتساءل البعض عن سبب ارتفاع أسعار النفط رغم ارتفاع مستويات المخزون في الدول المستهلكة في الأشهر الأخيرة. هنا لابد من التفريق بين زيادة المخزون المطلقة والزيادة النسبية. فالبيانات تشير إلى زيادة مطلقة في المخزون، ولكن هذه الزيادة غير كافية لمقابلة الطلب المتزايد على النفط، ما يعني انخفاضاً نسبياً في المخزون، الأمر الذي يفسر ارتفاع أسعار النفط. فإذا زاد المخزون بمقدار مليون برميل وبشكل مستمر لمدة خمسة أسابيع، فإن هناك زيادة مطلقة قدرها خمسة ملايين برميل. ولكن إذا كان هناك زيادة كيرة في الطلب على النفط بحيث يصبح عدد الأيام التي يغطيها المخزون 52 يوماً مثلاً بدلاً من 54 يوماً، فإن هناك انخفاضاً نسبياً في المخزون، رغم الزيادة المطلقة فيه. لهذا فإنه يجب النظر إلى المخزون كنسبة من الطلب، وليس كرقم مطلق يقارن بمستويات المخزون في الماضي.
الاقتصاد الأمريكي وأسعار النفط
ذكر ألن جرينسبان محافظ البنك المركزي الأمريكي منذ فترة ما معناه أن ارتفاع أسعار النفط حتى إلى 80 دولاراً للبرميل لن يؤثر في الاقتصاد الأمريكي. على إثر ذلك فهم بعض العرب من هذه العبارة أن على دول الخليج أن ترفع أسعار النفط لأنه حتى ألن جرينسبان يقول إنها لن تؤثر في الاقتصاد الأمريكي، وهذا فهم خاطئ لمقولة ألن جرينسبان، وإسقاط في غر محله، ليس لأن هؤلاء اعتمدوا على العبارات المترجمة فقط، بل لأنهم نظروا إليها من خلفية معينة أسقطوا العبارة عليها، بدلاً من النظر إليها من خلال المفهوم الأمريكي. إضافة إلى ذلك فإنهم أخذوا الجملة التي تناسبهم من خطاب ألن جرينسبان، ونسوا البقية التي توضح التكلفة الباهظة التي يتكبدها الاقتصاد الأمريكي حالياً نتيجة ارتفاع أسعار النفط، التي قد ينتج عنها انخفاض الطلب الأمريكي على النفط الخليجي.
إن عبارة ألن جرينسبان تعني أن هناك قوى تسهم إيجابياً في الاقتصاد الأمريكي، وأن القوى المعاكسة المتمثلة في ارتفاع أسعار النفط لن تحيد "كل" هذا التأثير الإيجابي وتحول النمو إلى كسادإلا إذا ارتفعت إلى أكثر من 80 دولاراً للبرميل. فالسياسات المالية والنقدية التي تتبناها الحكومة الأمريكية تحمي الاقتصاد الأمريكي من "صدمة قاتلة" تسببها أسعار النفط حتى لو بلغت الأسعار 80 دولاراً للبرميل. بعبارة أخرى، لو أخذ إنسان لقاحاً ضد مرض معين، هل علينا أن نصيبه بالمرض لمجرد أنه أخذ اللقاح؟
إضافة إلى ذلك فإن ألن جرينسبان ذكر في الخطاب نفسه وفي تصريحات مختلفة أن ارتفاع أسعار النفط "يخفف" من مستويات النمو الاقتصادي، وإن كان بدرجة أقل مما كان عليه في السبعينيات. وأكد في أكثر من مرة أن ارتفاع أسعار النفط بمقدار عشرة دولارات للبرميل يخفف من النمو الاقتصادي بأقل 0.04 في المائة.
إذاً عبارة ألن جرينسبان تعني أن ارتفاع أسعار النفط تهز الاقتصاد الأمريكي وتصيبه بالمرض، ولكنه سيظل يعمل لأن قدرته على الاستمرار بالعمل رغم المرض أكبر من ذي قبل. ومع ذلك فإنه قد ينهار ويتوقف عن العمل إذا انخفضت مناعته من جهة (متمثلة في السياسات المالية والنقدية)، أو كانت الضربة المسببة للمرض كبيرة (مثل ارتفاع أسعار النفط إلى 80 دولاراً للبرميل). بناء على ما سبق فإن تخوف دول "أوبك" من أثر ارتفاع أسعار النفط على الاقتصاد الأمريكي مهم، ليس لأنه قد يؤدي إلى الكساد فقط، ولكنه يؤدي إلى تخفيض معدلات النمو الاقتصادي، وبالتالي انخفاض الطلب على النفط، الذي بدوره يخفض عائدات الدول النفطية.
|