النفط .. السلعة الاستراتيجية للتنمية
حينما تلوح بداية أزمة في المعروض من النفط في الأسواق العالمية. يتحرك بسرعة وزير أكبر دولة نفطية في العالم المهندس علي النعيمي ويدلي بتصريح إعلامي يقول فيه: إن المملكة سوف تزيد من إنتاجها للمساعدة في كبح ارتفاعات الأسعار.
وفي كل مناسبة أستمع فيها إلى هذا التصريح أصاب بالجزع والفزع والغضب، وكنت أتمنى أن تكون وراء هذه التصريحات أسباب اقتصادية وموضوعية وليست أسباباً استرضائية وسياسية، لأن النفط – بالنسبة للاقتصاد السعودي – ليس سلعة للفزعة والمجاملة، بل هو سلعة استراتيجية مرتبطة بالتنمية المستدامة للأجيال الحالية والأجيال المقبلة.
بمعنى أن تعاملنا مع هذه السلعة يجب أن يقوم على أساس المصلحة الوطنية العليا التي يجب أن تسبق المصلحة الكونية الدنيا.
المفروض أن يضخ هذا الذهب الأسود في شرايين اقتصادنا الوطني ويوفر للأجيال المقبلة الأموال والشغل من أجل معدلات عالية في التنمية، ولذلك فإن أوجب واجباتنا هو أن نقنن استراتيجية هذه السلعة ونحافظ عليها حتى نمضي بمسيرة التنمية إلى سنوات مديدة تستظل بظلالها أكبر شريحة من الأجيال المقبلة.
وإذا كنا نقدر مسؤوليتنا تجاه الاقتصاد العالمي وهي مسؤولية لا ننكرها، فإن هذه المسؤولية يجب أن تتناغم مع المصالح العليا لوطننا الأغر.
إن سياستنا النفطية يجب أن تقوم على أساس أن النفط سلعة استراتيجية ويجب أن تخضع عند بيعها للعوامل الاقتصادية الموضوعية التي تحدد الكميات التي يجب أن نطرحها في السوق والأسعار المجزية التي تحددها قوى العرض والطلب.
أما القول إننا نضخ في السوق العالمية أقصى ما يمكن أن نضخ بصرف النظر عن حجم احتياجنا إلى المال. فهذا يعني أننا نتصرف بشيء فيه الكثير من التبذير إزاء سلعة استراتيجية سوف نحاسب على التفريط فيها في المستقبل ولاسيما أننا لن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نواجه الطلب الذي ازداد بـ4.5 مليون برميل يومياً خلال عامي 2004 و2005، وينتظر أن يزداد الطلب بالكمية نفسها في السنوات القليلة المقبلة.
ولذلك لا أجد مبرراً موضوعياً لتصريحات المهندس علي النعيمي التي يطلقها كلما ارتفعت أسعار النفط، ويقول بالفم الملآن: إننا سوف نضع إنتاجنا تحت تصرف السوق العالمية، وكنت أتمنى أن أسمع منه أن المملكة تضخ النفط في السوق العالمية وفقاً لمعايير اقتصادية تتمشى مع مصالحها الوطنية العليا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو متى كان الغرب حريصاً على مصالحنا الوطنية حتى نكون نحن أحرص منه على مصالحه الوطنية؟!
إن جوهر قضية الارتفاعات في أسعار النفط حتى تجوزت الـ60 دولاراً للبرميل الواحد. هو سلسلة من التصرفات الأمريكية الخاطئة. وفي تقدير الكثير من الخبراء أن ارتفاع أسعار برميل النفط من 38 دولاراً إلى 60 دولاراً خلال عام 2004، 2005م يأتي معاكساً للتقديرات الأمريكية التي كانت تظن وهي تحضر لقرار غزو العراق أن متغير النفط خلال الغزو سيكون متغيراً ثابتاً، بل ظنت الولايات المتحدة. وهي مخطئة. أن آبار النفط في العراق سوف تفتح فاهها وتبسط ملاءتها للإدارة الأمريكية وللشركات الأنجلو أمريكية لتغرف منها ما شاء لها أن تغرف وتتزود (وتقدرون!).
ولكن ما حدث هو عكس كل التقديرات الأمريكية فالآبار العراقية أغلقت أمام جحافل الغزو الأمريكي إما بفعل أعمال التخريب التي تقوم بها المقاومة أو المخربون، أو لأن كثيراً من المنشآت النفطية العراقية تجاوزت العمر الافتراضي للتشغيل الكفء، وباتت في حاجة إلى إحلال وتجديد.
أما العنصر الخارجي الذي أغفلته غرف صناعة القرار في الإدارة الأمريكية فهو معدلات الزيادة في الطلب على النفط من قبل الصين والهند ومن قبل دول النمور الآسيوية ومن قبل أمريكا نفسها.
والنتيجة أن الولايات المتحدة الأمريكية وقعت منذ أن اتخذت قرار غزو العراق ضحية تقديرات خاطئة أدت إلى تورط العالم في ارتفاعات مجنونة في أسعار النفط.
وبعد أن تورطت الدول الصناعية في وحل القرارات الأمريكية الخاطئة تحاول هذه الدول الآن تحميل دول "أوبك" مسؤولية ارتفاعات أسعار النفط متجاهلة تماماً القرارات الأمريكية والبريطانية الخاطئة ابتداء من غزو العراق وتوتير الوضع في فلسطين وفي إيران، وتسويق ما يسمى بالديمقراطية وحقوق الإنسان ثم طرح مشروع الشرق الأوسط الكبير المحفوف بالكثير من المخاطر على إمدادات النفط في الأسواق العالمية.
وللتذكير فقط، فإنه عندما انخفضت أسعار النفط في عام 1986 من 28 دولاراً إلى 13 ثم استقرت في عام 1987 حول 18 دولاراً ساد نوع من توافق الرأي بين المنتجين والمستهلكين لأن هذا السعر يعتبر سعراً عادلاً بالنسبة للجانبين بشرط المحافظة على قيمته الحقيقية. وكان من مقتضى ذلك أن يتدرج السعر الاسمي ارتفاعاً للحفاظ على قيمته الحقيقية. ولكن ما حدث أن السعر الاسمي ظل يتراوح حول 18 دولاراً للبرميل طوال عقد التسعينيات بينما انخفضت قيمته الحقيقية إلى ما يعادل 4.50 دولار بدولارات عام 1973 الذي صححت فيه الأسعار لتبلغ 12 دولاراً.
إن الدول الصناعية الغربية المستوردة للنفط لا تسمح إطلاقاً أن ينتقل الانخفاض الذي يطرأ على أسعار النفط الخام، سواء في قيمته الاسمية أو في قيمته الحقيقية. إلى المستهلك النهائي، بل ظلت تلك الدول تقتنص الانخفاض في تلك القيمة لتغذية خزائنها بالضرائب، حيث ارتفعت الضرائب المفروضة في أوروبا على المنتجات النفطية من نحو 22 دولاراً في عام 1987م إلى نحو 65 دولاراً على مدى عقد التسعينيات.
وبالنسبة للوضع في الساحة العراقية التي ترتبط – بصورة مباشرة – بالأزمة النفطية، فإن بريطانيا سربت – في الأسبوع الماضي – وثيقة ألمحت فيها إلى أنها مع الولايات المتحدة سوف يتخذان خطوة مهمة في بحر عام 2006 نحو سحب نصف قواتهما من العراق.
كما أشارت الوثيقة إلى أن الولايات المتحدة بدأت تواجه مأزقاً حقيقياً في العراق بعد تخطي قتلى الجيش الأمريكي حاجز الـ1700 قتيل، ولقد اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أن الحرب في أفغانستان والعراق قللت من القدرات الأمريكية في مواجهة الأخطار الخارجية وحملت الاقتصاد الأمريكي أعباء ثقيلة. وذكرت صحيفة "الواشنطن بوست" التي نقلت أجزاء من التقرير الذي قدمه رئيس الأركان الأمريكي الجنرال ريتشارد مايرز إلى الكونجرس الأمريكي أنه نادراً ما يقدم شخص في ثقل مايرز هذا التقرير الذي يتضمن اعترافات بتقليص قدرة الجيش الأمريكي في حملته الخاصة بالحرب على الإرهاب نتيجة للمقاومة العراقية.
كما كشفت الصحيفة النقاب عن تراجع أعداد المتقدمين للالتحاق بالجيش الأمريكي بنسبة كبيرة منذ الحرب على العراق، حيث تشير الإحصائيات الصادرة عن الجيش الأمريكي تراجع نسبة المتقدمين للالتحاق بالجيش عن المعدلات المعتادة، حيث بلغت نسبة عدد المتقدمين 60 في المائة فقط من النسبة المطلوبة، وفي الوقت نفسه فإن الاقتصاد الأمريكي لم يكن بعيداً عن هذه الشروخ التي تعاني منها القوات الأمريكية. بل إن الاقتصاد الأمريكي. بسبب العجز في ميزانياته. لم يعد ممولاً جيداً لإصلاحات ضرورية في هياكل القوات المسلحة التي بدأت تعاني بشكل واضح من ضعف وهزال.
ولعل من الأسباب المهمة لتسريب هذه الأخبار هو أن الإدارتين البريطانية والأمريكية بدأتا تشعران أنهما تورطتا في وحل المقاومة العراقية، وأن أزمة أسعار النفط سوف تتصاعد وفقاً لما جاء في التقرير الذي نشرته وكالة الطاقة الدولية في الشهر الماضي وألمحت إلى أن العجز في المعروض من النفط سوف يصل إلى نحو 19 مليون برميل يومياً بحلول عام 2020.
وإزار هذا العجز الهائل لن تستطيع دول "أوبك" ولا الدول من خارج "أوبك" توفير الكميات المطلوبة من النفط، وليس أمام العالم إلا البحث عن بدائل جديدة للطاقة، وفي أسرع وقت ممكن، وإلا فإن أسعار النفط سوف تضرب في العالي حتى تصل إلى 100 دولار للبرميل الواحد.
إن السعودية ومعها مجموعة دول "أوبك" ليست مسؤولة عن قصور إمدادات النفط حتى تفرغ آبارها كيفما اتفق، ولاسيما أن النفط سلعة ناضبة، ومادام أن العجز في المعروض من النفط بعد 15 عاماً سوف يصل إلى 19 مليون برميل يومياً، فإن العالم لا محالة سوف يواجه مشكلة عصيبة تتطلب من جميع الدول المنتجة والمستهلكة البحث عن حلول عادلة وناجزة.
|