تزداد الصورة كل يوم وضوحا, تكشف عن خطط وأهداف القوي والجماعات السياسية الطفيلية التي لم تشارك في ثورة الشباب المصري لكنها تسعي إلي ركوب موجتها, وتدخل الآن علنا وجهارا لتوجه مسار الأحداث في ميدان التحرير, تدعو الشباب إلي الاستمرار في اعتصامهم, وتحص علي مسيرة حاشدة جديدة, تستثمر حرص القوات المسلحة علي أن تمد حبال الصبر إلي نهايتها, وعلي أن تتجنب التورط في صراع يمكن أن يشعل فتيل حرب أهلية, وتخطط لعملية انقضاض أخيرة علي السلطة سوف تسبقها بالضرورة محاولة تمزيق قدرة الجيش علي الردع, كما حدث في إيران مع بداية ثورة خميني.
وما يزيد من وضوح الصورة, أنه لم تعد هناك من مطالب أو شعارات جديدة يمكن أن يرفعها المتظاهرون بعد أن لبي خطاب الرئيس مبارك, وتأكيدات نائبه عمر سليمان, وتعهدات رئيس مجلس الوزراء الجديد أحمد شفيق جميع مطالب ثورة الشباب, ولم يعد هناك من مطالب أخري سوي أن يفرض المتظاهرون علي المصريين الإذعان لمطلب غير شرعي وغير دستوري, لا يحظي بأي مساندة جماهيرية واسعة أو حقيقية, يدعو إلي نفي الرئيس مبارك قسرا خارج وطنه دون أي مسوغات تبرر ذلك, خصوصا أن بقاء الرئيس مبارك في موقعه حتي نهاية فترته الدستورية بعد ثمانية أشهر, يضمن انتقالا آمنا وسلسا للسلطة في إطار برنامج زمني ضاغط, يضع حدا زمنيا لإنهاء الحوار الوطني بين القوي السياسية والحكم لضمان تحقيق هذا الانتقال الرشيدة لا يزيد علي عشرة أيام, ويتيح لمجلس الشعب تصحيح عقوبته من خلال تطبيق أحكام القانون, ويمكن المجلسين الشوري والشعب من مناقشة وتمرير التعديلات الدستورية الجديدة, المطلوب لإجراء انتخابات رئاسية جديدة يتسع فيها حق الترشيح لهذا بعض المرموق لكل من تتوافر له شروط ومواصفات المنصب مع تحديد فترة الحكم بفترتين اثنتين.
وأظن أن الغالبية العظمي من الشعب المصري تتفق الآن علي أن الانتقال الآمن للسلطة في إطار الالتزامات التي أعلن عنها الحكم يلبي مطالب ثورة الشباب, بما يستوجب أن يعود إلي الوطن أمنه وأمانه, ووقف نزيف الخسائر الفادحة التي سوف تدفع مصر ثمنها من مستقبلها, وحقن دماء الشباب المصري المنقسم علي نفسه, كما أنه يعطي نموذجا لشعب متحضر يحرص علي الحفاظ علي كرامة رئيس شرعي منتخب أدي واجبه تجاه وطنه, وحارب من أجله, وسعي إلي الحفاظ علي سلامته وأمنه, ولم يفرط في حبة رمل من ترابه, وفتح الأبواب علي مصراعيها لحرية الرأي والتعبير.
وأظن أيضا أن التمسك بالشرعية الدستورية وإتاحة الفرصة أمام الرئيس كي ينجز بنفسه هذا الانتقال الآمن للسلطة تحت رقابة شعبية يمثل وقفة مصرية مهمة ضد مطالب الخارج خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي تتصور أن مصر يمكن أن تذعن لأوامرها في شأن داخلي يتعلق بمستقبلها, علي حين عجزت عن إلزام إسرائيل بوقف عمليات بناء المستوطنات في أرض الضفة والقدس الشرقية, كما عجزت عن أن تقول لا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو الذي وجه أكثر من صفعة لأعلي مستويات الحكم في واشنطن بمن في ذلك الرئيس أوباما ونائبه, لكن واشنطن لم تملك سوي الإذعان لمطالب نيتانياهو برغم خطورة ذلك علي أمن ومصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعالم العربي.
ولا أظن أن الشعب أو الجيش المصري سوف يذعنان لمطلب ترحيل الرئيس عن وطنه قسرا الذي تريد أن تفرضه مجموعة من السياسيين الصغار تسعي إلي سرقة ثورة الشباب الحر واعتلاء موجتها, لأن الإذعان لهذا المطلب يعني إدخال مصر في مرحلة جديدة من الفوضي يصعب علي أي قوة رشيدة أن تضبط مسار أحداثها, أو تتيقن من نتائجها, ولا أظن أيضا أن الموقف الأمريكي الذي فقد مصداقيته واتسم بالعجز والضعف وقلة الحيلة إزاء تصرفات صقور إسرائيل يمكن أن يلقي أي مساندة شعبية مصرية, خصوصا أنه يضرب الديمقراطية في الصميم, ويحرم المصريين من أن يقدموا نموذجا حضاريا يلبي مطلب التغيير وأهدافه, ويحفظ للشعب المصري أصالته وحضارته, ويترفع عن الغدر برئيس وطني خدم بلاده استجابة لطلب ديماجوجي يرفضه غالبية المصريين.
وإذا كان البعض يتصور أن رحيل الرئيس مبارك يشكل ضمانة للوفاء بكل المطالب التي رفضتها ثورة الشباب فهو واهم, لأن إذعان الشعب والجيش لهذا المطلب يفتح فقط أبواب الفوضي علي مصاريعها التي يمكن أن تساعد جماعة انقلابية منظمة نعرف جميعا أهدافها علي الانقضاض علي السلطة, والأمر المؤكد أن قضية ضمانات انتقال السلطة خلال الأشهر الثمانية المقبلة لم تعد تحتمل حملة التشكيك المفتعلة التي يثيرها البعض بعد التأكيدات العديدة التي صدرت عن نائب رئيس الجمهورية عمر سليمان ورئيس مجلس الوزراء أحمد شفيق, وقيادات القوات المسلحة التي أكدت في بيان علني تفهمها لمطالب الشباب وبعد الإجراءات العديدة التي تم إعلانها, لقد دعا نائب رئيس الجمهورية كل القوي الحزبية والسياسية بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين إلي حوار وطني شامل لا يستثني أحدا حول البرنامج الزمني المقترح لانتقال السلطة علي مدي المائتي يوم الباقية من فترة حكم الرئيس مبارك, لكن بعض القوي السياسية آثرت أن تتلكأ وتؤخر الحوار إلي ما بعد مسيرة أمس الجمعة علي أمل أن تساعد أحداث الجمعة علي تقوية موقفها التفاوضي وتتمكن من أن تطرح علي مائدة الحوار الوطني مطالب جديدة يمكن أن تزيد الموقف تعقيدا, خصوصا أن المصلحة الوطنية تفرض اختصار مدة الحوار والبدء في التنفيذ العملي لبرنامج نقل السلطة, لأن مصر لا تحتمل المزيد من الدمار والخراب ووقف الحال ودفع الأمور إلي حافة الانهيار الاقتصادي والسياسي, ولأن المصريين لايريدون المزيد من الفرقة, والمزيد من دماء الضحايا الأبرياء.
ويبقي السؤال المهم: هل تكون مظاهرة الجمعة التي طلب رئيس مجلس الوزراء تأمينها وحراستها هي المشهد الأخير في أحداث هذا المخاض الصعب ليعود الهدوء والاستقرار وتدخل مصر, موحدة الصفوف, ثابتة الخطوات إلي مرحلة جديدة من الديمقراطية المكتملة يحرسها شعب مصر وشبابها, وتشع ضياءها علي كل الشرق الأوسط والمنطقة العربية, أم أننا سوف نظل محلك سر عالقين في فوضي الموقف الراهن نستنزف دماءنا ومقدراتنا, ونترك أنفسنا تحت رحمة مصادفة سيئة, أو حادث عارض, أو مكيدة مدبرة تشعل فتيل الحرب الأهلية.
ولو قدر لمصر أن تدخل مرحلة الانتقال الآمن والسلس للسلطة نحو حكم ديمقراطي مكتمل فسوف تكون ثورة شباب مصر نموذجا لتغيير حقيقي يلهم كل منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي الطريق إلي ديمقراطية مكتملة, ونموذج جديد للحكم الديمقراطي الرشيد, لينهي صورا عديدة من الحكم الأوتوقراطي في العالم العربي, أما إذا ركبت الشياطين رءوس المتآمرين والمخططين للقفز علي السلطة, فأغلب الظن أن النتيجة المتوقعة هي المزيد من العزلة والخراب, وعدم الاستقرار, ليس في مصر وحدها, ولكن في معظم دول الشرق الأوسط باستثناء إسرائيل التي يبهجها ما يحدث الآن علي مسرح أحداث المنطقة العربية. الجميع يعانون من غياب الاستقرار.. الجميع منقسمون علي أنفسهم.. الجميع يعانون من غياب اليقين بمستقبلهم.. فقط إسرائيل هي الآمنة والمستقرة, تزداد شهيتها يوما وراء يوم للمزيد من التوسع علي حساب الأرض العربية.