بعدما تناولنا الجزء الأول و الثاني منها، نختم اليوم بالجزء الثالث والأخير من المقالة الطويلة، التي استعرض فيها المدون الشهير بول جراهام الأسباب التي قد تحول بين المرء منا وتدشين مشروعه الخاص، وسرد معها رده على هذه الأفكار – من واقع خبرته العملية في تمويل وتشجيع المشاريع الناشئة.
11 – لست مستعدًا للالتزام
يقر بول بأن حبه للحرية هو ما دفعه لعدم التفكير الجدي في بدء مشروعه الخاص، فهو لم يرد أن يرتبط بأي شيء لمدة تزيد عن بضعة شهور. يرى بول أن هذه الرغبة مشروعة ومقبولة ومبررة. إذا بدأت مشروعا ما، وحقق نجاحا، فأنت تتحدث عن فترة انشغال كامل ستمتد قرابة 3-4 سنوات (ما لم يفشل المشروع – وهو أمر وارد)، ولذا لا تبدأ إن لم تكن مستعدا لمثل هذه الفترة الطويل من الارتباط والالتزام.
على أنك من الجهة الأخرى إذا التزمت بوظيفة ما، فستأخذ منك ذات الوقت الذي كنت لتقضيه في رعاية مشروعك الخاص، ورغم كل ما تظنه، ستأخذ وظيفتك منك المزيد من الوقت والاهتمام والالتزام، رويدا رويدا ودون أن تشعر. وعليه، فمن الأفضل لك أن تستثمر هذا الوقت في مشروع أنت صاحبه.
12 – الحاجة إلى الوضوح والأمان
ليس سرًا رغبة الكثيرين في رؤية واضحة لحياتهم المستقبلية، خالية من المغامرات والمجازفات. أو بكلمات أخرى: وجود شخص يقول لهم ماذا يفعلون وكيف ومتى، دون مسؤولية تقع عليهم، مثلما الحال في وظائف الجيش والشرطة وغيرها. إذا كنت واحدا من هؤلاء الناس، دون أدني شك في وضوح رغبتك هذه، ساعتها من الفضل لك ألا تشرع في نشاط تجاري خاص، وأن تعمل لدى جهة مشهورة بالثبات التجاري والبعد عن المغامرات، ولا عيب في هذا الأمر.
عندما تبدأ مشروعك الخاص، فلن تجد من يملي عليك ما الواجب فعله، فأنت سيد القرار، بل ويقع عليك عبء إصدار الأوامر للغير. يرى بول أنه طالما كان عدد الموظفين أقل من 12، فلا حاجة لشخص يصدر الأوامر، ذلك أن على هؤلاء الاثنى عشر معرفة المطلوب منهم بكل دقة، وأن يفعلوا دون الحاجة لأوامر تصدر لهم.
سأل صحفي لاعب الكرة الشهير ديفيد بيكهام، كيف الحال في فريق الكرة الشهير ريال مدريد والذي يلعب له مشاهير ومحترفون قادمون من أكثر من 18 بلد مختلف، فرد بيكهام أن كل لاعب يعرف الدور المطلوب منه جيدا، ولذا لا حاجة لهم للحديث أو إصدار الأوامر فيما بينهم.
اعرف ما تريده جيدا، واذهب لتحقيقه!
13 – الخوف من عدم الاستقرار
يعزف قطاع كبير منا عن خوض غمار المشاريع الناشئة بسبب الغموض الذي يكتنف أقدراها. من يعمل لدى شركة راسخة – مثل مايكروسوفت مثلا – سيعرف ما ينتظره في فترة العامين المقبلين (على سبيل المثال)، بينما يتعلم من يبدأ مشروعا جديدا أن كل شيء يمكن أن يحدث.
إذا كنت ممن يبغضون الغموض، فأنت مرشح للفشل إذا بدأت مشروع تجاري. الأمر بسيط: تفاءل لأقصى درجة، وانتظر أسوأ ما يمكن أن يحدث. إذا جاءك الأسوأ فأنت توقعته، وإذا جاءك الأحسن، فأنت على طريق الثراء!
لا يملك أحد أن يلوم عليك إذا فشل مشروع التجاري، طالما اجتهدت وبذلت أقصى ما بإمكانك. التوجه الجديد الآن هو تقدير من بذلوا أقصى جهدهم في مشاريعهم، على من آثروا العيش في كنف الأمان الذي وفرته وظيفتهم.
14 – لا تعرف ما الذي تفوته
أحد أسباب نجاح من خرجوا إلى أحضان العالم الحقيقي الذي نعيشه لعام أو اثنين، مقارنة بمن بدؤوا مشاريعهم الخاصة عقب تخرجهم من التعليم، هو أن الفريق الأول جرب التوظف لدى الغير، وهم خرجوا من هذه التجربة عاقدين العزم على ألا يعودا لمثل هذا الوضع.
إذا كنت من الفئة المحظوظة بوظيفة صيفية، وخرجت منها زاعمًا العِلم بحقائق التوظف لدى الغير، فأنت واهم يا صديقي. الوظيفة الصيفية عادة ما تكون وسيلة للحصول على عمالة رخيصة، ولا ينتظر منك تحقيق الكثير، على عكس الأمر في حال الوظيفة الدائمة، فأنت مطالب بتبرير الراتب الشهري الذي تحصل عليه.
بعدما تحصل على وظيفة راتبة، ستبدأ الحقائق تتفتح أمام عينيك، فتكتشف مدى رتابة وملل دورك الذي تقوم به، ودون أن تشعر تبدأ ملكاتك وقدراتك في الخمول والضمور، لتناسب المجهود المطلوب منك.
عندما تعمل في مشروعك الخاص، يختفي كل ذلك، وتصبح حياتك الخاصة مختلطة بعملك فلا فرق بينهما، ولن يمانع أحد إذا أضفت الجانب الإنساني مع العمل، فتعمل وقتما تشاء، أينما تشاء، كيفما تشاء. عندما تكون رب العمل، فكل ما ترغب فيه هو المزيد من العمل، وليس حبًا منك في جمع المال فقط، لا وألف لا!
إذا أخذت غفوة من النوم في وسط نهار عمل، فلن يلوم عليك أحد، وسيظن شركاؤك والعاملون معم أن التعب قد حل عليك من كثرة المجهود. افعل شيئا مثل هذا في وظيفة راتبة، وأخبرني ماذا فعلوا بك!
15 – الأهل يريدوك أن تكون طبيبا
يلعب الأهل دورا كبيرًا ومؤثرًا وحيويًا، في قرار الفرد منا أي مهنة سيختارها، ولا يقف بول أمام هذه الرغبة العائلية. على أن بول يخبرنا أن الوظيفة المرموقة الآمنة قد لا تحقق تلك الرغبة العائلية في بعض الأحيان.
عادة ما يكون الأهل أكثر تحفظا مع أبنائهم أكثر مما يفعلوه مع أنفسهم، ولهذا يقلق الأهل بشكل أكبر من أي ضرر محتمل ينال من فلذات أكبادهم، ويركزون على هذه الجزئية، بشكل أكبر من تفكيرهم في احتمالات نجاح الأبناء، والهناء الذي سيقترن مع هذا النجاح.
يخاف الآباء على أبنائهم من المخاطرة، وبدون مخاطرة لن تكون هناك جوائز.
16 – الوظيفة هي المسار الطبيعي
لعل هذا أكثر الأسباب قوة، التي تدفع من يفكر في بدء نشاطه التجاري بعيدًا. نأتي إلى هذه الدنيا، أبناء لآباء من الطبقة العاملة، ونظن أن هذا هو الطبيعي – أن نبقى أُجراء أبدًا ما حيينا. استقر في أذهان الجميع (عدا أهل الإجرام بالطبع) أن السبيل للحصول على المال هو التوظف لدى الغير. لحسن الحظ، يعود هذا التقليد إلى بضعة مئات من السنين، ومن قبله كان التقليد أن الزراعة هي طريق الحصول على المال في البلاد الزراعية، (وأظنها رعي الأغنام في البلاد الصحراوية).
إذا كنت تنظر الآن بعين الاستغراب إلى بدء نشاطك الخاص، عد بالفكر للوراء حفنة مئات من السنين، وفكر في غرابة التوظف لدى الغير وقتها، في حين أن بإمكانك تأجير أرض لتزرعها في قريتك، وتمضي على ذات الدرب الذي من قبلك سار عليه أسلافك.
نحن الآن على أعتاب تغير مماثل في طريقة التفكير، فالمشاريع الناشئة تثير الاهتمام لأسباب عديدة، وليس فقط لأنها سبيل لجمع المال.
هنا حيث ينتهي كلام بول جراهام، والذي قصرت في تقديمه إليكم حين ترجمت مقالته تلك. مقالة بول هذه موجهة للشعب الأمريكي، وللبيئة الأمريكية، ولأننا لا نجد في وطننا العربي مفكرين أمثال بول جراهام، قمت بترجمة مقالته هذه، لنشر الفائدة، ولألفت الانتباه إلى ضرورة التفكير بشكل مختلف، شكل يماثل التغير السريع الذي يمتاز به عالمنا اليوم.
ولقد أسعدتني تعليقاتكم على الأجزاء السابقة بدرجة لا تتخيلوها، فمن أنا حتى يقضي بعضكم كل هذا الوقت في وضع تعليق طويل مثل ما تركتموه، فلكم جزيل وافر الشكر. وبما أننا في مجال المصارحة، فأرجو توضيح أني مجرد واحد من العامة، يحب مواضيع تطوير الذات، والنجاح وبدء النشاط الخاص، ولذا أحببت أن أفكر معكم بصوت عال، لا أكثر.
وفي ذات السياق، ولأني حاليا أعكف على مشروعي الخاص، والذي يتناسب مع مسؤولياتي وعليه سيأخذ الوقت الطويل حتى يعطي ثماره المرجوة، وحتى أحقق حريتي الكاملة، فأنا بحاجة لقصص نجاح أبطالها قراء مدونتي… لا أنتظر الكثير منكم، فأي قطرات تغيثون بها لهفتي ستؤدي الغرض.
نقطة أخيرة:
أعتذر لتأخري في طرح مواضيعي بشكل منتظم، فكما تعلمون محدثكم من الطبقة العاملة الكادحة البروليتاريا، تمضي بي الحياة بخيرها وشرها، بما يكاد يحول بيني وبين كتابة المواضيع أو الرد على تعليقاتكم في بعض الأحيان، فإذا حدث وتأخرت، فأملي دعاء منكم بأن يزيح الله عني وعن المسلمين، وألا تظنوا بي الكسل أو الإهمال، بل هو العمل وتبعاته.