الــحــمــدُ لــلــه وبــعــد .
إن من عقود البيع القديمة والمعروفة في كتب الفقهاء صورةً يقالُ لها : ضَـــعْ وتَــعَــجَّــلْ .
وفي هذا البحث البسيط سنبينُ صورةَ هذا البيع وأقوال العلماء فيه مع ذكر الرجح منها .
صُـــورتُـــهُ :
عرفه بعض أهل العلم : تعجيل الدين المؤجل في مقابل التنازل عن بعضه .
ويقال أيضا : التنازل عن جزء من الدين المؤجل ودفع الجزء الباقي في الحال .
خـــلافُ الـــعـــلـــمـــاءِ :
اختلف العلماء في حكم صورة هذا العقد على ثلاثة أقوال :
- الـــقـــولُ الأولُ :
جواز الوضع والتعجل .
- واستدلوا :
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج بني النضير قالوا : يا رسول الله ، إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل . قال : ضعوا وتعجلوا .
رواه الحاكم (2325) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
ورواه الطبراني في الأوسط .
وقال الهيثمي في المجمع : رواه الطبراني في الأوسط وفيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وقد وثق .
وقال ابن كثير في البداية والنهاية : وفي صحته نظر .
وقد أجازها من الصحابة ابن عباس رضي الله عنهما .
روى سعيد بن منصور ومن طريقه البيهقي (6/28) من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يقول : أعجل لك وتضع عني . وإسناده صحيح .
وقال بجوازها النخعي من التابعين وزُفر من أصحاب أبي حنيفة وأبو ثور من أصحاب الشافعي . وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قال في الاختيارات ( ص 134) : ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالا وهو رواية عن أحمد وحُكي قولا للشافعي .ا.هـ.
واخيتار تلميذه ابن القيم قال في إعلام الموقعين (3/371) : لأن هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل وهذا يتضمن راءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل فسقط بعض بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل فانتفع به كل واحد منهما ولم يكن ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا . فإن الربا الزيادة وهي منتفية هنها . والذين حرموا ذلك قاسوه على الربا ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله : " إما أن تربي وإما أن تقضي " وبين قوله : " عجل لي وأهب لك مئة " . فأين أحدهما من الآخر ؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح .ا.هـ.
وافتى بجواز هذه الصورة المجمع الفقهي وكثير من الهيئات الشرعية وهذه بعض الفتاوى :
منظمة المؤتمر الإسلامي - مجمع الفقه الإسلامي قرارات وتوصيات مجلس مجمع الفقه الإسلامي - الدورة الأولى حتى الدورة الثامنة بعد الاطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع : ( البيع بالتقسيط ) وبعد الاستماع إلى المناقشات التي دارت حوله .
تقرر :
الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله سواء أكانت بطلب الدائن أم المدين ضع وتعجل جائزة شرعا لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسرا إذا اعتبر الدين حالا لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي ضابط الإعسار الذي يوجب الانتظار ألا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقدا وعينا .ا.هـ.
مجموعة فتاوى الهيئة الشرعية - شركة الراجحي المصرفية للاستثمار قرار رقم ( 1 )
السؤال :
نرجو إبداء الرأي الشرعي حول السؤال المقدم من الشركة المتضمن أن الشركة باعت على أحد العملاء بضاعة على أن يدفع القيمة بعد ستة أشهر ووقع العميل كمبيالة مؤجلة الدفع في التاريخ المذكور وبعد مضي شهرين من توقيع العقد رغب العميل في دفع قيمة البضاعة قبل حول الأجل وطلب أن يوضع عنه بعض المستحق عليه مقابل تعجيل الدفع فهل يجوز إعادة جزء من المستحق عليه مقابل تعجيل الدفع ؟
الجواب :
وبعد تداول الهيئة للسؤال وأقوال أهل العلم انتهت الهيئة إلى أن ذلك جائز لما ورد عن رسول الله أنه لما أراد أن يجلي بنى النضير من المدينة ذكر له أن بينهم وبين الناس ديون فأمرهم أن يضعوا ويتعجلوا ( رواه أبو داود وغيره ) ( انظر إغاثة اللهفان حيث احتج به ابن قيم رحمه الله )
وقد روى جواز ذلك عن ابن عباس والنخعي والحسن وابن سيرين وهو راوية عن الإمام أحمد رحمه الله ووجه عند الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمهم الله قال ابن قيم رحمه الله : إن هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابله سقوط بعض الأجل فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل فانتفع به كل واحد منهما ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله إما أن تربى وإما أن تقضى وبين قوله عجل لي وأهب لك مائة فأين أحدهما من الأخر فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح انتهى مختصرا من حاشية ابن قاسم على الروض .
وقال الشيخ عبد الرحمن سعدي في كتابه المختارات الجلية من المسائل الفقهية : والصحيح جواز الصلح عن المؤجل ببعضه حالا لإنه لا دليل على المنع ولا محذور في هذا بل في ذلك مصلحة للقاضي والمقتضى فقد يحتاج من عليه الحق إلى الوفاء قبل حلوله وقد يحتاج صاحب الحق إلى حقه لعذر من الأعذار وفى تجويز هذا مصلحة ظاهرة وأما قياس المانعين لهذه المسألة بمسألة قلب الدين على المعسر فهذا القياس من أبعد الأقيسة وبين الأمرين من الفرق كما بين الظلم المحض والعدل الصريح انتهى مختصرا .
- الـــقـــولُ الـــثـــانـــي :
تحريم هذه الصورة .
وقال به عدد من الصحابة والتابعين ، وقال به جمهور العلماء من الأئمة الأربعة .
- واستدلوا :
قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان (2/12) :
واحتج المانعون بالأثر والمعنى - أما الآثار ففي سنن البيهقي عن المقداد بن الأسود قال : أسلفت رجلا مئة دينار فقلت له : عجل تسعين وأحط عشرة دنانير . فقال : نعم . فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : أكلت ربا مقداد وأطعمته . وفي سنده ضعف . وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل فيضع عنه صاحبه ويعجل له الآخر فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه . وصح عن أبي المنهال أنه سأل ابن عمر فقال : لرجل علي دين فقال لي : عجل لي لأضع عنك . قال : فنهاني عنه ..... ا.هـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية . مادة أجل . ما نصه :
واستدل جمهور الفقهاء على بطلان ذلك بشيئين :
أحدهما :
تسمية ابن عمر إياه ربا , ومثل ذلك لا يقال بالرأي وأسماء الشرع توقيف .
والثاني :
أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة ، فكانت الزيادة بدلا من الأجل ، فأبطله الله تعالى , وحرمه ، وقال : " وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ " [ البقرة : 279 ] وقال تعالى : " وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا " [ البقرة : 278 ] حظر أن يؤخذ للأجل عوض .
فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة ، فوضع عنه على أن يعجله ، فإنما جعل الحط مقابل الأجل ، فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله تعالى على تحريمه .
ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالة ، فقال له : أجلني وأزيدك فيها مائة درهم ، لا يجوز ، لأن المائة عوض من الأجل ، كذلك الحط في معنى الزيادة ، إذ جعله عوضا من الأجل ، وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال .
فحرمة ربا النساء ليست إلا لشبهة مبادلة المال بالأجل وإذا كانت شبهة الربا موجبة للحرمة فحقيقته أولى بذلك .
وأيضا فإنه لا يمكن حمل هذا على إسقاط الدائن لبعض حقه ، لأن المعجل لم يكن مستحقا بالعقد ، حتى يكون استيفاؤه استيفاء لبعض حقه ، والمعجل خير من المؤجل لا محالة ، فيكون ( فيما لو كانت له عليه ألف مؤجلة فصالحه على خمسمائة حالة ) خمسمائة في مقابل مثله من الدين ، وصفة التعجيل في مقابلة الباقي - وهو الخمسمائة - وذلك اعتياض عن الأجل ، وهو حرام .
- الـــقـــولُ الـــثـــالـــثُ :
يجوز ذلك في دين الكتابة ولا يجوز في غيره .
جاء في الموسوعة الفقهية . مادة أجل . ما نصه :
واستثنى من ذلك الحنفية والحنابلة ( وهو قول الخرقي من علمائهم ) أنه يجوز أن يصالح المولى مكاتبه على تعجيل بدل الكتابة في مقابل الحط منه ، وذلك لأن معنى الإرفاق فيما بينهما أظهر من معنى المعاوضة ، فلا يكون هذا في مقابلة الأجل ببعض المال ، ولكن إرفاق من المولى بحط بعض المال ، ومساهلة من المكاتب فيما بقي قبل حلول الأجل ليتوصل إلى شرف الحرية ، ولأن المعاملة هنا هي معاملة المكاتب مع سيده ، وهو يبيع بعض ماله ببعض ، فدخلت المسامحة فيه ، بخلاف غيره .
الـــقـــولُ الـــراجـــحُ :
وبعد ذكر هذه الأقوال في المسألة الذي يترجح - والعلم عند الله - هو القول الأول والذي يجيز هذه الصورة .
قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان في كتاب " الفرق بين البيع والربا في الشؤيعة الإسلامية " ( ص 21) :
والراجح ... وهو جواز ذلك مطلقا لأنه ليس مع من منعه دليل صحيح والأصل في المعاملات الصحة والجواز ما لم يدل دليل على التحريم ...ا.هـ
والـــلـــه أعـــلـــم .
رابط الموضوع