"خير ..اللهم اجعله خيراً " .. هكذا يقولون قبل الخوض في تفاصيل الأحلام..والحقيقة أن الأحلام من وجهة النظر النفسية هي من الظواهر الصحية الهامة لاحتفاظ عقلنا بلياقته أثناء النوم حتى لا يتكاسل حين نعود إلى اليقظة.
ونحن في ممارستنا للطب النفسي نلاحظ أهمية الأحلام من خلال ارتباطها بالحياة النفسية للمرضى والأصحاء على حد سواء..ومن خلال ما تعنيه بالنسبة للصحة النفسية حتى لو كانت مجرد أحلام غامضة .. وبالنسبة لنا كأطباء نفسيين فإن الحلم يمثل "الباب الملكي" لقراءة وفهم كثير مما يدور داخل العقل الباطن .. وهنا محاولة لإلقاء الضوء على بعض الجوانب النفسية للأحلام..
وقد كانت الموضوعات المتعلقة بظاهرة الأحلام ولا تزال محل اهتمام متزايد من جانب الأطباء النفسيين ، واتجهت الأبحاث إلى إخضاع الأحلام إلى دراسات علمية ومعملية لكشف الكثير من الغموض الذي يحيط بتفسير كيفية وأسباب حدوث الأحلام أثناء النوم، وفي بعض هذه التجارب تم متابعة أشخاص من المرضى والأصحاء أثناء النوم مع توصيل أقطاب ترصد نشاط العقل والجهاز العصبي خلال مراحل النوم على مدى ليلة كاملة أو أكثر ، وقد تبين أن الأحلام تحدث خلال مراحل معينة مع حركة العين السريعة Rapid eye movement ومدتها 10 دقائق تقريباً تتكرر مرة كل 90 دقيقة، ولعل ذلك هو السبب أننا نحلم بأشياء متعددة أثناء النوم ليلاً غير أننا لا نتذكر سوى آخر هذه الأحلام قبل أن نستيقظ في الصباح..
ويتم الحلم عادة على أحد مستويين.. الأول هو استدعاء بعض الأحداث التي مرت بنا خلال اليوم، أو الأشياء التي تشغل بالنا قبل النوم مباشرة.. أما المستوى الثاني فإنه أعمق ويتضمن الأفكار والرغبات والصراعات الكامنة في العقل الباطن من قبل..
والأشياء التي تظهر في أحلامنا عادة هي تعبير عن رغبات مكبوتة لا نستطيع إظهارها للآخرين في الواقع، أو بعض التطلعات والأمنيات التي ليس بمقدورنا الوصول إليها عملياً، وتكون الفرصة متاحة أثناء النوم للتنفيس عن هذه الأشياء وهى من محتويات العقل الباطن بما يحقق لنا الإشباع الذي نعجز عنه في الواقع أثناء اليقظة.
وليست الأحلام ظاهرة مرضية على الإطلاق .. بل على العكس من ذلك فإنها من وجهة النظر النفسية تعبير عن حالة الصحة النفسية المتوازنة.. لكننا بحكم ممارسة الطب النفسي نلاحظ أهمية الأحلام في شكوى المرضى المصابين بالاضطرابات النفسية المختلفة مثل القلق والاكتئاب والفصام، فالكوابيس Nightmares هي إحدى الشكاوى الرئيسية لمرضى القلق حيث تحول نومهم إلى معاناة أليمة لأنها دائماً تدور حول أحداث مخيفة تسبب الإزعاج، وفي مرضى الاكتئاب أيضاً تحدث الكوابيس بصفة متكررة أثناء النوم ويكون محتواها في كل الأحوال أحداث تبعث على الاكتئاب فيصحو المريض من نومه ويستقبل يومه وهو في أسوأ حالاته النفسية ، أما مرضى الفصام فتظهر في أحلامهم الأشباح والأصوات المخيفة التي تطاردهم أيضاً في حالة اليقظة .
ومن الحالات المرتبطة بالأحلام ما يطلق عليه " أحلام اليقظة " .. ومن خلال التسمية يتضح أنها حالة تشبه الحلم لكنها لا تحدث أثناء النوم.. حيث أن الشخص ينفصل عن الواقع إلى حالة من التخيل تشبه الحلم يتصور نفسه وقد حقق الكثير من الإنجازات ، أو يتخيل أنه يتقمص أحد الشخصيات المرموقة .. ويعيش في هذا الجو منفصلاً عن الواقع والظروف المحيطة لفترات متفاوتة.. والمشكلة هنا أن هذه الحالة تعوق الشخص عن أداء مسؤولياته حيث تضيع فيها طاقاته ووقته .. وتحدث هذه الحالة بصفة متكررة في الطلاب الذين يستعدون للامتحان، وفى المراهقين والشباب..
وبالنسبة لعلاقة الأحلام بالتنبؤ بالمستقبل فلا يستطيع أحد أن يعلم الغيب وأحداث المستقبل إلا الله سبحانه وتعالى.. لكن السؤال الذي يظل مطروحاً هو : ما العلاقة بين الحلم وبين الأحداث التي تقع في المستقبل!؟ .. وربما كان مبعث هذا السؤال أن هناك الآلاف من الأحلام كانت تدور حول أحداث وقعت لبعض الناس في المستقبل.. وأذكر أكثر من حالة من المرضى الذين تابعت حالتهم في العيادة النفسية يؤكدون أن الأحلام التي يرونها في نومهم تتحقق في الواقع فيما بعد في أكثر من مناسبة ..
والتفسير العلمي للأحلام التي تحمل بعض النبوءات لا يزال محل جدل، غير أن الحقيقة العلمية تؤكد أن هناك علاقة بين العقل الإنساني والبيئة المحيطة ، وتفاعله مع الآخرين في شعور عام يطلق عليه العقل الجمعي يتأثر بالأحداث العامة مثل حالة الحرب أو الرخاء وقد يستشعر حدوث بعض الأشياء نتيجة لاستمرار الإنسان وتوارث خبراته وعلاقته بالزمان والمكان..
ومن منظور إسلامي .. فإن الأحلام التي تحمل نبوءة للمستقبل قد ورد ذكرها في القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام فكانت رؤياه وهو صغير السن حول ما تحقق فيما بعد مع أبويه وأخوته ، ثم حلم فرعون الرمزي بالبقرات السمان والبقرات العجاف الذي تم تفسيره كإنذار مبكر، وتم التخطيط على أساس ذلك قبل أن يتحقق حرفياً على مدى سنوات تالية.. وفي القرآن الكريم أيضاً رؤية إبراهيم عليه السلام يذبح ولده إسماعيل عليه السلام ..
غير أن وصف بعض الأحلام بأنها "أضغاث أحلام" يدل على عدم أهميتها أو علاقتها المباشرة بأحداث المستقبل .. وفي المنظور الإسلامي أيضا ما يشير إلي ضرورة الابتعاد عن التشاؤم نتيجة لبعض الأحلام ذات المضمون المزعج أو التأثر بمحتواها وعدم توقع حدوث مكروه نتيجة لذلك في المستقبل.
ويطلب منا الكثير من المرضى والأصحاء تفسيراً للأحلام التي تحدث لهم أثناء النوم ، ويريد البعض أن يعرف مغزى الأحداث والأشخاص والرموز التي يراها في أحلامه ، وأن يعلم شيئا عن علاقتها بحالته النفسية أو بحياته بصفة عامة ، والواقع أن التفسير العلمي للأحلام يجب أن يأخذ في الاعتبار أن الحلم يتضمن تكثيفاً في ظاهرة الزمان والمكان .. بمعنى أننا أثناء النوم يمكن أن نحلم في دقائق معدودة بإحداث امتدت على مدى سنين طويلة وحدثت في أماكن مختلفة ومتباعدة ، كما أن الانفعالات النفسية مثل القلق والخوف والاكتئاب والغضب قد تكون وراء محتوى الحلم من أحداث وشخصيات وأماكن .. وكلها تعني شيئاً محدداً بالنسبة لصاحب الحلم .
وتتميز الأحلام أيضاً بمسألة الرموز .. ففي حلم فرعون كانت البقرات السمان رمزاً لسنوات الرخاء ، والبقرات العجاف رمزاً لسنوات القحط .. وفى حلم يوسف عليه السلام كانت الكواكب كالشمس والقمر تمثل الأخوة والأبوين .. وقد حاول فرويد في كتابه " تفسير الأحلام " التوسع في تفسير الرموز التي تشير إلى رؤية الأشياء المستديرة ، والمستطيلة في الأحلام بإشارات جنسية .. كما شهد مجال تفسير الأحلام الكثير من الاجتهادات لتحديد مغزى القطط والكلاب البيضاء والسوداء والثعابين وأنواع الطعام وغير ذلك .. ولا شك أن هناك من أساء استخدام العلم في تفسير الأحلام رغم كثرة المحاولات العلمية لجمع أعداد كبيرة من الحالات للوصول إلى قاعدة عامة تنطبق عليها .
وثمة كلمة أخيرة .. هي أن الأحلام ظاهرة صحية تفيد في الاحتفاظ بالتوازن العقلي والصحة النفسية، وعلينا ألا نجتهد في البحث عن تفسير لأحلامنا الغامضة المزعجة .. فإذا حلمت بأنك تقتل زوجتك مثلاً فلا تفعل ذلك لأن حلمك قد يكون انعكاساً لمتاعبك معها قبل أن تنام!!.. وأخر ما يقوله الطب النفسي حول الأحلام أننا يجب أن نتفاءل بالأحلام السعيدة .. ولا نهتم بالأحلام المزعجة، ويتفق ذلك مع المنظور الإسلامي للأحلام ..
مع تمنياتي للجميع بالأحلام الهادئة .. والصحة النفسية الدائمة.