لعنة مقدسة تلك التي حلت على الممثل السائر برهبة وخشوع فوق خيط الحقيقة الذهبي الفاصل بين تناقضات وجودنا، بين الظل والنور، الخيال والواقع، الموت والحياة..
رعب عميق يلفنا إذا فكرنا للحظة باْن وجودنا هو فقط ما نحن عليه في الواقع : كل يوم نستيقظ، نقف أمام المرآة ، نتنكر بأحد أنواع الألبسة ونخرج، لنرى أشخاصاً آخرين هم كائنات مثلنا انمسخ وجودها، تشكلت تدريجياً وصارت إلى ما هي عليه، مجرد إشارات وطرق تعبير وأشكال تمارس حياتها من تحت أقنعة ضجرت سكون الواقع، وعنفه ليس المادي أو الاجتماعي بل ثقله الموجود رغم أنفنا، الذي يفترسنا من كل الجهات ويخصي محاولاتنا الشعورية وربما اللاشعورية في اختبار جديد ما. لامهرب من صرامة هذا الواقع بمعطياته الاجتماعية والدينية والبيولوجية التي لم نخترها، وبنفس الوقت علينا أن نقتنع دائماً بأنها وجهنا الحقيقي فنسلّم به وبأحكام أخلاقه المتطرفة وسخرية قدره !!
هل نهرب؟ أم نغير؟.. ألا يحق لنا أن نرفض؟ أن نبصق في وجه هذا القدر ونسخر منه ولو مؤقتاً ؟ أن نتخيل بأننا أبطال وبأننا قادرين على الفعل؟ .. ألا يحق لنا أن نعري هذا الواقع الأسود لنظهر ما تحته من قطران أو ثلوج وألوان؟ دون أن نستفزه لنهشنا من جديد ووصمنا بالجنون...
" نعيم الممثل " : فردوسنا المفقود ..
مقابل ذلك العالم الواضح والرتيب هناك واقع آخر مشحون بنزوات ومشاكسات تتشوق لأن تتحرر من قيود الواقع رغم ألوانها الفاقعة. قد لا نملك جرأة الإعلان عنها لأنها تخجلنا أو ترعبنا ولكن إذا اختلينا بحرية مع أنفسنا فإن هناك جسراً يمتد إلى ذاك العالم الكثيف المليء بالرموز والتعقيدات والذي يسوده كائن آخر (أو أكثر) عجيب، لا يظهر إلى العالم الخارجي إلا متنكراً بثياب الأحلام أو الهذيان. كثيراً ما نستدعي هذا الآخر ساعة اليقظة ونحاوره أو أحياناً يفرض نفسه علينا في لحظات غضب أو حزن أو تشوش، لكن حوارنا هذا يبقى- بلغة نفسية- استبطاناً أو تأملاً داخلياً للأفكار والمشاعر وبلغة مسرحية مونولوجاً ذاتياً مدفوناً في اللاشعور، يعيش ظلامنا، ولا نجرؤ على الإفصاح عنه، لأننا قد لا نرى ضرورة لذلك، فيتلاشى الكائن الآخر في مكان ما داخلنا عند أول احتكاك بسيط له بالواقع.
لكن ماذا لو استطعنا تجسيد كل ما نفكر فيه أو نستبطنه على أرض الواقع وبين الآخرين؟ ماذا لو كانت كل نزوة ممكنة وكل رغبة محَققة وكل فكرة واقعة؟ : فوضى..؟ عالم غرائزي...؟ جحيم وجنون...؟ أم فردوس ونعيم؟
يبدو أن تحقيق ذلك من خلالنا محال، لكن إذا ما نظرنا فإننا سنعثر على شخص أنابه البشر منذ الأزل ليَعبُر بأمان فوق خيط الضوء الرفيع الفاصل بين الواقع والحلم بين ذاتنا الخارجية وذاتنا الضمنية، في عالم آخر متفرد تسبح فيه الأشياء في لا معقوليتها ضمن العالم العقلاني والصارم.
زمان آخر داخل الزمن ومكان آخر داخل المكان نشتهيه فيغرينا: "عالم الدراما" الممثلون هم مخلوقاته التي أوكلنا إليها تجسيد رغباتنا الآثمة والطيبة والحالمة ليعيشوا خلف الكاميرا وفوق المسرح كل أعاجيبنا التي تصرخ داخلنا وليتذوقوا بإبداعهم نعيماً فقدناه قبل أن نعيشه.
ما نراه نحن في ذاتنا الضمنية من وسيلة يساعدنا الحوار معها على معرفة دوافعنا وأسباب سلوكنا، يراه الممثل ككائن خلاق يتجلى في أجمل صوره وأكثرها قدرة على الإنتاج والفاعلية عندما ينبثق عنها بعد حواره معه ذات ثالثة هي ليست سوى (الشخصية) أو الدور الذي يريد هذا الممثل أن يؤديه. إنه لا يكتفي مثلنا بتأمل ذاته والاستبطان داخلها بل أكثر من ذلك إنه ينبش ذاته بحثاً عن الشخصية يستدعي كل تفاصيلها ويعيد صياغتها ليعيش لذة اكتشاف وجود جديد في أدق تفاصيله ومن ثم بعثه إلى الحياة مجسداً بأكثر الأدوات بدائية وأصالة والتي لا تتعدى الجسد والصوت والموهبة بالتأكيد..
إنه باحث دؤوب عن الحياة التي ماتت بيننا وعلى الورق، يبحث عنها داخله وداخل الآخرين الذين يشبهونها، يفكر بعقلها ويتأمل لغتها وتفكيرها ومشاعرها وسلوكها بصمت، يتخيلها ويجري معها نفس الحوار الذي نقوم نحن به عندما نكون بمفردنا، ليس من أجل أن ينظم أفكاره أو من أجل أن يغرق معها في عالم بعيد ومنعزل بل من أجل أن يعيد نحت شخص آخر منها .. يدعوها لضيافته، يسألها، يتشاجر معها، يستجر ردود أفعالها وقد تفعل هي معه ذات الشيء، يتفاوض معها، وقد يغير شكلها، يشوهها ليعود فيجمّلها تدريجياً حتى تنبعث إلى الحياة من خلاله وكأنها إنسان جديد خلق بالتحامه معها.
إنسان يتصرف تبعاً لتاريخه الشخصي والاجتماعي الخاص وتبعاً لانتمائه الديني والوطني، إنسان له بنيته النفسية الفريدة وآليات تفكيره، له تطلعاته ورؤاه وكيانه المستقل وردود أفعاله اللامتوقعة . "حتى إنه أحياناً ما يذكر الممثلون أنهم يصابون بالدهشة من الطريقة التي تستجيب بواسطتها الشخصية التي يجسدونها لموقف معين، من خلال البكاء مثلاً بينما لم يكن متوقعاً منها أن تفعل ذلك" (ص140، سيكلوجيا فنون الأداء). إنها ذات أخرى، وجود جديد يبعث إلى الحياة من خلال الممثل أو لعله"وجود آخر يبعث في الممثل" (ص77، الأنا-الآخر)، وجود جديد بالشكل والتفكير والبنية النفسية.
آلا يكون هذا شبيهاً بالنعيم بالنسبة لنا إذا كانت الشخصية التي نرى الممثل يلعبها مطابقة لتلك التي نرغب أن نكونها سراً أو لتلك الشبيهة بنا في أحلامنا اليقِظة أو النائمة التي لا نملك تحقيقها، وإذا كانت هي كذلك بالنسبة لنا ترى ماذا ستكون بالنسبة للمثل إن كان في الشخصية ما يشبه أحلامه فيراها ولو في عالم افتراضي صغير مجسدة بجسده؟!
تمثيل أم حلم أم مرض العقلي؟
حين تغادر الذات جسد الممثل تاركة خلفها كل شيء حتى اسمها لتحل محلها ذاتاً جديدة، فإنها تعلن بشكل ما تمردها على وحشة هذا الوجود وظلمه، وانفتاحها اللانهائي على التجدد والتغيير، ولكي يستحضر الممثل تلك الذات عليه أن يستخدم عمليات عقلية ومعرفية خاصة وأن يستسلم كلياً للاحتمالات التي قد تحملها له هذه الولادة الجديدة وأن يندمج بها حتى تستولي عليه ليدخل بعد ذلك فيما يشبه الغيبوبة المؤقتة عن ذاته الأصلية وهو في كامل استمتاعه بطريقته في رفض كل ما هو اعتيادي، وتعبيره العلني عن شخصيات قد تحمل الكثير من سمات لاشعورنا المكبوت والملجوم، والتي تكون أيضاً "بمنزلة الجانب الخاص من جوانب الذات الداخلية للممثل والتي لا تحظى بنوع من التهوية والتعبير المناسب عنها" (ص141، سيكلوجيا فنون الأداء).
لكن ألا يبدو التمثيل بهذا المعنى ضرباً من الجنون أو فقداناً للعقل لما ينطوي عليه من تحول عجيب في الشخصية؟
جميعنا لدينا ذوات مخبوءة في اللاشعور لا تستطيع التعبير عن نفسها لأنها محملة بانفعالات ورغبات لا يفهمها منطق الواقع.. والكبت حريص على دفن هذه الميو ل لما تسببه من اختلال في توازن الفرد أو تعدٍ على المنطق إذا ما ظهرت.
وهنا يتقاطع الممثل مع كل إنسان، إلا أنه هو فقط من يستطيع أن يتحايل علناً على الكبت فلا يكتفي بإخراج هذه الذات إلى ساحة الوعي كما نفعل نحن في الحلم أو كما يحصل للمرضى العقليين، بل ويعيش حياتها التي يستحيل علينا أن نعيشها واقعياً، يعكسها لنا بالطريقة التي نحبها لذلك نجده قادراً على شحن كامل كياننا بالطاقة وزيادة ثقتنا بوجود المستحيل من خلاله.
التمثيل والمرض العقلي:
في المرض العقلي وتحديداً في الفصام يعلن الإنسان أيضاً رفضه للوجود لكن بطريقة تجعله يغرق في عالم معزول شديد الخصوصية ولا صلة له بالواقع، لا حدود فيه بين ذاته وأفكاره وجسده عن أي ذات وأفكار وأجساد أخرى فيختلط العالمان بغرابة واضحة هدّامة له ولمن حوله.
إنه لا يقدر أن يميز بين العالمين الداخلي والخارجي ولا أن يفصل بين حديثه مع نفسه (أفكاره الضمنية) وحديثه مع الآخرين " فيخلط باستمرار اللغة التي تتعامل مع الأحداث في العالم الخارجي بمواد من خياله، ونظراً لأن هذه المواد تكون شخصية وذاتية تكون النتيجة تشويش وتعطيل استمرار التواصل " (ص218، سيكلوجيا اللغة والمرض العقلي) ويبدو حديثه في النهاية كالحلم بلا منطقيته لكن الفرق أنه يحدث في اليقظة (إنه حالم بعيون مفتوحة) يتعامل مع المحيط الواعي كما نتعامل نحن في أحلامنا فلا يرى فرقاً بين العالمين ولا يعي غرابة أفكاره وذاته ومدى بعدها عن فهم الآخرين، عالمه فوضى من نرجسية تعيقه عن الحياة العادية وتحطمه بشراستها، إنها معاناة لا إرادية تنهش عملياته العقلية وبنيته النفسية ولا يملك صدها.
ربما كان التمثيل انفصاماً عن الواقع كالفصام لكن تأثيره يهذب النفس ويرتقي بها، ويفتح أمامها احتمالات لا تحصى للحياة بأقنعة وأزياء تلون الوجود وتجعل صاحبها أكثر ثقة بامكانياته وانسانيته، بينما ما ندعوه أحياناً بالـ(جنون) للدلالة على المرض العقلي فهو مُعذب للنفس، يسد في وجهها كل أبواب الحياة... الاثنان ينسلخان عن واقعهما ويفقدان
عقليهما لكن الأول بقرار ووعي وإرادة منه بل وباستمتاع بينما الثاني ساقه القدر إلى عالم المرض دون وعي أو إرادة.
التمثيل والأحلام:
"لو كان في وسع الفرد أن يجوس خلال الفردوس في أحلامه، وأن يتلقى زهرة تقدم إليه وتكون دليلاً على أن روحه كانت في الفردوس يوماً ما بالفعل، ثم أفاق من نومه فوجد الزهرة في يده- آهٍ، فماذا بعد ذلك؟ " (ص71، أسرار النوم).
أحلامنا من حيث شكلها تشبه بغرابتها وصورها عالم الفصامي وعالم التمثيل المنفصل عن الواقع، ومن حيث مضمونها فهي ليست سوى مجموعة رغبات كبتت في اللاشعور تسعى دائماً لتحقيق إشباعها بطرق مغرقة بالرمزية أثناء الحلم فقد عرف فرويد الحلم: “ بأنه تحقق مقنّع لرغبة مكبوتة ” (ص14، التحليل النفسي). وهي بهذا تشكل أحد أشكال حسم الصراعات النفسية بين مكبوتات اللاشعور وقوى الشعور لدى كل إنسان، تأخذ هذه الرغبات من أعراض المرض النفسي شكلاً متطرفاً في التعبير عن نفسها إذ يتزايد ضغط الكبت على بوابات الوعي ويفرض نفسه في النهاية بشكل عَرض مرضي أو هذيان، أما في التمثيل أو الدراما فالمكبوت يجد طريقة مقبولة من قبل الإنسان اليقظ والسليم في التعبير عن نفسه خاصة عندما تتمتع الأحداث والشخصيات بأبعاد زمانية ومكانية غريبة ومختلفة تشبه تلك التي تحدث في الأحلام.
وفي الحالات الثلاث لا تُشبع الرغبات المكبوتة الكامنة وراء كل هذيان أو حلم أو تمثيل بطرق مباشرة وعلنية بل تبقى متنكرة ومرمّزة بطريقة تسمح لها بالمرور إلى الوعي لتمنح صاحبها بعض التنفيس أو التطهير أو التوازن.
ونحن نعي أنه مهما اقتربت الأحلام من الواقع فإنها تبقى غير قابلة للتحقيق عند الصحو .. ليس فقط لأنها في النهاية حلم.. بل لأن غرابة هذا الحلم يجعل تحقيقه حتى لو أردنا ذلك مستحيل. لكن إذا سلمنا بأن الحلم مصدره رغبات غير محققة تظهر بصورة مغرقة في الرمزية والتعقيد، فإن هذه الرغبة قد يبصرها الوعي او الشعور أحياناً وقد تتحرر من كبت اللاشعور لها بمساعدة من يُخضع هذه الرغبات للملاحظة الواعية، وأحياناً قد نستطيع الوصول إلى هذه الدوافع والرغبات الخفية إذا ما تأملنا أحلام النوم واليقظة فتفسير الأحلام كما يرى فرويد "هو الطريق الملكية إلى معرفة ما هو لاشعوري في الحياة النفسية" (ص14، التحليل النفسي).
التمثيل والتحليل النفسي:
عملية تفسير الأحلام من أجل الوعي بدوافعها العميقة اللاشعورية هي جزء من عملية التحليل النفسي التي يقترب المثل منها عند قيامه بتحليل شخصية ما يقوم بأدائها والتي تقتضي تحليلاً لنفسه أيضاً على حد سواء ليزيل ما قد يعيقه نفسياً عن الأداء مع اختلاف عمق التحليل لصالح علم النفس، لكن ما نفتقده نحن وما هو متاح للممثل هو القدرة على تجسيد هذا الحلم مهما انغمس في عجائبيته بمعنى آخر هو قادر على تفريغ اللاشعور وإظهار بعض مكبوتاته إلى العلن، إنه قادر على أن يعيش هو حالة التحول الذاتي العجيبة بطرق درامية تشبه الحلم، من معطيات الواقع إلى اللاشعور - أو الوجه الآخر للحياة - ، المليء بانفعالات وأفكار هي على درجة كبيرة من العمق والفاعلية والأهمية في تفسير حياتنا الشعورية، ثم ينقلها إلى الآخرين الواقعين تحت تأثير العرض- الحلم- باستدعائهم هم أيضاً إلى المشاركة وتفريغ رغباتهم بالتحول وحاجتهم اللامعلنة إلى كسر حاجز الوعي المسلط كالسيف للعبور فوق كل ما هو اعتيادي وممل، ومن ثم شحنهم بطاقة التغيير وإعادة الثقة إليهم بوجود آخر أجمل قادرين بأن يعيشوا عن طريقه "حرية إعادة إنتاج معايير الطبيعة والنظام الاجتماعي وتقليدها ومحاكاتها وتشويهها وانتهاكها " (ص57،الأنا- الآخر)، وهذا يفسر ما يكمن وراء ذاك الاندماج أو حتى التوحد العقلي والوجداني والعصبي مع الشخصيات في عروض مميزة أو ذاك العشق الذي يصل حد الوله لممثلي هذه الشخصيات.
ما يقوم به الممثل من إطلاق للكبت عندما يحلل الشخصية ( الدور ) ويعيد خلقها يلتقي بلا شك بعمل المعالج أو المحلل النفسي لكن الفرق أنه "يركز انتباهه على لا شعوره هو بالذات ويستمع لصوت الكبت ليمنحه قوة التعبير الفني بدل أن يبكمه بنقد الوعي وهو بذلك يعلم من استبطان نفسه ما يعلمه المعالج النفسي من مرضاه : القوانين التي تتحكم باللاشعور، لكنه لا يجد ضرورة للإفصاح عنها ولا حتى إلى إدراكها بوضوح بل هي تندمج بإبداعاته. أما عالم النفس فيستخلص هذه القوانين من مرضاه ومن تحليل أعمال هذا المبدع " (ص104، الهذيان والأحلام في الفن)، وبهذا يكون الممثل قد أحسن فهم اللاشعور كمن يقوم بالتحليل النفسي لكن لكلٍ أهدافه فهي جمالية عند الممثل وعلاجية عند المختص النفسي وهي تلتقي حتماً إذا ماأشبعت انتاجاتهما أصالة.
حلول مختلفة لصراع واحد :
وإذا نظرنا من زاوية نفسية أخرى فإننا سنرى تشابهاً أخر يجمع الحلم وأعراض المرض العقلي مع التمثيل كواحد من الفنون، فجميعها تعمل عمل التسوية بين صراع التناقضات: عالم الكبت الأسود المنسي وعالم الواقع الذي يمنع بمحرماته وقوانينه الصارمة أي تسلل من ذاك السواد إليه لكن ما يختلف هو قيمة هذه التسوية.
فالحلم وأعراض المرض ليست سوى رسائل يبثها اللاشعور إلى العالم الخارجي للإشارة إلى صراع ما بين رغبة لاشعورية تلح للظهور وواقع يرفضها لكنها رسائل تصل بطريقة مشوهة وفجة، وهي بشكلها هذا حل للصراع وبديل مغرق بالسلبية والغرابة واللامعقول عن الدافع المكبوت، وهذا ما يفرقها عن الأداء التمثيلي الذي يُظهر أكثر الطرق رقياً لحل أزمة الصراع والتكيف مع الواقع الذي يهرب منه البعض إلى هشاشة الأحلام أو أنياب المرض.
فالتمثيل لا يكتفي بتوصيف مضمون ما نكبت فقط بل يقدمه كقيمة بحد ذاته وبجمال مؤثر وبلطف يتناغم مع واقعنا لا يحطمه أو ينفرنا منه بل يتعايش معه كقرين شرعي، وأحياناً يتجاوز ذلك ليصير حاجة روحية خاصة في وقت يفرغ فيه الدين إلا من طقوسه البعيدة الغارقة في ذاتها والتي فقدنا اليوم كل حس بها بعد أن كانت جزءً لا يتجزأ من الحياة القديمة "لكن الكلمات بقيت معنا وبقيت الدوافع تثير أعماقنا فنحس بأنه يجب أن تكون لنا طقوسنا وبأننا يجب أن نعمل شيئاً كي نجدها وبهذا نرى أن الفنان يحاول أن يجدها دون أي مصدر آخر سوى خياله " (ص260، الأعمال الكاملة، بروك) .
خراب الممثل الذاتي والاجتماعي :
عيش الممثل في عالم من الشخصيات اللا مرئية يحمل الكثير من الخطر والمفاجآت والمتاعب، فاستدماج ذات أخرى وخاصة إذا كانت شريرة أو آثمة عملية تتطلب قدرة على المغامرة ليس فقط بالسمعة والمكانة الاجتماعية بل وأيضاً بالتوازن النفسي والذهني، فالانفتاح على الاحتمالات اللا محدودة للشخصيات المختلفة التي قد يلعبها الممثل "يمضي في اتجاه هو عكس البناء أي الهدم والإزالة بمعنى أن على الممثل أن يستبعد حجراً بعد حجر كل شيء في عضلاته وأفكاره وصور الكف التي تحول بينه وبين دوره حتى يأتي يوم يندفع فيه الدور مثل دفقة الهواء ليتخلل مسامه كلها" (ص273، الأعمال الكاملة، بروك)، وهذا ما قد يتحول إلى تلبس حقيقي أو سجن إرادي يغير أنماط السلوك خارج حدود العرض أو أوقات التحضير له أو حتى بعد الانتهاء منه. تقول إحدى الممثلات (ليف أولمان): " أنا لم أمثل دور فيفيان لي. أنا أصبحت إياها. لقد كانت هنا رقيات وتعاويذ عندما استولت روحها عليّ، ولست على ثقة من أنني سأتحرر أبداً من سيطرتها عليّ " (ص69، سيكلوجيا فنون الأداء).
لكن هذا الشكل المتطرف من الأداء نادراً ما يؤثر على وعي الممثل بما يفعله، فهو يعرف بأنه تغير لأنه يمثل وبأن شخصية أخرى عليه أن يؤديها فيما بعد وبهذا فإن " التحكم الخاص في الذات خلال التمثيل لا يُفقد تماماً " (ص68، سيكلوجيا فنون الأداء).
كل هذا يتطلب من الممثل مرونة في القدرات النفسية والمعرفية وحتى الجسدية والصوتية وذلك عندما يفكر بعقل الشخصية ويقول لنفسه (ماذا أفعل لو كنت مكانها ؟) آخذاً باعتباره معطياتها النفسية ومتخذاً الأوضاع الجسدية والطبقات الصوتية الملائمة لها، مما يستدعي نمط حياة خاص ومختلف عن المألوف و يجعلنا نعتقد بغرابة عالم التمثيل وفي أسوا الأحوال بشذوذ كل من له به صلة بعيدة أو قريبة.. وهذا الأمر بالذات قد نراه سبب دخول بعض الأشخاص إلى هذا العالم، خاصة في المجتمعات المحافظة. وبذلك يساهم جهلهم، بمعنى التحرر الداخلي المطلوب من الممثل، بتحويل هذه الحرية إلى مسخ طائش يسيء لنفسه ولغيره. فيستغل الحرية لإشباع نهم جنسي محظور، أو لتبرير انحراف في السلوك دون مقابل فنيّ يشفع له. وهذا مرتبط بكل فنون الأداء التي تعتمد الجسد في التعبير (رقص- غناء - مسرح ) فالإقبال على التخصص في هذه المجالات وحتى حضور عروضها لا يعكس بالضرورة وعي بمكانة الجسد كأداة تعبير خلاقة تدمج الفعل مع الفكر بل تشير إلى مدى تقزّم هذا المفهوم إلى شيء محرم عثر على وجوده المشروع الذي يستر به عقده تحت متطلبات الفن والإبداع.
الجسد.. لغة الذات :
والأمر يعكس ثقافة سائدة حول الجسد في يومنا هذا تختزله إلى موضوع جنسي فقط ولا نعترف به كأداة تعبير عن الذات أو الحياة النفسية، فيتقيد ويصير ملكاً للسلطات الدينية والاجتماعية والسياسية بما تفرضه عليه من محرمات. ولم يعد للذات من هم سوى التفكير بإظهار الجسد بشكله النمطي المبارك اجتماعياً. ومع مرور الزمن وتراكم المحرمات تزداد قيوده رسوخاً وتنسى الذاكرة البشرية أن الاختلاف وإعلان هذا الاختلاف ولو بالشكل هو حق من حقوقها، وهذا لا يعني حالة فلتان أو فجور فالتأطير من أجل التنظيم ضمن تعقيدات المجتمع الحالية أمر ضروري لكن ما حصل هو عزل للجسد وتنميطه بشكلين أو ثلاثة أصبحت مرجعية ظالمة أحياناً للحكم على أنماط تفكير أصحابه.
وتدريجياً تنفصم العلاقة بين الجسد والذات ويبتعد عن كونه أداة للتعبير عن الأفكار والمشاعر لا بل أداة لخلقها أيضاً
" فاستخدام الجسد يؤثر في العقل مثلما تنعكس حالات العقل عضوياً على الجسد " (ص90، الأنا- الآخر )، وهذا الاغتراب هو الذي كان وراء إعدام احساسنا بقيمة الجسد حتى أننا لم نعد نتسائل عن امكانيات كونه شيء آخر غير حامل للثياب والزينة لحجب العورة .
أليس لهذا الجسد معنى آخر نسيناه ؟ ألا يكون في بعض الأحيان وسيلتنا للتعبير عن الحب تجاه الله بالصلاة وتجاه المحبوب بالرقص ؟ أو وسيلة لشحن الأفكار الباردة بحرارة الفعل الذي يعتمده الممثل ليثير فينا الضحك والبكاء ، أو الغضب؟ في وقت لم يعد فيه للفعل وجود إلا على المسرح؟ " التمثيل هو فعل ولهذا الفعل أثره، ومكان هذا الفعل هو العرض والعرض موجود في العالم وكل الحاضرين واقعون تحت تأثير ما يُعرض" (ص200، الأعمال الكاملة، بروك).
رغم هذا يبدو التمثيل بارتكازه على التعبير بالجسد والتلاعب به باب الممثل إلى جحيم المجتمع، فهو المتمرد العلني على القوالب التي سجن فيها الجسد ، والمتطاول على محرمات قديمة ومتجذرة. لذلك فإننا نراه بدلاً من أن يغرق في إبداعه وإنتاجه، مشغولاً بتلقي تهم الانحلال والفساد والشذوذ. خاصة في مجتمع محافظ يعيش فيه الممثلون عزلة موصومة بالعار تبعدهم عنه، بدلاً من أن يكونوا مرآة له، وتحشرهم في تجمعات ضيقة هرباً من سيوف مختلف السلطات، مما يخفف من مصداقية التمثيل كفن وإبداع ويكرس فكرة هذه المجتمعات عنه كونه باباً للتهتك والإباحية، ليزيد من انعزال أفراده ولتعاود الدائرة حركتها المغلقة.
بالمطلق...
التمثيل مدخل لتجسيد مفهوم الحرية التي نشعر بالخصاء اليوم تجاهها، حرية التعبير بالشكل والفعل عما يشبهنا أو نتمناه ولو باستخدام قناع الممثل للظهور بشكل مختلف أو (كاذب وخادع كما يحلو للبعض تسميته)، لكن ما يجعل هذا القناع أحياناً حقيقة هو أنه يتمرد على مئات الأقنعة تحته التي تلتصق على وجهنا بحكم أننا بشر، منحدرون من ثقافة معينة ومن دين ووطن محكوم بتاريخ ما، يرسم ملامح المستقبل، أقنعة تصب ليس فقط فوق وجوهنا بل وفوق أجسادنا الإسمنت فنحرم من رؤية أنفسنا أمام المرآة إلا من وراء تلك الأقنعة، فإما أن نحطم المرآة ونجلس خائفين من آلام نزعها وما تسببه من دماء ودموع وتعب وإما أن نضع قناعنا الحقيقي ليصلنا بأفكارنا التي أنكرناها ومشاعرنا المكبوتة وإيماءاتنا وحركاتنا البدائية الطازجة والعفوية التي حُرّمت علينا.
التغيير الذي يمارسه الممثل على ذاته شكلاً وسلوكاً وقت العرض يتماثل مع حقيقتنا ورغبتنا اللامعلنة بتغيير وجودنا ونحن من خلاله نكون ولو مؤقتاً غير ما نحن عليه، لكن هو كونه من يتحكم بالجسد الجديد الذي تقمصه سيكون الأكثر استمتاعاً بما يعيشه من تغيير لوجوده والأكثر قدرة على العبور بنا إلى عوالم كان فيها الجسد بديلاً عن اللغة والأفكار بديلة عن الأفعال،عوالم غارقة في الذاتية والفردية والأنانية كعوالم الأطفال التي سيبقى لا شعورنا يتطلع للعودة إليها.
إنه بتمثيله يذكرنا بأننا قادرين أن نعايش أفعال تبدو هوامية بالنسبة لنا لكننا لا نستطيع إنكار الإغراء في أن نكون أصحاب هذه الأفعال أو أن نشعر بأننا حقاً هي عندما نراها أمامنا على خشبة المسرح تبعث إلى الحياة بجسد الممثل.
المراجع:
1- بروك، بيتر: الأعمال الكاملة، بروك: المساحة الفارغة، النقطة المتحولة، ترجمة: فاروق عبد القادر، دار الهلال، القاهرة، 2002.
2- بوربلي، الكسندر، أسرار النوم، ترجمة: أحمد عبد العزيز سلامة، الكويت،عالم المعرفة، العدد
3- سعد، صالح: الأنا – الآخر ازدواجية الفن التمثيلي، الكويت، عالم المعرفة، العدد 247، اكتوبر2001.
4- فرويد، سيغموند: الهذيان والفن في الأحلام، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1986.
5- معلا، ياسر: التحليل النفسي النظرية والممارسة، بحث مقدم للحصول على شهادة دبلوم الدراسات العليا في علم النفس، كلية التربية، جامعة دمشق، 1999."غير منشور".
6- ويلسون، جيلين: سيكلوجيا فنون الأداء، ترجمة: شاكر عبد الحميد، الكويت،عالم المعرفة، العدد 258، حزيران 2000.
7-يوسف، جمعة سيد، سيكلوجية اللغة والمرض العقلي، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 145، كانون الثاني 1990.