من الناس .. من يشتاق إلى الهداية .. ولكن يمنعه منها
بغضه لبعض الصالحين .. أو مواقف وقعت له معهم .. فحمل في نفسه عليهم ..
أو تجده
يعلق صلاحه واستقامته بأشخاص يعينونه على الدين .. فإذا فسدت أحوالهم .. أو فرق
الدهر بينهم ..انتكس عن الدين .. وعصى رب العالمين ..
وهذا حال أولئك المرتدين
.. الذين علقوا إسلامهم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم.. فما داموا يخالطونه ..
ويحدثهم ويساكنونه .. فهم ثابتون على الدين .. بل قُوّام في الأسحار .. صُوّام في
النهار ..
ولكن ما إن فارق سواده سوادهم .. حتى ارتدوا على أدبارهم ..وكفروا
بعد إسلامهم ..
حتى قال لهم أبو بكر رضي الله عنه : من كان يعبد محمداً فإن
محمداً قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ..
نعم ..الله حي لا
يموت..يسمع دعاء الداعين ..ويقبل توبة التائبين..
من لجأ إليه كفاه .. ومن فرَّ
إليه قربه وأدناه ..
إن ذكره العبد في نفسه ذكره في نفسه .. وإن ذكره في ملأ
ذكره في ملأٍ خير منهم ..
من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً .. ومن تقرب
إليه ذراعاً .. تقرب إليه باعاً ..
ومن استقر في قلبه الإيمان .. ثبت على عبادة
الرحمن .. وإن اشتد البلاء ..
وانتقل معي إن شئت إلى هناك .. انتقل إلى هناك ..
وادخل إلى المدينة ..
وانظر إلى النبي عليه السلام .. وقد جلس مع أصحابه
الكرام ..
فحدثهم عن البيتِ الحرام .. وفضلِ العمرة والإحرام ..
فطارت
أفئدتهم شوقاً إلى ذاك المقام ..
فأمرهم بالتجهز للرحيل إليه .. وحثهم على
التسابق عليه ..
فما لبثوا أن تجهزوا .. وحملوا سلاحهم وتحرزوا ..
فخرج صلى
الله عليه وسلم مع ألف وأربعمائة من أصحابه .. مهلين بالعمرة ملبين .. يتسابقون إلى
البلد الأمين ..
فلما اقتربوا من جبال مكة ..
بركت القصواء - ناقة النبي
عليه السلام - .. فحاول أن يبعثها لتسير .. فأبت عليه ..
فقال الناس : خلأت
القصواء .. ( أي عصت ) فقال عليه السلام :
ما خلأت القصواء .. وما ذاك لها بخلق
.. ولكن حبسها حابس الفيل ( يعني فيل أبرهة لما أقبل به مع جيش من اليمن يريد هدم
الكعبة فحبسهم الله عن ذلك ) ..
ثم قال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده
لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله .. إلا أعطيتهم إياها ..
ثم زجرها فوثبت
.. فتوجه إلى مكة .. حتى نزل بالحديبية قريباً من مكة .. فتسامع به كفار قريش ..
فخرج إليه كبارهم ليردوه عن مكة .. فأبى إلا أن يدخلها معتمراً ..
فما زالت
البعوث بينه وبين قريش..حتى أقبل عليه سهيل بن عمرو ..
فصالح النبي عليه الصلاة
والسلام على أن يعودوا إلى المدينة..ويعتمروا في العام القادم..
ثم كتبوا بينهم
صلحاً عاماً .. وفيه :
اشترط سهيل : أنه لا يخرج من مكة مسلم مستضعف يريد
المدينة .. إلا رُدَّ إلى مكة .. أما من خرج من المدينة وجاء إلى مكة مرتداً إلى
الكفر .. فيُقبل في مكة ..
فقال المسلمون : سبحان الله !! من جاءنا مسلماً نرده
إلى الكافرين !! كيف نرده إلى المشركين وقد جاء مسلماً ..
فبينما هم كذلك إذ
أقبل عليهم .. شاب يسير على الرمضاء .. يرفل في قيوده .. وهو يصيح : يا رسول الله
..
فنظروا إليه .. فإذا هو أبو جندل ولد سهيل بن عمرو .. وكان قد أسلم فعذبه
أبوه وحبسه .. فلما سمع بالمسلمين .. تفلت من الحبس وأقبل يجر قيوده .. تسيل جراحه
دماً .. وتفيض عيونه دمعاً ..
ثم رمى بجسده المتهالك بين يدي النبي عليه الصلاة
والسلام ..والمسلمون ينظرون إليه ..
فلما رآه سهيل .. غضب !! كيف تفلت هذا
الفتى من حبسه .. ثم صاح بأعلى صوته : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي
..
فقال صلى الله عليه وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد ..
قال : فوالله إذاً
لا أصالحك على شيء أبداً ..
فقال صلى الله عليه وسلم : فأجزه لي .. قال : ما
أنا بمجيزه لك .. قال : بلى فافعل .. قال : ما أنا بفاعل .. فسكت النبي صلى الله
عليه وسلم ..
وقام سهيل سريعاً إلى ولده يجره بقيوده .. وأبو جندل يصيح ويستغيث
بالمسلمين .. يقول :
أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً .. ألا
ترون ما قد لقيت من العذاب .. ولا زال يستغيث بهم حتى غاب عنهم ..
والمسلمون
تذوب أفئدتهم حزناً عليه .. فتى في ريعان الشباب .. يُشدد عليه العذاب ..
وينقل
من العيش الرغيد .. إلى البلاء الشديد ..
وهو ابن سيد من السادات..طالما تنعم
بالملذات..وتلذذ بالشهوات ..
ثم يجر أمام المسلمين بقيوده .. ليعاد إلى سجنه
وحديده ..
وهم لا يملكون له شيئاً ..
مضى أبو جندل إلى مكة وحيداً .. يسأل
ربع الثبات على الدين .. والعصمة واليقين ..
أما المسلمون فقد رجعوا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .. وهم في حنق شديد على الكافرين .. وحزن على
المسلمين المستضعفين ..
ثم اشتد العذاب على الضعفاء في مكة .. حتى لم يطيقوا له
احتمالاً ..
فبدأ أبو جندل .. وصاحبه أبو بصير .. والمستضعفون في مكة ..
يحاولون التفلت من قيودهم ..
حتى استطاع أبو بصير رضي الله عنه أن يهرب من حبسه
.. فمضى من ساعته إلى المدينة .. يحمله الشوق .. ويحدوه الأمل .. في صحبة النبي
عليه الصلاة والسلام وأصحابه ..
مضى يطوي قفار الصحراء .. تحترق قدماه على
الرمضاء ..
حتى وصل المدينة .. فتوجه إلى مسجدها ..
فبينما النبي صلى الله
عليه وسلم في المسجد مع أصحابه .. إذ دخل عليهم أبو بصير .. عليه أثرُ العذاب ..
ووعثاءُ السفر .. وهو أشعث أغبر ..
فما كاد يلتقط أنفاسه .. حتى أقبل رجلان من
كفار قريش فدخلا المسجد .. فلما رآهما أبو بصير .. فزع واضطرب .. وعادت إليه صورة
العذاب ..
فإذا هما يصيحان .. يا محمد .. رده إلينا .. العهدُ الذي جعلت لنا ..
فتذكر النبي صلى الله عليه وسلم عهده لقريش أن يرد إليهم من يأتيه من مكة ..
فأشار إلى أبي بصير .. أن يخرج من المدينة ..
فخرج معهما أبو بصير .. فلما
جاوزا المدينة .. نزلا لطعام .. وجلس أحدهما عند أبي بصير ..
وغاب الآخر ليقضي
حاجته ..
فأخرج القاعد عند أبي بصير سيفه .. ثم أخذ يهزه .. ويقول مستهزءاً
بأبي بصير : لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل ..
فقال له أبو
بصير : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً .. فقال : أجل والله إنه لجيد لقد
جربت به .. ثم جربت ..
فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه .. فناوله إياه .. فما
كاد السيف يستقر في يده .. حتى رفعه ثم هوى به على رقبة الرجل فأطار رأسه ..
فلما رجع الآخر من حاجته ..
رأى جسد صاحبه ممزقاً .. مجندلاً ممزقاً ..
ففزع .. وفرَّ حتى أتى المدينة .. فدخل المسجد يعدو ..
فلما رآه عليه الصلاة
والسلام مقبلاً .. فزعاً .. قال : لقد رأى هذا ذعراً ..
فلما وقف بين يديه صلى
الله عليه وسلم صاح من شدة الفزع .. قال : قُتِل والله صاحبي .. وإني لمقتول ..
فلم يلبث أن دخل عليهم أبو بصير .. تلتمع عيناه شرراً .. والسيف في يده يقطر
دماً .. فقال :
يا نبي الله .. قد أوفى الله ذمتك .. قد رددتني إليهم ثم أنجاني
الله منهم .. فضمني إليكم .. قال : لا ..
فصاح أبو بصير بأعلى صوته .. قال : أو
.. يا رسول الله .. أعطني رجالاً أفتح لك مكة ..
فالتفت عليه الصلاة والسلام
إلى أصحابه وقال : ويل أمه مسعِّر حرب لو كان معه رجال..ثم تذكر عهده مع قريش فأمر
أبا بصير بالخروج من المدينة ..
فسمع أبو بصير وأطاع ..
نعم .. وما حمل في
نفسه على الدين .. ولا انقلب عدواً للمسلمين ..
فهو يرجو ما عند الحليم الكريم
.. من الثواب العظيم .. الذي من أجله ترك أهله .. وفارق ولده .. وأتعب نفسه .. وعذب
جسده ..
خرج أبو بصير من المدينة .. فاحتار أين يذهب .. ففي مكة عذاب وقيود ..
وفي المدينة مواثيق وعهود ..
فمضى إلى سيف البحر قريباً من جدة .. فنزل هناك ..
في صحراء قاحلة .. لا أنيس فيها ولا جليس ..
فتسامع به المسلمون المستضعفون
بمكة .. فعلموا أنه باب فرج انفتح لهم .. فالمسلمون في المدينة لا يقبلونهم ..
والكفار في مكة يعذبونهم ..
فتفلت أبو جندل من قيوده .. فلحق بأبي بصير .. ثم
جعل المسلمون يتوافدون إليه في مكانه .. حتى كثر عددهم .. واشتدت قوتهم ..
فجعلت لا تمر بهم قافلة تجارة لقريش .. إلا اعترضوا لها ..
فلما كثر ذلك
على قريش ..
أرسلوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام يناشدونه بالله أن يضمهم
إليه .. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أن يأتوا المدينة ؟
فلما وصل
إليهم الكتاب .. استبشروا وفرحوا ..
لكن أبا بصير كان قد ألم به مرض الموت ..
وهو يردد قائلاً : ربي العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصر ..
فلما دخلوا عليه
وأخبروه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بسكنى المدينة .. وأن غربتهم انتهت ..
وحاجتهم قضيت .. ونفوسهم أمنت ..
فاستبشر أبو بصير .. ثم قال وهو يصارع الموت :
أروني كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فناولوه إياه ..
فأخذه فقبله .. ثم
جعله على صدره .. وقال : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله ..
أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً رسول الله .. ثم شهق ومات ....