من فضل الله ومنته أنه لما فرض الشريعة على العباد لم يجعلها من أجل الإثقال عليهم، أو عنتهم، وإنما رحمة بهم وتيسيراً عليهم كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (سورة البقرة:185)، ولهذا خفف الله الفرائض على المسافر، وجعلها نصف ما على المقيم، ومن أنواع هذا التخفيف قصر الصلاة وجمعها في الحج، وسنتكلم عنهما فيما يلي على نقطتين:
أولاً: قصر الصلاة في الحج:
أجمع أهل العلم على أن من سافر سفراً في غير معصية قَصَرَ الصلاة الرباعية سواء كان السفر واجباً كسفر الحج، أم مكروهاً كسفر المنفرد وحده دون صُحبَه؛ قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن لمن سافر سفراً تقصر في مثله الصلاة مثل: حج، أو جهاد، أو عمرة؛ أن يقصر الظهر، والعصر، والعشاء، يصلي كل واحدة منها ركعتين ركعتين"
.
هل القصر في السفر واجب أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
- فقال الأحناف, وهو قول في مذهب المالكية: بوجوب القصر في السفر، فلو أتم فإنه أِثمٌ ومعصية، واستدلوا بحديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "الصَّلَاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ"
رواه البخاري برقم (1028) ومسلم برقم (1105).
- وقال المالكية والحنابلة: يسن قصر الصلاة الرباعية في السفر، وهو قول مالك في أشهر الروايات عنه، وعلى هذا فتوى الشيخ ابن باز رحمه الله
.
- وقال الشافعية وهو المشهور عن أحمد: إن المسافر بالخيار بين قصر الصلاة في سفره، وبين إتمامها أربع كالحضر.
- وقال بعض أهل العلم: أنه سنة، وأن الإِتمام مكروه؛ لأن ذلك خلاف هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم المستمر الدائم، وهذا القول اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله ، وممن قال بهذا القول من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
.
قصر الصلاة للحجاج بمنى ومزدلفة وعرفة:
- إذا كان الحجاج من خارج مكة فيستحب لهم أن يقصروا؛ لأنهم مسافرون، والمسافر يجوز له القصر كما تقدم في حكم القصر في السفر.
- أما إذا كان الحجاج من أهل مكة فقد اختلف العلماء في حكم القصر لهم على أقوال:
* سبب الخلاف:
وهذا الاختلاف مبني على أن القصر لأجل علَّة السفر، أو لأجل علَّة النسك.
فإذا قيل للسفر: ففي كم تقصر الصلاة من المسافة، وهل من فرق بين قصير السفر وطويله؟
فمن اعتبر تحديد المسافة فهو إما أن يطردها لتسلم القاعدة، فلا قصر لأهل مكة لأنهم لم يبلغوا المسافة المحددة للقصر؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "أصل المسألة مبني على تسليم أن المسافة بين منى ومكة لا يقصر فيها، وهو من محال الخلاف"
.
أما من قال أن العلة هي النسك فهذا قول ضعيف؛ إذ لو كان سببه النسك لكانوا إذا حلُّوا التحلل الثاني - وهذا يمكن أن يكون يوم العيد -؛ لم يحل لهم أن يقصروا في منى، ولو كان سببه النسك لكانوا إذا أحرموا في مكة بحج، أو عمرة؛ جاز لهم الجمع والقصر، فالقول بأنه هو النسك ضعيف جداً، ولا ينطبق على القواعد الشرعية
.
الأقوال في المسألة:
1- قول الجمهور: أنه لا يجوز لأهل مكة القصر، وبهذا قال أحمد وعطاء ومجاهد والزهري وابن جريج والثوري ويحيى القطان والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أهل مكة بالإتمام فعن أبي نضرة قال: سأل شاب عمران بن حصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر؛ فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً قط إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وشهدت معه حنين والطائف فكان يصلي ركعتين، ثم حججت معه، واعتمرت فصلى ركعتين ثم قال: ((يا أهل مكة أتموا الصلاة؛ فإنَّا قوم سفر)) ، وأيضاً: أنهم في سفر غير بعيد؛ فلم يجز لهم القصر
.
القول الثاني: أن لهم القصر؛ لأن لهم الجمع؛ فكان لهم القصر كغيرهم، وهو قول مالك والأوزاعي ، وهو قول شيخ الإسلام حيث قال: "والمقصود أن من تدبر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ومنى بأهل مكة، وغيرهم، وأنه لم ينقل مسلم قط عنه أنه أمرهم بإتمام؛ علم قطعاً أنهم كانوا يقصرون خلفه، وهذا من العلم العام الذي لا يخفى على ابن عباس ولا غيره؛ ولهذا لم يعلم أحد من الصحابة أمر أهل مكة أن يتموا خلف الإمام إذا صلى ركعتين" ، وقال أيضاً: "قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة وفي أيام منى، وكذلك أبو بكر، وعمر بعده، وكان يصلي خلفهم أهل مكة، ولم يأمروهم بإتمام الصلاة، ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصراً وجمعاً، ثم العصر ركعتين: يا أهل مكة أتموا صلاتكم، ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر، ولا نقل أحد أن أحداً من الحجيج لا أهل مكة، ولا غيرهم صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما صلى بجمهور المسلمين، أو نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عمر قال في هذا اليوم: "يا أهل مكة أتموا صلاتكم؛ فإنَّا قوم سفر" فقد غلط، وإنما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في جوف مكة لأهل مكة عام الفتح ، وقال ابن القيم رحمه الله: "ولهذا كان أصح أقوال العلماء إن أهل مكة يقصرون، ويجمعون بعرفة، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم" ، وهو اختيار العلامة ابن باز أيضاً إذ قال: " الحجاج يقصرون مع المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالإتمام لما حج حجة الوداع ما قال: يا أهل مكة أتموا، فإذا صلوا مع الناس ثنتين فلا حرج وإن أتموا فلا حرج، وإذا رجعوا إلى مكة صلوا في مساجد مكة إتماماً، لا يصلون في بيوتهم يصلون مع الجماعة إتماماً، وإذا صلوا في منى مع الناس صلوا ركعتين ما داموا حجاجاً، وإن صلوا أربعاً فلا حرج؛ لأن بعض أهل العلم يرى أن أهل مكة يُتمون مطلقاً فليس لهم القصر؛ لأن المشاعر ليست سفراً. " ، وهو ترجيح العلامة ابن عثيمين أيض
. ويرى رحمه الله أن الوضع اختلف الآن بالنسبة لمنى حيث أصبحت كأحياء مكة ، قال رحمه الله تعالى: " إن الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يتزودون للحج، أهل مكة وغير أهل مكة، ولهذا كان أهل مكة مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يجمعون ويقصرون تبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: يا أهل مكة أتموا، وهذا القول هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ولكن يبقى علينا في وقتنا الحاضر إذا نظرنا إلى منى وجدنا أنها أصبحت حياً من أحياء مكة، والذي يخرج إلى منى مثل الذي يخرج إلى العزيزية؛ بل ربما يكون بعض أفراد العزيزية الشرقية فوق منى، لذلك أرى أن من الأحوط لأهل مكة ألا يقصروا في منى" . وقال في الشرح الممتع : "وفي يومنا هذا إذا تأمل المتأمل يجد أن منى حي من أحياء مكة، وحينئذٍ يقوى القول بأنهم لا يقصرون في منى. وفي مزدلفة، وفي عرفة لهم الترخص برخص السفر؛ لأنهم مسافرون، فهم يتأهبون لسفر الحج بالطعام والرحل والماء، ولذلك كان أهل مكة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقصرون في منى وعرفة ومزدلفة، ويجمعون في مزدلفة وعرفة، ولم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتموا، لكن اختلف الوضع الآن"
.
هل لأهل مكة غير الحُجاج القصر في المشاعر أم هو خاص بالحجاج؟
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "المشهور عند العلماء أن هذا القصر خاص بالحجاج من أهل مكة فقط على قول من أجازه لهم،... أما الباعة ونحوهم ممن لم يقصد الحج فإنه يتم، ولا يجمع كسائر سكان مكة"
.
ثانياً: جمع الصلاة في المشاعر لأهل مكة:
اختلف العلماء على قولين:
الأول: أنه يجوز الجمع لكل من بعرفة من مكي وغيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع، فجمع معه من حضره من المكيين وغيرهم، ولم يأمرهم بترك الجمع كما أمرهم القصر حين قال: ((أتموا فإنا سفر))، ولو حرم الجميع لبينه لهم؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا يقر النبي صلى الله عليه وسلم على الخط ، وادعى ابن المنذر الإجماع على ذلك ، وقال شيخ الإسلام: "لكن يجوز الجمع بين الصلاتين لعذر عند أكثر العلماء، كما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، والجمع في هذين الموضعين ثابت بالسنة المتواترة، واتفاق العلماء" ، وقال أيضاً: "ولهذا اتفق المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة؛ لأن جمع هاتين الصلاتين في حجة الوداع دون غيرهما مما صلاه بالمسلمين بمنى، أو بمكة؛ هو من المنقول نقلاً عاماً متواتراً مستفيضاً"
.
القول الثاني: أنه لا يجوز الجمع؛ لأنهم ليسوا مسافرين.
والراجح والله أعلم هو القول الأول، وهو اختيار جماهير العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخين ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله وغيرهم من أهل العلم.
*حكم جمع الصلاة في منى:
وقد اختلف العلماء على قولين:
الأول: يجمع بينهما وذلك لأن القصر يلازمه الجمع.
الثاني: أنه لا يجمع في منى؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يجمع في منى، وإنما جمع في عرفة، وفي مزدلفة فقط، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية، واختيار الشيخ محمد بن إبراهيم، وابن باز، وابن عثيمين رحمهم الله جميعاً.
قال شيخ الإسلام: "ولهذا اتفق المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة، ومزدلفة؛ لأن جمع هاتين الصلاتين في حجة الوداع دون غيرهما مما صلاه بالمسلمين بمنى، أو بمكة؛ هو من المنقول نقلاً عاماً متواتراً مستفيضاً" ، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجمع فيه، ولا ثبت أنه جمع الصلاتين في منى حال نزوله" ، وقال ابن باز رحمه الله: "والسنة أن يصلوا كل صلاة في وقتها قصراً بلا جمع، إلا المغرب والفجر فلا يقصران، ولا فرق بين أهل مكة وغيرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس من أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة قصراً، ولم يأمر أهل مكة بالإتمام، ولو كان واجباً عليهم لبينه لهم" ، وقال ابن عثيمين رحمه الله: "يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر قصراً من غير جمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر بمنى ولا يجمع، والقصر كما هو معلوم جعل الصلاة الرباعية ركعتين، ويقصر أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس في حجة الوداع ومعه أهل مكة ولم يأمرهم بالإتمام، ولو كان واجباً عليهم لأمرهم به كما أمرهم به عام الفتح"
.
والله تعالى أعلم ، والحمد لله أولاً وآخراً
موقع مناسك
شرح مختصر خليل (5/69)، وبداية المجتهد (1/134)، وحاشية الروض المربع (3/359)، ومجموع فتاوى ابن باز (12/284).