يوم عرفة:
كل ما حولك يحرك وجدانك، ويهيج أشجانك، ويهز أركانك، منظر يتصدع له الفؤاد وإن كان قاسياً، وموطن يثير المكامن فينحني عنده العبد مخبتاً خاضعاً، تسمع هذا يبكي، وذا يشكي، وثالث يُشجِي.
إنه بحق:
يوم الدعاء والضراعة.
يوم الابتهال والمناجاة.
يوم التوجه والتمرغ.
وهذا ما أكد عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أن خير الدعاء هو ما كان يوم عرفة فقال عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة)) رواه مالك برقم (726) وحسنه الألباني، قال الباجي: "أي أعظمه ثواباً، وأقربه إجابة" ، وقريباً من هذا التفسير نص عليه صاحب المنتقى إذ يقول مجلياً معنى الحديث: "يريد صلى الله عليه وسلم أنه أكثر ثواباً للداعي، وأقرب إلى الإجابة، فإن الفضل للداعي إنما هو في كثرة الثواب، وكثرة الإجابة" ، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يحيي يوم عرفة بالضراعة والابتهال؛ يقول ابن القيم واصفاً حجته عليه الصلاة والسلام: "فلما أتى الموقف - يعني عرفة - وقف في ذيل الجبل عند الصخرات، واستقبل القبلة، وجعل حبل المشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذ في الدعاء والتضرع، والابتهال إلى غروب الشمس، وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المساكين"
.
ومن دلالة صفة حجته عليه الصلاة والسلام استحب أهل العلم لمن وفقه الله إلى الوقوف بعرفة أن يكثر من مطلق الدعاء يوم عرفة راكباً وراجلاًً، واقفاً وماشياً، ومضطجعاً، ويلح على الله عز وجل أن يكتبه من أهل المغفرة، ويمنَّ عليه بالعتق من النار، ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة إلى أن تغرب الشمس تأسياً به في ذلك عليه الصلاة والسلام ، قال ابنُ عبد البر: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي الحديث أيضاً دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب"
.
وأما ما أُثِرَ وورد من الدعاء المستحب بخصوص يوم عرفة:
فأولاًً: ما ثبت من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) رواه الترمذي برقم (3585)، وحسنه الألباني.
وهنا سؤال وجيه لماذا سمى قول لا إله إلا الله ... دعاء، ومعلوم أنه ذكر؟
يجيب على هذا التساؤل الإمام الطبري بقوله: "إنما سمي هذا الذكر دعاءاً لثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لما كان الثناء يحصل أفضل مما يحصل الدعاء أطلق عليه لفظ الدعاء؛ لحصول مقصوده، يقول الحسين بن الحسن المروزي: سألت سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال: لا إله إلا الله ... إلخ، فقلت له: هذا ثناء وليس بدعاء، فقال: أما علمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين أتى عبد الله بن جعدان يطلب نائله، فقلت: لا، فقال أمية:
أأذكر حاجتي أم قد كفــاني حيـاؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت فضـل لك الحسب المهذب والثناء
إذ أثــنى عـليك المرء يوماً كفــاه من تعرضه الثناء
ثم قال: يا حسين هذا مخلوق يكتفي بالثناء عليه دون مسألة فكيف بالخالق!
الوجه الثاني: معناه أفضل ما يستفتح وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، ويدل عليه الحديث الآخر فإنه قال: ((أفضل الدعاء أن أقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له...)) رواه البيهقي برقم (4371).
الثالث: معناه أفضل ما يستبدل به عن الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله ...، والأول أوجه"
.
ثانياً: يستحب للحاج الإكثار من التهليل والتكبير يوم عرفة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غداة عرفة، فمنّا المكبر، ومنا المهلل ..." رواه مسلم برقم (1284)، والتهليل والتكبير دعاء؛ لأنه بمنزلة استجلاب لطف الله تعالى كما ذكر ذلك الملا على القاري ، ولذا كان السلف يفضِّلون التكبير يوم عرفة كما يقول محمد بن سيرين: "حججت زمن ابن الزبير فسمعته يوم عرفة يقول: ألا وإن أفضل الدعاء اليوم التكبير، وهذا على الأفضل عنده، والله أعلم، وعن وبرة قال: سألت ابن عمر عن التلبية يوم عرفة، فقال: التكبير أحب إلي"
.
ثالثاً: التلبية، وهي مشروعة للمحرم متى بلغ ميقاته، فيلبي عند اجتماع الرفاق، أو متى علا شرفاً، أو هبط وادياً، وفي أدبار الصلوات، وإقبال الليل، وإدبار النهار، ولا يقطعها إلا عند ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النحر كما نص على ذلك جمهور الفقهاء، ومن جملة تلك المواطن التي يتأكد فيها التلبية يوم عرفة ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنَّ أسامة ابن زيد كان رِدْف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، قال: فكلاهما قالا: لم يزل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يلبِّي حتَّى رمى جمرة العقبة" رواه البخاري برقم (1687)، ومسلم برقم (1281)، يقول ابن باز رحمه الله: "ويبقى فيها (أي: في عرفة) إلى غروب الشمس مشتغلاً بالذكر، والدعاء، وقراءة القرآن، والتلبية؛ حتى تغيب الشمس، ويشرع الإكثار من قول" إلا إله إلا الله وحده لا شريك له..."
.
وعموماً فإنه ينبغي في موقف عرفة الإكثار من الأذكار والأدعية الواردة في الشرع في كل وقت، لاسيما في هذا الموضع، وفي هذا اليوم العظيم، وعلى العبد أن يختار جوامع الذكر والدعاء.
فهنيئاً لك عبد الله
يا من وقفت بعرفة بجوار قوم يجأرون إلى الله بقلوب محترقة، ودموع مستبقة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحب ألهبه الشوق وأحرقه، وراج أحسن الظن بوعد الله وصدَّقه، وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، ومن أعسر الأوزار فكه وأطلقه، وحينئذ يطَّلع عليهم أرحم الرحماء، ويباهي بجمعهم أهل السماء، ويدنو ثم يقول: ما أراد هؤلاء؟ لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان، وأعطاهم نهاية سؤالهم الرحمن
.
فاللهم لا تحرمنا فضلك، وألحقنا بركبهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.