الحمد لله الذي يسّر الحج إلى بيته الحرم، وجعله أحد أركان الإسلام، أحمده سبحانه وأشكره على كل خير وفضل مدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين رب الأنام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، خير من صلى وصام وحج وقام، وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم الدين، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: }يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {[آل عمران:102].
حجاج بيت الله، كلما جاء شهر ذي الحجة وحلّت مواقيت الحج تألقت صفحةٌ من تأريخ الإسلام، ووقفةٌ من وقفات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أهم معالم رحلة الحج، إلى جانب أداء المناسك العبادية تلك المعاني الجامعة والمبادئ البليغة، التي خاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في حجة الوداع، لقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المبادئ التي لم تكن شعارات يرفعها أو يتاجر بها، بل كانت هي مبادئه منذ فجر الدعوة يوم كان وحيداً مضطهداً، وهي مبادئه يوم كان قليلاً مستضعفاً، لم تتغير في القلة والكثرة، والحرب والسلم، وإعراض الدنيا وإقبالها، وهي مبادئه التي يُرسّخها في نفوس أصحابه، لينقلوها إلى العالم فيسعد بها، ولقوتها وصدقها لم تذبل مع الأيام، ولم تمت مع تعاقب الأجيال، وإنما هي راسخة تتجدد في الأقوال والأعمال، مبادئُ سُكبت مع عباراتها دموع الوداع، ومن أجل ذلك سُمّيت خطبة الوداع، وفيها حذّر من الشرك، ذلك الداء الوبيل الذي يفتك بالإنسانية ويحطّم روابطها، ويقطع صلتها بمصدر الخير، ويهوي بها في أودية سحيقة، تتوزعها الأهواء، وتأسرها الشهوة، ومن ثم فالمعنى الأصيل الذي تدور عليه أحكام الحج بل تقوم عليه أحكام الدين كلها وحدانية الله.
وفي خطبة الوداع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) أخرجه البخاري ومسلم.
مبادئ خالدة لحقوق الإنسان، لا يبلغها منهجٌ وضعي، ولا قانون بشري، فلصيانة الدماء قال تعالى: }وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ {[البقرة:179]، ولصيانة الأموال قال تعالى: }وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا {[المائدة:38]، ولصيانة الأعراض قال تعالى: }ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ {[النور:2]، هذا لغير المحصن.
يحترم الإسلام حق الحياة احتراماً كبيراً، يحترم الحياة الطاهرة الصالحة، لا حياة الفجور والفتنة، ولا حياة الظلم والعدوان، ولا قيمة لاحترام حق الحياة للإنسان إذا لم يصاحب الاحترامَ تشريع عادل للحياة وتنظيم لها.
يرعى الإسلام حق الإنسان في حفظ حياته لتكون حياةً كريمة، يحوطها الأمن والاستقرار والاطمئنان، يبني الإسلام الأمنَ في نفس المسلم، ثم يبني به حياته، فيقيم العدل بين الناس على شرع الله، ويبني القوة والسلطان، الذي يقيم شرع الله في الأرض، ويبني العلاقات الكريمة بين الناس بروابط إيمانية، تحمي الأمن وتصونه، أخوةٌ لله لها حقوق وعليها مسؤوليات، أرحام توصل في الله، بر الوالدين وحسن الجوار، خطبة وسكن وزواج، ثم تعارف بين الشعوب ليكون أكرم الناس أتقاهم.
ومن مبادئ حقوق الإنسان في الإسلام أنه لا يجوز أن يؤذى إنسانٌ حضرةَ أخيه، ولا أن يهان في غيبته، سواء كان الإيذاء للجسم أو للنفس بالقول أو الفعل، ومن ثم حرّم الإسلام ضرب الآخرين بغير حق، ونهى عن التنابز والهمز واللمز والسخرية والشتم، روى البخاري أن رجلاً حُدّ مراراً في شرب الخمر، فأتي به يوماً، فأُمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله)).
ولم يكتفِ الإسلام بحماية الإنسان وتكريمه حال حياته، بل كفل له الاحترام والتكريم بعد مماته، ومن هنا أمر بغسله وتكفينه، والصلاة عليه ودفنه، نهى عن كسر عظمه أو الاعتداء على جثته وإتلافها، روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)).
حجاج بيت الله، إن الحضارة الحديثة، وبعبارة أدق الحضارة المادية البحتة أعلنت مبادئ لحقوق الإنسان، لكنها قاصرة ضعيفة، تسيرها المصالح الأرضية، وتقودها العنصرية المقيتة، كما أنها لا تملك العقيدة التي ترسّخها، والإيمان الذي يحييها، والأحكام التي تحرسها، ولذا فهي تُنتهك في أرقى دول العالم تقدما وحضارة مادية، ثم أين حقوق الإنسان الذي انتُهك قدسه الشريف، واغتُصبت أرضه، وصودِرت أمواله، ونُزف دمه سنين عديدة؟! أين حقوق الإنسان وأخلاقه تدمّر، وقيمه تحطّم، وإنسانيته تنتهك في حرب لا فضيلة تحرسها، ولا قيم توجهها؟!
قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)) رواه مسلم.
لقد كانت الدماء في الجاهلية رخيصة، وكانت النفس الإنسانية هينة، وكان القتل تجارة، قامت عليهم الحرب، وإراقة الدماء، إذ لم تكن لهم رسالة للحياة، ولا عقيدة تطهّرهم من هذه الأرجاس، فجاء الإسلام ليغير هذه المبادئ، وليضع للحياة أسساً، يحترم النفس الإنسانية، وتجعل قتلها دون مبرّر جريمة في حق البشرية، قال تعالى: }مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً {[المائدة:32].
لقد كانت العصبيات قبل البعثة عميقة الجذور، قوية البنيان، فاستطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتثّ التمييز العنصري بكل صوره وأشكاله، من أرضٍ كانت تحيي ذكره، وتهتف بحمده، وتتفاخر على أساسه فقال: ((كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولأحمر على أبيض، ولا أبيض على أحمر، فضل إلى بالتقوى))، وبهذا تتلاشى جميع الفوارق والقيم الأرضية الجوفاء، فليس العبرة في التقويم بحمرة لون الإنسان أو سواده، ولا بنسبه أو ماله أو منصبه الدنيوي؛ لأن هذا كله مما يحبوه الله الإنسان، فيتلقاه غير مختار في قبوله، عن طريق العبودية والسنة الكونية، لكن هناك ميزاناً واحداً للتقويم، }إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ {[الحجرات:13].
وفي أعقاب الزمن ينبري أقوام من بني جلدتنا لإحياء العصبيات الجاهلية، ويهتفون بها، ويتفاخرون على أساسها، يمنحونها الاستمرار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((دعوها فإنها منتنة)) رواه مسلم.
وفي خطبة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأول رباً أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله)) رواه مسلم.
لم يحرم الله الربا إلا لعظيم ضرره، وكثرة مفاسده، فهو يفسد ضمير الفرد، ويفسد حياة الإنسانية بما يشيع من الطمع والشره والأنانية، يميت روح الجماعة، ويسبب العداوة، ويزرع الأحقاد في النفوس، لذا أعلن الله تعالى الحرب على أصحابه ومروِّجيه، حرباً في الدنيا؛ غلاءً في الأسعار، أزمات مالية، وأمراضاً نفسية انعدمت معها معاني التعاون والإيثار، وأما في الآخرة فعذاب أليم، قال تعالى: }ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرّبَوٰاْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ {[البقرة:275]، ويعتبر النظام الربوي مسؤولاً عن كثير من الأزمات المالية والاقتصادية التي عمت الأفراد والجماعات والدول.
وفي خطبة الوداع يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله)) رواه مسلم. لقد حفظ الدين الحنيف للمرأة حقوقها، وكرّمها أماً وزوجةً وبنتاً، عُني بها منذ أول نفسٍ لها في الحياة إلى أن تسلم روحها إلى خالقها وبارئها، جعل جسدها حرمة لا يجوز النظر من أجنبي إليه، بعد أن كان للجميع حقاً مشاعاً، أعطاها حق الإرث، وحق العلم، سوّى بينها وبين الرجل في الأجر والثواب والتكاليف العبادية، قال تعالى: }مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً {[النحل:97]، إننا لن نتحدث عن حقوق المرأة في الإسلام بنظريات جوفاء، ومؤتمرات رعناء، بل ندعو الجميع لقراءة سِير المؤمنات، خديجة وسمية وأسماء، عائشة وحفصة والخنساء، نفتح لهم صفحات من التاريخ المشرقة، ليعيشوا مع المرأة المسلمة مثلاً حيةً، وقدوات فذة، ندعو للتأمل ليروا كيف رفع الإسلام المرأة، طهر مشاعرها، أدّب سلوكها، سما بمقاصدها وأمنياتها، يسطّر التاريخ أحرفاً بمداد من نور جلائلَ أعمال المؤمنات الخالدة ذكرى، وهي شواهد صادقة وبراهين ساطعة على ما لهن من نبل ورفعة وشأن، والذين نصبوا أنفسهم هداة مصلحين زاعمين أنهم سيقودون المرأة إلى السبيل الأقوم يصمون غيرهم من دعاة الحشمة والعفاف بالسفه والتأخر والجمود والتحجر، وإذا أمعنت النظر في مطالباتهم وجدت شذوذاً في التفكير والسلوك، وانحرافاً عن الفطر السوية، نفوساً مريضة أسرها الهوى، وغلبها داء الشهوة، وأحاطت بها وساوس الباطل من كل جهة، ليسلبوا المرأة قيمتها، والحرة عزتها، والعفيفة عفافها وشرفها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
وفي خطبة الوداع قال صلى الله عليه وسلم: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله)) رواه مسلم.
الذي خلق الإنسان أعلم بما يصلحه ويحقق سعادته، ألا وهو الاعتصام بالكتاب والسنة، قال تعالى: }إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ {[الإسراء:9]، أي يهدي للتي هي أقوم في شؤون المعاملات، ويهدي للتي هي أقوم في شؤون القضاء، ويهدي للتي هي أقوم في شؤون الحكم والسياسة، ويهدي للتي هي أقوم في شؤون المال والاقتصاد، ويهدي للتي هي أقوم في شؤون التربية والتعليم، ويهدي للتي هي أقوم في الأخلاق، قال تعالى: }مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء {[الأنعام:38].
فمن أراد العزة ففي هداية القرآن العزة قال تعالى: }وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ {[المنافقون:8]، ومن كان يريد الأمن والسلام ففي هداية القرآن تحقيق الأمن وتحقيق السلام }ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ {[الأنعام:82]، ومن أراد الرخاء الاقتصادي ففي هداية القرآن الرخاء، قال تعالى: }وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ {[الأعراف:96]، ومن أراد القوة ففي هداية القرآن توجيه الدولة إلى الإعداد والقوة، قال تعالى: }وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ {[الأنفال:60]، وفي القرآن مبادئ الكرامة الإنسانية، وتقرير حقوق الإنسان، قال تعالى: }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {[الإسراء:70].
ومنذ كان المسلمون السابقون والسلف الصالح يأخذون أنفسهم بتعاليم القرآن كانوا أئمة يهدون الناس بأمر الله، أقاموا دولة الإسلام الرحيمة، ومنذ تخلوا عن هذه الآداب صاروا شيعاً وأحزاباً يضرب بعضهم رقاب بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وهذا ما حذّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقد قال في بعض خطبها: ((ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))، ومنذ تركوا هذه الهداية، ضاعت المقدسات، وانتهكت الحرمات، وسالت الدماء هينة رخيصة.
فهذه خطبة الوداع نداء يوجّه إلى أمة الإسلام بمناسبة الحج، لتحقيق المراجعة المطلوبة، والاستقامة على الطريق، والاستجابة لنداء سيد المرسلين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ألا وصلوا عباد الله على رسول الهدى ...