الإحرام من الميقات
الحمد لله رب العالين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله عز وجل عظَّم بيته الحرام، وجعل له حرماً يحرم فيه ما لا يحرم في غيره من البقاع، ثم لما أوجب الله على عباده الحج والعمرة عظَّم هذه المناسك، وجعل لها مواقيت مكانية وزمانية، وأوجب على من أراد الحج والعمرة الإحرام من تلك المواقيت المكانية، فلا يحل لمن أراد الحج والعمرة تجاوزها بغير إحرام.
وهذه الأماكن هي: ذو الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل، ويلملم، وذات عرق.
أما المواقيت الأربعة الأولى فقد وردت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهلُّه من أهله" رواه البخاري (1454)، ومسلم (1181)، وجاء عن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مهلُّ أهل المدينة ذو الحليفة، ومهلُّ أهل الشام مهيعة وهي الجحفة، ومهلُّ أهل نجد قرن)) رواه مسلم (1182).
وأما ميقات ذات عرق فقد دل عليه ما ثبت عند أبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل العراق ذات عرق"
، وفي صحيح البخاري "أن أهل الكوفة والبصرة أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم فحدَّ لهم ذات عرق" رواه البخاري (1458).
فإحرام من أراد الحج أو العمرة واجب من هذه المواقيت باتفاق المذاهب الأربعة
، فإذا ما أتى عليها أو حاذاها وجب عليه الإحرام سواء أتى من طريق البر أو البحر أو الجو، أما من كان دونها أو كان من أهل الحرم فيحرم من محله لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((فمن كان دونهن فمهلُّه من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يهلُّون منها)) رواه البخاري (1454) ومسلم (1181).
حكم من تجاوز الميقات بدون إحرام:
من مرَّ بالميقات فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون ناوياً ومريداً للحج أو العمرة فيحرم عليه مجاوزة الميقات بغير إحرام، فإن تجاوزه بلا إحرام فلا يخلوا من حالين:
أ) أن يرجع فيحرم من الميقات فلا شيء عليه حينئذ؛ لأنه أحرم من الميقات المأمور به، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة
.
ب) أن يُحرم بعد الميقات ولا يرجع إليه فعليه دم باتفاق المذاهب الأربعة لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ((من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً))
.
الثانية: أن يقصد الحرم غير ناو أو مريد للحج أو العمرة كمن أراد التجارة، أو القيام بعمل من الأعمال له أو لغيره، أو زيارة لأقربائه؛ فهذا اختلف فيه أهل العلم على قولين من حيث الجملة:
الأول: وجوب الإحرام عليه، وهو مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
على اختلاف بينهم في جملة من التفاصيل والاستثناءات، واستدلوا على ذلك بجملة من الأدلة منها:
قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّه}(المائدة:2) وأن المراد بشعائر الله: أعلام الحرم, والنهي عن إحلالها يقتضي منع دخول الحرم بلا إحرام.
وأجيب عن ذلك بعدم التسليم؛ إذ يحتمل أن المراد بالشعائر هنا المناسك، أو الصيد حال الإحرام، والدليل إذ دخله الاحتمال بطل به الاستدلال.
كما استدلوا بما رواه البيهقي وابن أبي شيبة والطحاوي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((لا يدخل أحد مكة إلا محرماً)) قال ابن حجر في التلخيص: "إسناده جيد, ورواه ابن عدي مرفوعاً من وجهين ضعيفين"
والصواب في الحديث أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما.
وممن اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال في منسكه: "وإن قصد مكة للتجارة أوالزيارة فينبغي له أن يحرم, وفي الوجوب نزاع"
.
الثاني: عدم وجوب الإحرام، وبه قال الشافعية في المشهور من مذهبهم، وهو رواية في مذهب الحنابلة اختارها جماعة منهم، واستدلوا على ذلك بأدلة:
منها ما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقت المواقيت قال: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن ممن أراد الحج أوالعمرة)), فدلَّ بمفهومه أن من لم يرد الحج أوالعمرة فلا يشمله الحكم في الحديث، كما استدلوا بما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر)), فإن ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن محرِماً لأن المحرم يمنع من تغطية رأسه, وعلى هذا نص الإمام مالك في موطأه, وذكره البخاري في صحيحه معلقاً فقال: قال مالك: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى - والله أعلم - يومئذ محرم، واستدلوا من حيث النظر بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب العمرة مرة واحدة, ولو أوجبنا على كل من دخل الحرم أن يحج أو يعتمر لوجب الحج والعمرة أكثر من مرة، واختار هذا القول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله حيث قال: "إن كان حين مروره بالميقات لم يرد حجاً أو عمرة؛ وإنما أراد حاجة أخرى بمكة كزيارة لبعض أقاربه، أو أصدقائه، أو تجارة أو نحو ذلك؛ فمثل هذا لا شيء عليه"
.
الإحرام قبل الميقات:
حكى جماعة من أهل العلم الإجماع على أن من أحرم قبل الميقات فقد صح إحرامه قال ابن قدامه رحمه الله: "لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرماً تثبت في حقه أحكام الإحرام، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، ولكن الأفضل الإحرام من الميقات، ويكره قبله"
.
وخالف في ذلك ابن حزم فأبطل إحرام من أحرم دون المواقيت
، والمتحقق في المسألة قول عامة أهل العلم.
ولكن إذا كان الإحرام قبل الميقات للاحتياط كمن هو راكب في الطائرة مثلاً فإن الكراهة تزول في حقه كما قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله وهو يذكر قرار المجمع الفقهي الإسلامي: "وقرر- أي المجمع - أن الواجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا أقرب ميقات لهم من هذه المواقيت الخمسة جواً أو بحراً، فإن اشتبه عليهم ذلك، ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة؛ وجب عليهم أن يحتاطوا، وأن يحرموا قبل ذلك بوقت يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز مع الكراهة ومنعقد، ومع التحري والاحتياط خوفاً من تجاوز الميقات بغير إحرام تزول الكراهة؛ لأنه لا كراهة في أداء الواجب، وقد نص أهل العلم في جميع المذاهب الأربعة على ما ذكرنا"
.
من أين يحرم من لم يكن في طريقه ميقات؟
إذا لم يكن في طريق الحاج أو المعتمر ميقات فإنه يتحرى محاذاة أقرب ميقات له ثم يحرم لحديث البخاري ((أن أهل الكوفة والبصرة أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق)) رواه البخاري (1458).
يقول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: "الذي لم يكن الميقات في طريقه فإنه يتحرى محاذاة أول ميقات يمرُّ به ثم يحرم، والذي لا يتسنى له لا هذا ولا ذلك فإنه يحرم إذا كان بينه وبين مكة مرحلتان وهما يوم وليلة، ومقدار ذلك ثمانون كيلاً تقريباً"
.
حكم من تجاوز ميقات بلده وأحرم من ميقات بلد آخر:
إذا تجاوز الحاج أو المعتمر ميقات بلده بدون إحرام ثم أحرم من ميقات بلد آخر غير ميقات بلده فإن العلماء اختلفوا فيه على أقوال:
القول الأول: أن عليه دم؛ لأن تجاوز الميقات لمريد النسك لا يجوز، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، والشافعية، وهو قول الثوري والليث بن سعد، واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقت المواقيت قال: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن ممن أراد الحج أوالعمرة))، فهذا يدل على أن كل من أتى وقتاً وهو يريد الإحرام فليس له أن يتجاوزه إلا محرماً؛ فإذا ترك الإحرام في ميقاته الذي مرَّ به حتى عاد إلى غيره فأحرم فالقياس أن لا يسقط عنه الدم حتى يعود إلى ميقاته الذي مرَّ به
.
القول الثاني: ليس عليه شيء، وبهذا قال أبو حنيفة وبعض الشافعية، والأوزاعي وأبو ثور، وقالوا: إن كل واحد من هذه المواقيت الخمسة ميقات لأهله ولغير أهله بالنص مطلقاً، قال محمد بن الحسن: "ومن جاوز وقته غير محرم، ثم أتى وقتاً آخر فأحرم منه أجزأه، ولو كان أحرم من وقته كان أحبَّ إليّ"، وقال الإمام النووي: "قال صاحب البيان: سمعت الشريفي العثماني من أصحابنا يقول: إذا جاوز المدني ذا الحليفة غير محرم وهو مريد للنسك فبلغ مكة غير محرم ثم خرج منها إلى ميقات بلد آخر كذات عرق أو يلملم وأحرم منه فلا دم عليه بسبب مجاوزة ذى الحليفة؛ لأنه لا حكم لإرادته النسك لما بلغ مكة غير محرم؛ فصار كمن دخل مكة غير محرم، وقلنا يجب الإحرام لدخولها لا دم عليه هذا نقل صاحب البيان، وهو محتمل وفيه نظر"
.
وقالت اللجنة الدائمة: "إذا تجاوز الحاج أو المعتمر ميقات بلده بدون إحرام ثم أحرم من ميقات بلد آخر غير ميقات بلده؛ فعليه دم؛ لأنه تجاوز ميقات بلده، وأحرم دونه"
.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، ويجنبنا معاصيه، ويعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، والحمد لله رب العالمين.