فأوصيكم ـ عباد الله ـ وأوصيكم ـ حجاج بيت الله ـ بتقوى الله عز وجل، فإن التقوى خير الزاد، وبها صلاح البلاد والعباد في المعاش والمعاد، وهي الطريق المبلغ لرضا رب العباد.
أيّها المسلمون، ها قَد دارَ فلكُ الزَّمان دورتَه، وحلَّت بالأمة الإسلامية مناسبةٌ عظيمة، وأظلَّتها مواسم بالخيرات عميمة، تبدّى لنا هلالُ شهرِ ذي الحجَّة الحرام، ليسكبَ في قلوبنا نورًا من أنوارِه، وليُتلِعَ أرواحَنا بفيضٍ مِن حِكَمه وأسراره. أيامٌ قلائِل وأمّتنا الإسلاميّة قابَ قوسين أو أدنَى من أداءِ فريضةِ الحجِّ إلى بيتِ الله الحرام الركنِ الخامسِ من أركان الإسلام، فنسأل الله تعالى أن ييسِّر على حجّاج بيته الحرام، ويعينهم على أداء مناسكهم، إنه جواد كريم.
أيّها الحجّاج الميامين، قدِمتُم خيرَ مقدَم، أهلا حللتم، وسهلا وطئتم، طِبتم وطاب ممشاكم، وحقّق الباري سؤلَكم ومُناكم. تشرف بكم بلادُ الحرمين حرسها الله، فخِدمتُكم تاجُ فَخار يتلألأ على صدورِ أهلِها، ووِسامُ شرفٍ يتألَّق في عِقدِ جيدِ أبنائها. وإنّ الشوقَ إلى هذا البيتِ العتيق والانعطافَ إلى هذه العرَصاتِ المقدَّسة والنّزوعَ إلى هذه المشاهدِ المُنيفةِ والبِقاع الشّريفةِ إذا عايَنها المحِبّ المُعنَّى تبدّدَت لدَيه كلُّ المشاقِّ واللأواء.
فحيّـهلا إن كنـت ذا همـة حدا بك حادي الشوق فاطوِ المراحلا
وقل لِمنادي حبِّهم ورضـاهمُ إذا ما دعـا لبيـك ألفًـا كـوامـلا
ولقد خالَطكم ذلك النّفحُ الإيمانيّ وزايَلتموه، كيفَ والمسجدُ الحرام نصبَ الأعينِ قرَّة ومِلءَ القلوب إجلالاً ومسَرّة؟! فحقًّا على كلِّ قاصدٍ له شُكر الباري على ما أسداه وحمدُه على ما خصَّه به وأولاه، ومِن شُكر نعمة الله أداءُ هذه الفريضة وإتمامُها كما شرعَ الله، وكما قال جلّ في علاه: }وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ{[البقرة:196].
حجّاجَ بيتِ الله، ها أنتم أولاءِ في رحابِ الحرمين الشّريفين، تعيشون أجواء مفعمةً بالرَّوحانية في أجلّ مناسبة إسلامية عالميّة، فلِلّه درُّكم من إخوةٍ متوادّين متراحمين، وأحبّةٍ علَى رِضوان الله متآلفِين متعاونين، وصَفوةٍ لنسائِم الإيمانِ متعرِّضين، ذَوَت في جليلِ مقصدِكم زينةُ الأثواب وعزّةُ الأنساب وزخارفُ الألقاب والأحساب، يقول تباركت أسماؤه وعمّت نعماؤه: }وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ{[الحج:27، 28]. وتأمّلوا ـ يا رَعاكم الله ـ الأسلوبَ التنكيريّ في سياق الامتِنان، وهي صيغة من صيغ العموم لتعمّ منافع الدِّين والدّنيا والآخرة.
معاشر المسلمين، وفي هذه الموَاكبِ المَهيبةِ والحشودِ المباركةِ الحبيبةِ التي اتّحَدَت زمانًا ومكانًا شَعائرَ ومشاعرَ يعقِد الإسلامُ وفي أحكَمِ ما يكون العَقد بإحدَى منافعِ الحَجِّ الجُلَّى مَناطَ الوحدةِ الجماعيّة والروحيّة الصّلبة التي تنحَسِر دونَها كلُّ المِحَن والمآسي التي ارتكَسَت فيها أمّتنا، يقولُ جل وعلا: }}وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[المؤمنون:52].
ولئِن تبصَّر المسلِمون أحوالَهم في هذا المنعطَف الخطيرِ مِن تأريخ أمتهم لأيقَنوا بأنّ ما لحِقهم مِن ذلٍّ ومهانة وما مسَّهم من لُغوب وضنَى واستكانة فِي كثيرٍ مِن المجتمعاتِ إنّما يعود إلى تمزُّقِ عُراهم وتفرُّق وقواهم. وما شعيرةُ الحجّ ـ أيها الحجّاج الأماجد ـ في مجمَعِها العتِيد وجوهرِها ومظهرِها الفريد إلاّ دعوةٌ للمسلمين إلى وجوب الوحدةِ والاتّحاد وثنيٌ لهم عمّا مُنوا به في هذه الحِقبةِ المعاصِرة من تقاطُعٍ وضعفٍ وتدابر. لقد آن الأوانُ أن تجعَلَ أمّة الإسلامِ مِن هذا الموسِم الوحدَويّ فرصةً لاجتماعِها ومناسبةً لاتّحادِها بعدَما فرّقَتها الفتنُ والأهواءُ وشتّتتها المِحَن واللأواء، والله عزّ وجلّ يقول: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ{[الحجرات:10]، ويقول سبحانه: }}وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا[آل عمران:103].
إخوةَ الإيمان، ضيوفَ الرّحمن، وكُبرَى القضَايَا التي ارتكز عليها ركنُ الحجّ الركين وقامت عليها جميع الطاعاتِ والعباداتِ هي تجريدُ التّوحيد الذي هو حَقّ الله على العبيدِ وإفرادُه سبحانه بالعبادةِ دونَ سواه ونبذُ الشّرك وما ضاهاه.
فلواحدٍ كن واحدًا في واحدِ أعني طريقَ الحقِّ والإيمان
فصلاح العقيدة سبب لكلّ صلاح، وأعظم مقاصد الحج توحيد الله في العقيدة والمنهج والإذعان له من كل فجّ والتقرّبُ له بالعجّ والثجّ، وما التلبيةُ التي يدوّي بها الحجيج وتهتزّ لها جَنَباتُ البلدِ الأمين وتجَلجِل بها المشاعرُ المقدّسة إلاّ عنوان التوحيدِ والإيمانِ وشعار الطاعة والإذعان، وقد وصفَ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما إهلالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم قائلاً: فأهلَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: ((لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنعمة لك والملك، لا شريك لك))، ولأجلِ التوحيدِ رُفعَت قواعِد هذا البيت المعظّم، }وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا{[الحج:26].
ومع تقرُّر ذلك كلِّه ووضوحه وضوحَ الشمس في رابعة النهار إلا أنّ البعضَ لا يفتأ يشوب هذا التوحيدَ بما يُكدّر صفاءه ويخدِش بهاءَه، فهل يغني شيئًا دعاءُ القبور والتمسُّح بالأحجار والستور وسؤالها قضاءَ الحاجاتِ ودفعَ الشرور؟! كلاّ ثمّ كلاّ. إنّ الغَيورَ ليذرِف الدّموع الحرّاءَ على ما آلَ إليه في ذلك حالُ بعض أهلِ الشريعة الغرّاء، فالله المستعان.
إنّ الواجبَ على أهلِ الإسلام عمومًا وقاصِدِي المسجدِ الحرامِ خصوصًا أن يكونوا مَثَلاً عاليًا في إسلامِ الوجهِ لله وإفراده بخالِص التوحيدِ وصدق العبوديّة، مع التمسُّك الوثيق بالسنّة والتزام منهج الإسلام الحقِّ في الاعتدال والوسطية، }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا{[البقرة:143]، والتحلّي بجميل الأخلاق والمزايا وكريم الشمائل والسجايا.
أمّةَ الإسلام، الحجّ مشهدٌ جليل مهيب من مشاهد هذه الأمة، يجتمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، وإن الناظر في أحوال الحجيج يقف على صورة جليّة تحكي واقع الأمة الإسلامية بحلوه ومرِّه، ولذلك فإن من المنطلقات المهمة أن تستثمرَ الأمة هذه المناسبة العظيمة لإصلاح واقعها في جميع جوانبه. إن المستقرئ لأحوالها يرجع بالأسَى لما آل إله أمرها في كثيرٍ من أوضاعها، حيث اندرَست جملةٌ من معالم الشريعةِ حينما كدّرتها شوائب الضلالةِ والهوى، فانفرط عِقد وِحدتها، وتناثَر سلسال رونَقِها، وتفرَّقت بها السُّبل والآراء، وتجارَت بها المحَن والأهواء، وذرّ قَرن الفتنة في كثيرٍ من مجتمعاتها، وتكلّمتِ الرُّويبضة، واستنسَر خفافيش الظلام ممن في نفوسِهم غرض وفي قلوبهم مرَض، وتنامى فِكر الغلوِّ والإرهاب، ولم تسلَم البلاد الآمنة من غوائِل العنف والإرهاب.
ومما يزيد الفتَنَ فِتنًا افتِتان كثير من أبنائها بالعَولمة المعاصِرة التي لم تكتَفِ بترويجِ ثقافات وأنماطٍ سلوكيّة مجرّدَة، بل تجاوزت ذلك إلى اختراقِ العقول والأفكار بالمبادئ المادّية التي تعرض عن هدايات الوحي الربانيّة، مما يكشف بجلاءٍ عن مدَى التقليد والتبعيّة التي تنخر في جسدِ الأمة الإسلامية، وتحوطها بالضّعف والخوَر والانهزاميّة، ولذلك فإنّ الحج فرصة للتّذكير بأنّ مدار صلاح الأمة وسعادتها وعِزّتها وريادَتها على قوّة تمسُّكها بعقيدتها وثوابِتِها.
ألا ما أروعَ شأنَ الحجيج حينما يعبِّرون عن عبوديّتهم لربهم بالتزامِهم أمرَه، وما أحسن حالَهم وهم يهتِفون بحبِّهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم بمتابعةِ سنّته عليه الصلاة والسلام في المناسك وغيرها، وما أجلَّ تعبيرَهم عن الإيمان بتكبُّد المشاقّ ليؤَدّوا المناسكَ على وجهها الشرعيّ، وما أجملَ شعارَهم حين يلبّون لله بالتّوحيد.
أما والذي حجَّ المحبّون بيتَه ولبَّوا له عن المهلِّ وأحرَموا
دعاهم فلبَّوه رضًـا ومحبّةً فلمّا دعَوه كان أقـربَ منهمُ
ونحسبُ أنَّ نفوسَ إخوانِنا الحجّاج مقبِلةٌ على الطاعةِ، متقرِّبة إلى الله بالعبادةِ، متخلِّية عن كلِّ الشعارات، مبتعِدَة عن المزايدات والمهاترات، محاذِرة كلَّ اللوثات والمخالفات، ملتزِمَة بكافَّةِ التوجيهات والتّعليمات؛ لذلك كان هذا المقامُ مِن أعظم المقامات التي يتأكَّد فيها التنادِي بالصّلاح والإصلاح على منهَج النّجاح والفلاح، المتمثِّل في الكتابِ والسنّة بفَهم سلَف الأمّة رحمهم الله.
فيا أمّة الإسلام، ويا حجَّاج بيت الله الحرام، يا جموعَ الطائفين بكعبةِ الله، القائمين حولَ بيت الله، الرّاكعين الساجدين في حرَم الله، يا مَن أتيتم من كلِّ فجٍّ عميق واجتمَعتم في أرجاءِ هذا البيت العتيق، هذه قِبلتكم قِبلَة واحدة، وهذه أمّتكم أمّة واحدة، فبأيِّ مسوِّغٍ شرعيّ تختلفون؟! وبأيّ مقتضًى علميّ تتفرّقون؟! وبأيّ موجب منطقيّ تتنازعون، وأنتم أمام قِبلتكم تجتَمعون، وحيثما كنتم إليها تتوجّهون وشطرَها تيَمِّنون؟! أما تعلمون وتوقِنون أنّ في مخالفتكم ما أُمِرتم به من الاعتصامِ بحبل الله جميعًا ذهابَ ريحكم وضياعَ هيبتكم وتسليطَ عدوِّكم عليكم؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقفِ العظيم: ((ترَكتُ فيكم ما إن تمسَّكتُم به فلن تضلّوا بعدي أبدًا: كتابَ الله)).
أيّها الماثِلون بين يديِ الله، الميمِّمون وجوهَكم شطرَ حرمِ الله، ألم يئِن الأوانُ أن تتوحَّدوا فلا تتنافروا، وتتفاعَلوا مع قضاياكم فلا تتخاذَلوا؟! وليس لغيرِ ذلك من جدوًى تستنقِذكم مما ألمَّ بكم.
أيّها المقدِّسون لحُرُمات الله، أما تعلَمون أنّ حرمةَ هذا البيتِ عند الله عظيمة، وأن حرمة دم المسلم أعظمُ حرمة منه عند الله؟! إنّ المعظِّمين لهذا البيت حقًّا هم من يُعظِّمون حرمةَ دماء المسلمين، ويصونون حرماتهم، ويذودون عنها بكلِّ ما يستطيعون، بل يتترَّسون بقلوبهم ويتحصَّنون بأرواحهم ويفتدونهم بفلذات أكبادهم دون أن يُخلَص إليها أو يهلكون، فكيف إذا كان منهم من يستبيحها أو يعين عليها أو يسكت ويتغاضَى عن مرتكبِيها؟! ألم يقُلِ المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيمِ: ((إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))؟! ألم يقل عليه الصلاة والسلام: ((ألا لا ترجِعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض))؟! فضرَب بعضنا رقابَ بعض، وأعمَل في إخوانه خروجًا وتكفيرًا وفي مجتمعِه إفسادًا وتفجيرًا وفي وطنِه تخريبًا وتدميرًا، فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
فيا أيّها المحرِمون المحَرِّمون لأكناف هذا الحرَم الطاهر، ألستم تسأَلون عن أكنافِ شقيقه المسجد الأقصى المبارك؟! أوَلَست أكنافه هناك تُستَباح؟! أوَليس يعيش سَليبًا معيبَ الجناح؟! فإلى الله المشتَكى، وهو حسبنا ونعمَ الوكيل، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولكن مع كلِّ ذلك فالتفاؤل عظيمٌ بانبلاجِ نورِ الصباح، والله وحدَه المستعان.
فيا حجّاجَ بيت الله، إنّنا نناشدكم اللهَ أن تكونوا في طليعةِ الأمة إلى إصلاح أحوالها، وفي الصّدارة إلى استقامةِ أوضاعها، }إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ/span>{{[الرعد:11]. ولتستقبلوا أيّامكم بصفحةٍ ناصعَة مفعَمَة بجلائل الأعمال، ولتعلَموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ من أسباب صلاحِ الحال ورفعِ البلاء الإلحاحَ على الله بالدعاء الدعاء، فادعوا اللهَ وأنتم موقنون بالإجابةِ، وخصّوا إخوانكم المستضعفين في الأرضِ المباركة فلسطين، وفي بلاد الرافدين وغيرِها من البلاد المنكوبةِ بالزلازل والفيضاناتِ بمزيدٍ من الدعوات الصالحات فلعلّ وعسى.
عسى وعسَى من قبلِ وقتِ التفرّق إلى كل ما نرجو من الخير نلتقي
فيُجبَر مكسـورٌ ويُقبَـل تــائبٌ ويُعتَق خطّـاءٌ ويُسعَد مَن شقِي
ومَن منَّ الله عليه فضلاً منه ومنًّا بأن يعيدَه من ذنوبه كيوم ولدَته أمّه كيف يسوِّد صفحاتِه في مستقبَل أيّامه ويستقبل حياتَه بمساخطِ الله والجرأةِ على حدوده، ألا فلنقلِع عن كلّ أمرٍ محرّم، ولنذَر كلَّ فعلٍ مجرَّم، ولنتحلَّ بكل خيرٍ وفضيلة، ولنحذَر من كلّ شرٍّ ورذيلة، فإنّه بمجموع مخالفاتِ الأفراد وبمجمَل تهاون المجتمعات نزل بالأمّة ما نزل، ولكن لا يأس مِن رَوح الله، ولا قنوطَ مِن رحمة الله، فإنّ النصرَ مع الصبر، وإنّ الفرَجَ مع الكرب، وإنَّ مع العسر يُسرًا.
وبعدُ: أيّها المؤمنون، فهذه قَبَساتٌ من سِراج الحجّ الوهَّاج وإضاءاتٌ للحجيجِ وذكرَى ومنهاج، وإنّه لخليقٌ بالأمّة الإسلاميّة وهي تعيش مرحلةً من أخطرِ مَراحلِها التأريخيّة أن تستلهمَ مِن هذه الفريضةِ العظيمةِ دروسَ الوحدةِ والعزّة والإباء ومعانيَ الألفةِ والإخاء والمودّةِ والصّفاء والمحبَّةِ والنّقاء، لتحقّق بإذن الله السعادة والهناء؛ إذ الحجُّ وما اشتَملَ عليه من رَوحانيّةٍ أخّاذةٍ ودروسٍ وعِبَر نفّاذة أنجعُ دواءٍ لعِلَل الأمّة وأدوائها ومقاومَةِ تيّارات النّزاعات والشّقاق فيها، كما أنّه خَيرُ دليلٍ للصّدورِ بالأمّة إلى محاضِنِ أمجادِها وعريقِ مقوِّماتِها.
فاللهَ اللهَ ـ حجّاج بيتِ الله ـ في تعظيم هذه الشعيرةِ كما شرع الله، }span>ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ{<{[الحج:32]، وأدائِها كما سنَّ المصطفَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القائِلُ فيما أخرجه الشيخان: ((خذوا عنّي مناسككم))، والحذَرَ الحذرَ مِن تعرِيضِها للنّواقِضِ والنواقص في أركانِها وواجباتِها وآدابِها ومستحبّاتها وسائرِ أحكامها، واللهُ من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، }pan>الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ{[البقرة:197].
بارك الله لي ولكم في الوحيَين، ونفَعَني وإيّاكم بهديِ سيِّد الثّقلين، أقول ما سلَف، وأسأل الله أن يجعلَ لي ولكم في رحمته عِوضًا عن كلّ خلف، وتوبوا إلى الله جميعا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون، }pan>وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ{[هود:90].
الخطبة الثانية:
الحمد لله، خصَّ موسمَ الحجِّ بمزيدٍ مِنَ الطاعاتِ والقُرُبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى وكامل الصفات، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسولُه المبعوث بالهدَى والبيّنات وأحكامِ الحجِّ النيِّرات، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبِه الهداةِ التُّقاة، والتّابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو الفوز بأعالي الجنات والنجاة من مهاوي الدركات، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ وأطيعوه، وازدلِفوا إليه بالشّكرِ ولا تَعصوه، لاسيّمَا في هذه الأزمنة المباركةِ والأمكِنَة المقدّسة.
أيّها الأحبّة في الله، ومِن فضلِ الله سبحانه وجزيل نعمائه ما تعيشه الأمة الإسلامية من عبَقِ هذه الأيّامِ الغرّ الفاضلةِ العشرِ الأُوَل من ذي الحجّةِ التي عظَّم الله شأنَها ورفع قدرَها وأقسَم بها في محكَم كتابِه المبين، فقال جلّ جلالُه: }وَالْفَجْرِ *an> وَلَيَالٍ عَشْرٍ{[الفجر:1، 2]، وقال تعالى: }pan>وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ{[الحج:28].
وقد أخرج البخاريّ في صحيحه من حديثِ ابن عبّاس رضي الله عَنهما أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن أيّامٍ العملُ الصالح فيها أحبّ إلى اللهِ عزّ وجلّ مِن هذه الأيّام العشر))، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله، إلاّ رجلٌ خرَج بنفسِه وماله ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء))an>.
الله أكبر، يا لَه من فضلٍ عظيمٍ وموسمٍ بالخيراتِ عميم، فيستحبُّ في هذه العشرِ المباركة الإكثارُ من جميعِ الأعمالِ الصّالحة وخاصة التكبير، فقد روى الإمام أحمدُ من حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأَكثِروا فيهنّ منَ التّكبير والتّهليل والتحميدِ))، قال البخاريّ رحمه الله: "وكان ابن عمرَ وأبو هريرةَ رضي الله عنهما يخرُجان للسّوق ويكبِّران، فيكبِّر الناس بتكبيرها".
الله أكبر الله أكبر، لا إلهَ إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمدُ.
فبادروا ـ أيها المؤمنون ـ إلى انتهاز هذه الفرص الثمينة، فإنما هي أيام قلائل، لكنما الأعمال والأجور فيها جلائل.
حجّاجَ بيت الله الحرام، اقضُوا هذه الأيامَ المباركة مشتغِلين بالأعمال الصالحة، فإذا جاء يومُ الثامن من ذي الحجّة استُحِبّ للحجاج أن يخرجوا إلى منى ويبيتوا بها ليلةَ التاسع، فإذا طلعتِ الشمس يومَ التاسع توجّهوا إلى عرفات، فإذا زالت الشّمس وقفوا بها الموقفَ العظيم مشتغلين بالذّكر والدعاء، فما من يومٍ أكثر من أن يعتِق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، يقول صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الدّعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلتُ أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))، فإذا غربتِ الشمس ازدلَفوا إلى المزدلفة، وباتوا بها ليلةَ العيد، وفي صبيحة يوم العيد يرمي الحجاجُ جمرةَ العقبة، بسبعِ حصيات، ثم يكمِلون بقيّةَ المناسك من الذبح والحَلق أو التقصير والطّواف، قال تعالى: }an>ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ{[الحج:29].
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وتفقَّهوا في أحكامِ المناسِكِ، واسأَلوا أهلَ العلم عما يشكِل عليكم، يقول سبحانه: }an>فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ{[النحل:43].
تقبَّل الله منَ الحجّاج حجَّهم، وجعَله حجًّا مبرورًا وسَعيًا مَشكورًا وذَنبًا مغفورًا، وأعادهم إلى بلادِهم سالمين غانمين، مأجورين غيرَ مأزورين، إنّه خير مسؤول وأكرَم مأمول.
هذا، وصلوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على النبيّ المصطفى والرّسول المجتبى، خير من أدّى المناسكَ وأوضَحَها لكلّ ناسِك، فقد أمرَكم بذلكم المولى جل وعلا في محكمِ قيلِه وأصدقِ تنزيله، فقال تعالى قولا كريمًا: }إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{[الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على سيّد الأوّلين والآخرِين وأشرف الأنبياء وخاتم المرسلين نبيِّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين وصحابته الغرّ الميامين, والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتِك يا أرحمِ الرّاحمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلِمِين، وأذلَّ الشرك والمشركين...