بتاريخ : 15- 12-1424هـ
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنعم فأجزل، وقدر فهدى، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، تركنا على المَحَجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فهي الزّاد وعليها بعدَ الله المعوَّل والاعتماد، }فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{[المائدة:100].
حجّاجَ بيتِ الله الحرام، لقد منَّ الله عليكم بأداءِ هذا النسُك المبارك، فوقفتًم بعرفة، وبتُّم بمزدلفة، ورميتم الجمار، ونحرتم الهديَ، وتطوَّفتم بالبيت العتيق، وعِشتم لياليَ وأيّامًا تنهلون من مورِد العمل الصالح والنسك المشروع، فهنيئًا لكم هذا الأداء، وهنيئًا لكم حضورُ تلك العرصات المباركة. إنها لنعمة تستدعي الشكرَ للمنعِم المتمثِّلَ في الإكثار من ذكره والتوجّهِ إليه بالدعاء وحدَه لا شريك له، عملاً بقولِه تعالى: }فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ{[البقرة:200، 201]، هكذا أمَر الله بذكره عندَ انقضاء المناسك، لأنّ أهلَ الجاهلية الأولى كانوا يقِفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعِم ويحمِل الحمالات ويحمل الديات، ليس لهم ذكرٌ غير فعال آبائهم، فأنزل الله على رسولِه صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
ثمّ أرشدَ سبحانه إلى دعائهِ في هذه الآية بعدَ كثرةِ ذِكره لأنّه مظنّة الإجابة، كما أنّه سبحانه ذمَّ من لا يسألُه إلاّ في أمر دنياه وهو معرضٌ عن أمر آخرتِه، فقال جلّ وعلا: }فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ{[البقرة:200]، وسببُ هذا الذمّ ما كان يفعله بعض أهلِ الجاهلية من الأعرابِ حينما يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهمّ اجعَله عامَ غيثٍ وعامَ وِلادٍ حسن، لا يذكرون من أمرِ الآخرة شيئًا، فأنزل الله هذه الآية.
ثمّ يمدَح بعد ذلك من جمَع بين أمرَي الدنيا والآخرة، فيقول: }وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ{[البقرة:201]، وهذه الدّعوة جمعت كلَّ خير في الدنيا وصرَفت كلَّ شرّ، فشملت هذه الدعوةُ العافيةَ والرزق الواسع والعلم النافعَ والعمَل الصالح والثناء الجميل، فإنّ كلّ ذلك من الحسنة في الدنيا، وأما الحسنةُ في الآخرة فهي دخولُ الجنة، والنظر إلى وجهِ الباري جلّ شأنُه، والأمن من الفزع، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة.
وأمّا قولهم: }وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ{فهو يقتضي تيسيرَ أسبابه في الدنيا مِن تحكيم شرعِ الله في واقعِ الحياة واجتناب ما حرّم الله وترك الشبهات وما يريب، قال بعض السلف: "مَن أُعطي قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وجسدًا صابرًا فقد أوتي في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة ووُقي عذابَ النار".
وهذه الدعوةُ ـ حجّاجَ بيت الله ـ كانت أكثرَ ما يدعو بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما صحَّ الخبر بذلك عند أحمد في مسنده، وقد جاء عند مسلم في صحيحه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عادَ رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟)) قال: نعم، كنت أقول: اللهمَّ ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحانَ الله، لا تطيقه ـ أو لا تستطيعه ـ، فهلاّ قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار))، قال: فدعا الله فشفاه.
أيّها الحجاج، الحجّ إلى بيت الله الحرام فيه سمةُ المشقّة والنصب، لأنّه سفر من الأسفار المتنوّعة، والسفرُ في حدّ ذاته مبنيّ على المشقّة وركوب الأخطار، بل لقد وصفَه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: ((السّفرُ قطعةٌ من العذاب، يمنع أحدَكم طعامَه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمتَه فليعجِّل إلى أهله)) رواه البخاري ومسلم.
ولقد اجتمَع في هذا النسكِ العظيم مشقّتان، الأولى منهما مشقّة السفر، والثانيةُ مشقّة أنساك الحجّ المبنية على البعد عن الترفُّه كتقليم الأظافر وقصِّ الشعر ومسِّ الطيب وتغطيةِ الرأس ولبس المخيط، وغير ذلك ممّا يُعدّ جانبًا من جوانب المشقّة والنصَب التي يعظُم الأجر بعِظمِها كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك لعائشة رضي الله عنها. يضاف إلى ذلك أنه مظِنّة للتّزاحم والتدافع ووقوع شيءٍ من التضرّر مع تلك الجموعِ الغفيرة التي تتقاطر إلى رميِ الجمار وهي أحواضٌ صغيرة، لا تعدُّ شيئًا في مقابِل هذه الجموعِ المتكاثرَة، ممّا يستدعي الأناة والرفقَ والهدوء والتعاونَ لدى الحجّاج المثمِرةَ اليسرَ والسهولة والتّمام على الوجه الأكمَل، فالمزاحمة والاقتتالُ حالَ أداءِ بعض الأنساك كتقبيل الحجر الأسود أو رمي الجمار أو سدِّ الطرُقات في المسجد الحرام وممرّات المشاعر كلُّ ذلك مدعاةٌ لحدوث الخلَل ووقوع الإرباك في صفوف النسّاك، وقد سُمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم التوجيهُ الكريم حينما أرشد الفاروقَ رضي الله عنه إلى عدَم مزاحمة الناس عند الحجر الأسود، فإن وجد فرجةً وإلا فليستقبِله ويكبِّر ولا يزاحم. رواه الطبراني وغيره.
ألا فاتّقوا الله معاشرَ الحجاج، وعليكم بالاستقامةِ على الطاعة والتوبة بعد الحجّ وإتباع السيئة الحسنة، فإنّ من علامةِ قبول العمَل وحبّ الله ورضاه عن الحاجّ والمعتمر أن يواصلَ الطاعة بالطاعة.
فاحذر ـ أيّها الحاج ـ من النكوصِ عن العمل الصالح والتوبةِ النصوح، ولتحرِص على أن تكونَ قدوة صالحةً في أهلك وعشيرتك وبني قومك، فإنّ الله جلّ وعلا يقول: }إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ{[فصل:30-32].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فيا أيّها الناس، ويا حجّاجَ بيت الله الحرام، إنّ من المسلَّم واقعًا أنّ التزاحمَ والتدافع في الأماكنِ الصغيرة والأوقاتِ الضيّقة مظنّة ولا شكّ للأخطار، وما وقع في يومِ العقبة من وفيّات فهو مبنيٌّ على التفريطِ في مثل ما ذكرنا من الرّفق والهدوء والسكينة وعدم الاستعجال وأخذِ السّعَة فيما فيه سعَة، وإلا فإن من قَضوا نحبَهم في ذلك اليوم كانوا على خاتمةِ خير نحسبها كذلك، لأنَّهم ماتوا محرِمين، ومن مات محرِمًا فإنه يبعَث يومَ القيامة ملبيًّا، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته وهو محرِم فمات: ((اغسِلوه بماءٍ وسِدر، وكفِّنوه في ثوبَيه، ولا تمسّوه بطيب، ولا تخمِّروا رأسَه، فإنّه يُبعَث يومَ القيامة ملبيًّا)) رواه البخاري ومسلم.
فاللهمَّ ارحَم موتى العقبَة، وارفَع درجاتهم في المهديّين، واخلُفهم في عقِبِهم في الغابرين، واغفِر لنا ولهم أجمعين.
ثمّ إن كان لنا من تعليقٍ على تلك الواقعةِ فهو في الأمور التّالية:
الأمرُ الأول: أنّ ما وقَع يومَ العقبةِ لا يرجِع سببُه إلى النّاحيةِ الشرعيّة أو قصورِ الفتوى في ذلك، وإنما يرجع إلى تزاحُم الناس وتدافعهم وقلّة الوعي لديهم، وإلاّ فأهلُ العلم قد بيّنوا أن وقتَ العقبة يبدأ من طلوع فجر يومِ العيد إلى فجرِ يوم الثاني، وأجازوا الرميَ قبلَ فجرِ يوم العيد بعدَ منتصَف الليل للظّعن والضّعَفة. وممّا يؤكِّد ما ذكرنا أنّ وقتَ الرمي في يوم النّفر الأوّل أضيقُ منه في يومِ العقبة، ومع ذلك لم يحصُل في ذلك اليومِ مثلُ الذي حصَل يومَ العقبة.
الأمرُ الثاني: أنّ على العلماء وأهلِ الفتوى إعطاءَ أمور المناسك شيئًا من جهودِهم وأوقاتهم وأبحاثهم، وعليهم أن يجمَعوا في فتواهم بينَ معرفةِ الدليل الشرعي ومعرفة الواقعِ والحال الجغرافيّ بالنسبة لعرصات المناسك، فإنّه كما تقرّر في القواعد والأصول أنه لا بدّ أن يجمَع العالم بينَ أدلّة الأحكام وأدلّة وقوعِ الأحكام، وصاحبُ الفتوى إذا لم يكن مدرِكًا لجغرافية المناسك إدراكًا جيّدًا فإنّ ذلك مظنّة للقصور في الفتوى، كما صار مثلُ ذلك لبعض علماءِ بعضِ المذاهب حينما رأوا السعيَ بين الصفا والمروة أربعةَ عشر شوطًا، وذلك لأنهم لم يكتَب لهم الحجّ إلى بيت الله الحرام، وقد ذكر ابنُ القيّم رحمه الله كلامَ ابن حزم في غلَطه في الرمل وأنّه يشرَع في الأشواط الثلاثة الأولى في السعي، فيقول ابن القيّم: "سألتُ شيخَ الإسلام عن ذلك فقال: هذا من أغلاط ابن حزم، وهو لم يحجَّ رحمه الله".
كما أنّه يجِب على العلماءِ وطلبة العلم أن لا تكونَ فتاواهم في الحجّ مبنيةً على ردود الأفعال أو تأثُّرًا بكثرةِ الطّرح الصّحفي والمجالسي، كلاّ، بل لا بد أن تكونَ نابعةً عن فقهٍ وفهم وتروِّي وإدراكٍ للحجم الذي ستطالُه الفتوى لأنها تعمُّ جميعَ الحجّاج بلا استثناء، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وعِلمُ المناسك أدقُّ ما في العبادات".
الأمر الثالث: أنّ مثلَ هذه المسائل تستدعي شحذَ الهمم في نفوس القاصدين للنُسُك بأن يتعلّموا أحكامَه ويتعرّفوا على أماكنه وعرصاتِه وكيفية التعامل معها، من خلال السُّبُل التوعويّة في بلَد الحاجّ قبل قدومه إلى مكّة، ما يساعد على إحسان التعامُل مع المناسك بالوجهِ اللائق، وهذا أمرٌ مُلقَى على عاتِق المؤسّسات والبعثات ذات الاختصاص، إضافةً إلى ما تقوم به جهاتُ الاختصاص في توعيّة الحجّاج إبّانَ الحجّ نفسه.
الأمر الرابع: أنّه لا يمكن أن تستقلَّ الفتوى بالحلول لبعضِ نوازل موسمِ الحجّ دون الرجوع إلى النواحي التنظيمية والتطبيقية والهندسية، فالتنظيم وحدَه لا يكفي، والفتوَى وحدها لا تكفي، والكمال كلّ الكمال في توافُق الفتوى الشرعية مع الجهات التنظيمية، مع عدم إغفال حال الوعيِ لدى الحاجّ، والله الموفّق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
}وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَـٰمِ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِى ٱلصَّلَوٰةِ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ{[الحج:34، 35].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...