صبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
الحمد لله رب العالمين الذي أرسل إلى الخلق نبياً هادياً إلى دينه المستقيم، وأوجد فيه من الصفات الحميدة والأخلاق الفريدة ما جعله أفضل الأنبياء والمرسلين، فصلوات ربي عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعظم الناس صبراً على البلاء في الحياة الدنيا، وكل حياته وسيرته الكريمة صبر وكفاح، ورأفة ورحمة..
وفي درسنا هذا نذكر -إن شاء الله- ما يتيسر من مواقف عظيمة من سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الصبر..
وقبل ذلك نذكر أن الله جل وعلا قد أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالاستقامة والصبر عليها كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (112) سورة هود، إلى أن قال جل وعلا: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (115) سورة هود.
وقال له -سبحانه وتعالى-: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (127) سورة النحل..
وهكذا فالآيات التي تحثه وأمته على الصبر كثيرة وعديدة في كلام الله تبارك وتعالى.
وأما المواقف التي تجلى فيها صبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فهي كثيرة وعديدة فمن ذلك:
عند إيذاء المشركين له في مكة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد! فانبعث أشقى القوم فجاء به فنظر حتى سجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وضعه على ظهره بين كتفيه! وأنا أنظر لا أغني شيئا، لو كان لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه ثم قال: (اللهم عليك بقريش) ثلاث مرات، فشق عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى: (اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط) وعد السابع فلم يحفظ قال: فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صرعى في القليب قليب بدر".
إنه صبر عظيم كانت نهايته زوال الكافرين ودولتهم الخاسرة، وليس كذلك فحسب بل كانت نهايتهم سيئة وعاقبتهم إلى شر، فقد قتل من كان يؤذيه -صلى الله عليه وسلم-.
ولقد بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوة ربه بكل عزيمة وصبر وكفاح، حتى إنه عرض نفسه على قبائل العرب المجاورة لقريش، فلم يجبه أحد إلا فيما بعد، وقد تعرض لأنواع الأذى بسبب ذلك. فعن عائشة بنت الصديق رضي الله عنها أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين) فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً).
إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يريد لهؤلاء الخير وهم يريدون له الشر، يريد لهم أن ينجوا من النار ويفوزوا بالرضوان، وهم يأبون إلا الاقتحام في نار جهنم، إن هدف النبي -صلى الله عليه وسلم- من صبره على قومه عظيم جد عظيم، فما أسعد النفوس حين يكون هدفها إنقاذ الناس من النار، وما أصبر الإنسان عندما يكون همه إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وصبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على إيذاء المنافقين في المدنية صبراً لا تحمله الجبال الرواسي، فمن محاولة الانقضاض عليه وأصحابه إلى تخذيل الجيوش المسلمة لإلحاق الهزيمة بهم، إلى الكلام في عرضه -صلى الله عليه وسلم-، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخل المدينة أسلم أناس من الناس نفاقاً وخوفاً من قوة الإسلام خاصة بعد غزوة بدر التي نصر الله فيها نبيه وأعز فيها دينه.
بعد بدر تستر المنافقون بالإسلام وذهبوا يحيكون المؤامرات المستمرة التي لا يحجزهم عن فعلها إلا خوف الفضيحة من الناس، فكانوا يحاولون إيقاع الهزيمة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في كل فرصة تسنح لهم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصبر على أذيتهم ويدافع شرهم بما لا يحدث فتنة في المدينة، ويعفو عن كثير منهم.
ففي غزوة بني المصطلق أشاع أصحاب الإفك والكذب شائعة مفادها أن عائشة بنت الصديق زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت مع صفوان بن معطل في خلوة، وأنه وقع عليها. فبدأ المنافق ابن أبي بن سلول -قبحه الله- ينشر الخبر بين الناس، وتبعه على ذلك أناس ممن غرر بهم من الصحابة المؤمنين، لكن الله تاب عليهم، وأما المنافقون فبقوا منافقين إلى أن ماتوا وهكذا كانت نهاية زعيمهم المنافق..
إن قصة الإفك التي اخترعها المنافقون دامت في المدينة شهراً كاملاً لا ينزل فيها وحي، وقد سبب ذلك حرجاً كبيراً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته وأصحابه الكرام، ثم تنجلي الأمور بعد ذلك وينزل وحي الله تعالى على نبيه المعصوم -صلى الله عليه وسلم- فيبين الحقائق ويدحض الشائعة.. كل ذلك الوقت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- صابر لم يتصرف بما يحدث مشكلة كبيرة في المدينة، بل إنه صبر وانتظر خبر السماء الذي يفصل في مثل هذه الأمور الخطيرة المدمرة..
ولنقف مع هذه القصة العظيمة التي أبرزت حلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصبره على المرجفين، وكيف لاقى من البلاء والشدة ما لاقى:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، فأقبل الذين يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، وإنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه أحد فأممت منزلي الذي كنت به فظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا والناس يفيضون من قول أصحاب الإفك، ويريبني في وجعي أني لا أرى من النبي -صلى الله عليه وسلم- اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض! إنما يدخل فيسلم ثم يقول: (كيف تيكم) لا أشعر بشيء من ذلك حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع متبرزنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو في التنزه، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشي، فعثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا، فقالت: يا هنتاه ألم تسمعي ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلم فقال: (كيف تيكم) فقلت: ائذن لي إلى أبوي، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيت أبوي فقلت لأمي: ما يتحدث به الناس؟ فقالت: يا بنية هوني على نفسك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت سبحان الله: ولقد يتحدث الناس بهذا !!
قالت: فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم فقال أسامة: أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير! وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بريرة فقال: (يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك؟) فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها قط أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي) فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية ! فقال: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمر الله والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء، قالت: فتشهد ثم قال: (يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه) فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما قال، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، فقلت: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة -والله يعلم إني لبريئة- لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال
{فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.
ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيا ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النوم رؤيا يبرئني الله، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات، فلما سري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: (يا عائشة احمدي الله فقد برأك الله) فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، فأنزل الله تعالى:
{إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} الآيات.. فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه-: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد ما قال لعائشة، فأنزل الله تعالى:
{ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا..} إلى قوله {غفور رحيم}.
فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: (يا زينب ما علمت ما رأيت؟) فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً، قالت: وهي التي كانت تساميني فعصمها الله بالورع".
إنها فتنة عظيمة وزلزلة كبيرة لأهل المدينة، قابلها النبي -صلى الله عليه وسلم- بصبر وحلم حتى انفرجت الأمور من عند باريها..
فما أعظم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حين يصاب بالمحن، وما أصبره حين يلاقي القلاقل والفتن وهو ينتظر فرج الله وعونه الذي لا ينساه أبداً..
إن على المسلم في كل مكان وزمان التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الخصلة العظيمة والخلة الرفيعة، وأن يكون شعاره: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون..
ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعيينا على أمور ديننا ودنيانا، إنه حسبنا ونعم الوكيل..