منذ الآن إلى قرب نهاية السورة يتعرض السياق لإقامة قواعد النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي يريد الإسلام أن يقوم عليها المجتمع المسلم ; وأن تنظم بها حياة الجماعة المسلمة . إنه نظام التكافل والتعاون الممثل في الزكاة المفروضة والصدقات المتروكة للتطوع . وليس النظام الربوي الذي كان سائدا في الجاهلية . ومن ثم يتحدث عن آداب الصدقة . ويلعن الربا , ويقرر أحكام الدين والتجارة في الدروس الآتية في السورة . وهي تكون في مجموعها جانبا أساسيا من نظام الاقتصاد الإسلامي والحياة الاجتماعية التي تقوم عليها . وبين الدروس الثلاثة الآتية صلة وثيقة فهي ذات موضوع واحد متشعب الأطراف . . موضوع النظام الاقتصادي الإسلامي .
وفي هذا الدرس نجد الحديث عن تكليف البذل والإنفاق , ودستور الصدقة والتكافل . والإنفاق في سبيل الله هو صنو الجهاد الذي فرضه الله على الأمة المسلمة , وهو يكلفها النهوض بأمانة الدعوة إليه , وحماية المؤمنين به , ودفع الشر والفساد والطغيان , وتجريده من القوة التي يسطو بها على المؤمنين , ويفسد بها في الأرض , ويصد بها عن سبيل الله , ويحرم البشرية ذلك الخير العظيم الذي يحمله إليها نظام الإسلام , والذي يعد حرمانها منه جريمة فوق كل جريمة , واعتداء أشد من الاعتداء على الأرواح والأموال .
ولقد تكررت الدعوة إلى الإنفاق في السورة . فالأن يرسم السياق دستور الصدقة في تفصيل وإسهاب . يرسم هذا الدستور مظللا بظلال حبيبة اليفة ; ويبين آدابها النفسية والاجتماعية . الآداب التي تحول الصدقة عملا تهذيبيا لنفس معطيها ; وعملا نافعا مربحا لآخذيها ; وتحول المجتمع عن طريقها إلى أسرة يسودها التعاون والتكافل , والتواد والتراحم ; وترفع البشرية إلى مستوى كريم:المعطي فيه والآخذ على السواء .
ومع أن التوجيهات التي وردت في هذا الدرس تعد دستورا دائما غير مقيد بزمن ولا بملابسات معينة , إلا أنه لا يفوتنا أن نلمح من ورائه أنه جاء تلبية لحالات واقعة كانت النصوص تواجهها في الجماعة المسلمة يومذاك - كما أنها يمكن أن تواجهها في أي مجتمع مسلم فيما بعد - وأنه كانت هناك نفوس شحيحة ضنينة بالمال تحتاج إلى هذه الإيقاعات القوية , والإيحاءات المؤثرة ; كما تحتاج إلى ضرب الأمثال , وتصوير الحقائق في مشاهد ناطقة كيما تبلغ إلى الأعماق !
كان هناك من يضن بالمال . فلا يعطيه إلا بالربا . وكان هناك من ينفقه كارها أو مرائيا . وكان هناك من يتبع النفقة بالمن والأذى . وكان هناك من يقدم الرديء من ماله ويحتجز الجيد . . وكل هؤلاء إلى جانب المنفقين في سبيل الله مخلصين له , الذين يجودون بخير أموالهم , وينفقون سرا في موضع السر وعلانية في موضع العلانية في تجرد وإخلاص ونقاء . .
يفيدنا أولا في إدراك طبيعة هذا القرآن ووظيفته . فهو كائن حي متحرك . ونحن نراه في ظل هذه الوقائع يعمل ويتحرك في وسط الجماعة المسلمة ; ويواجه حالات واقعة فيدفع هذه ويقر هذه ; ويدفع الجماعة المسلمة ويوجهها . فهو في عمل دائب , وفي حركة دائبة . . إنه في ميدان المعركة وفي ميدان الحياة . . وهو العنصرالدافع المحرك الموجه في الميدان !
ونحن أحوج ما نكون إلى الإحساس بالقرآن على هذا النحو ; وإلى رؤيته كائنا حيا متحركا دافعا . فقد بعد العهد بيننا وبين الحركة الإسلامية والحياة الإسلامية والواقع الإسلامي ; وانفصل القرآن في حسنا عن واقعه التاريخي الحي ; ولم يعد يمثل في حسنا تلك الحياة التي وقعت يوما ما على الأرض , في تاريخ الجماعة المسلمة ; ولم نعد نذكر أنه كان في أثناء تلك المعركة المستمرة هو "الأمر اليومي" للمسلم المجند ; وهو التوجيه الذي يتلقاه للعمل والتنفيذ . . مات القرآن في حسنا . . أو نام . . ولم تعد له تلك الصورة الحقيقية التي كانت له عند نزوله في حس المسلمين . ودرجنا على أن نتلقاه إما ترتيلا منغما نطرب له , أو نتأثر التأثر الوجداني الغامض السارب ! وإما أن نقرأه أورادا أقصى ما تصنع في حس المؤمنين الصادقين منا أن تنشىء في القلب حالة من الوجد أو الراحة أو الطمأنينة المبهمة المجملة . . والقرآن ينشىء هذا كله . ولكن المطلوب - إلى جانب هذا كله - أن ينشىء في المسلم وعيا وحياة . نعم المطلوب أن ينشىء حالة وعي يتحرك معها القرآن حركة الحياة التي جاء لينشئها . المطلوب أن يراه المسلم في ميدان المعركة التي خاضها , والتي لا يزال مستعدا لأن يخوضها في حياة الأمة المسلمة . المطلوب أن يتوجه إليه المسلم ليسمع منه ماذا ينبغي أن يعمل - كما كان المسلم الأول يفعل - وليدرك حقيقة التوجيهات القرآنية فيما يحيط به اليوم من أحداث ومشكلات وملابسات شتى في الحياة ; وليرى تاريخ الجماعة المسلمة ممثلا في هذا القرآن , متحركا في كلماته وتوجيهاته ; فيحس حينئذ أن هذا التاريخ ليس غريبا عنه . فهو تاريخه . وواقعه اليوم هو امتداد لهذا التاريخ . وما يصادفه اليوم من أحداث هو ثمرة لما صادف أسلافه , مما كان القرآن يوجههم إلى التصرف فيه تصرفا معينا . ومن ثم يحس أن هذا القرآن قرآنه هو كذلك . قرآنه الذي يستثيره فيما يعرض له من أحداث وملابسات ; وأنه هو دستور تصوره وتفكيره وحياته وتحركاته الآن وبعد الآن بلا انقطاع .
ويفيدنا ثانيا في رؤية حقيقة الطبيعة البشرية الثابتة المطردة تجاه دعوة الإيمان وتكاليفها . رؤيتها رؤية واقعية من خلال الواقع الذي تشير إليه الآيات القرآنية في حياة الجماعة المسلمة الأولى . . فهذه الجماعة التي كان يتنزل عليها القرآن , ويتعهدها رسول الله [ ص ] كان فيها بعض مواضع الضعف والنقص التي تقتضي الرعاية والتوجيه والإيحاء المستمر ولم يمنعها هذا أن تكون خير الأجيال جميعا . . وإدراك هذه الحقيقية ينفعنا . ينفعنا لأنه يرينا حقيقة الجماعات البشرية بلا غلو ولا مبالغة ولا هالات ولا تصورات مجنحة ! وينفعنا لأنه يدفع عن نفوسنا اليأس من أنفسنا حين نرى أننا لم نبلغ تلك الآفاق التي يرسمها الإسلام ويدعو الناس إلى بلوغها . فيكفي أن نكون في الطريق , وأن تكون محاولتنا مستمرة ومخلصة للوصول . . وينفعنا في إدراك حقيقة أخرى:وهي أن الدعوة إلى الكمال يجب أن تلاحق الناس , ولا تفتر ولا تني ولا تيئس إذا ظهرت بعض النقائص والعيوب . فالنفوس هكذا . وهي ترتفع رويدا رويدا بمتابعة الهتاف لها بالواجب , ودعوتها إلى الكمال المنشود , وتذكيرها الدائم بالخير , وتجميل الخير لها وتقبيح الشر , وتنفيرها من النقص والضعف , والأخذ بيدها كلما كبت في الطريق , وكلما طال بها الطريق !
ويفيدنا ثالثا في الاستقرار إلى هذه الحقيقة البسيطة التي كثيرا ما نغفل عنها وننساها:وهي أن الناس هم الناس ; والدعوة هي الدعوة ; والمعركة هي المعركة . . إنها أولا وقبل كل شيء معركة مع الضعف والنقص والشح والحرص في داخل النفس . ثم هي معركة مع الشر والباطل والضلال والطغيان في واقع الحياة . والمعركة بطرفيها لا بد من خوضها . ولا بد للقائمين على الجماعة المسلمة في الأرض من مواجهتها بطرفيها كما واجههاالقرآن أول مرة وواجهها رسول الله [ ص ] ولا بد من الأخطاء والعثرات . ولا بد من ظهور الضعف والنقص في مراحل الطريق ; ولا بد من المضي أيضا في علاج الضعف والنقص كلما أظهرتهما الأحداث والتجارب . ولا بد من توجيه القلوب إلى الله بالأساليب التي اتبعها القرآن في التوجيه . . وهنا نرجع إلى أول الحديث . نرجع إلى استشارة القرآن في حركات حياتنا وملابساتها . وإلى رؤيته يعمل ويتحرك في مشاعرنا وفي حياتنا كما كان يعمل ويتحرك في حياة الجماعة الأولى . .