(خطبة الزهراء عليها السلام بنساء المهاجرين والأنصار) تظافرت الروايات عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام وعبدالله ابن عباس ، وسويد بن غفلة ، وعبدالله بن الحسن عن أُمّه فاطمة بنت الحسين عليه السلام قالوا : لمّا مرضت فاطمة الزهراء عليها السلام المرضة التي توفيت فيها ، واشتدّت علّتها ، اجتمعت إليها نساء المهاجرين والأنصار ليعدنها ، فسلّمن عليها ، وقلن : كيف أصبحت من علتك يا بنت رسول الله؟ فحمدت الله تعالى وصلّت على أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ثم قالت : أصبحت والله عائفة لدنياكنّ ، قالية لرجالكنّ ، لفظتهم بعد أن عجمتهم (1)، وشنأتهم بعد أن سبرتهم (2)، فقبحاً لفلول الحدّ ، واللعب بعد الجدّ ، وقرع الصفاة ، وصدع القناة ، وخطل الآراء ، وزلل الأهواء ، و «لبئسما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون» (3) لا جرم والله ، لقد قلّدتهم ربقتها ، وحمّلتهم أوقتها (4)، وشننت عليهم غارتها ، فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين . ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة والدلالة ، ومهبط الروح الأمين ، والطَّبين (5)بأمور الدنيا والدين؟! «ألا ذلك هو الخسران المبين» (6). وما الذي نقموا من أبي الحسن؟! نقموا منه والله نكير سيفه ، وقلّة مبالاته بحتفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله عزَّ وجل . وتالله لو تكافّوا عن زمامٍ نبذه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاعتقله (7) ثمّ لسار بهم سيراً سُجحاً (8)، لا يُكلم خشاشه ، ولا يكلّ سائره ، ولا يملّ راكبه ، ولاَوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً فضفاضاً ، تطفح ضفتاه ، ولا يترنّق (9)جانباه ، ولاَصدرهم بطاناً ، ونصح لهم سراً وإعلاناً ، ولم يكن يتحلّى من الغنى بطائل (10) ، ولا يحظى من الدنيا بنائل ، غير ريّ الناهل ، وشبعة الكافل ، ولبان لهم الزاهد من الراغب ، والصادق من الكاذب «ولو أنّ أهل القرى آمنوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين» (11). ألا هلم فاستمع ، وما عشت أراك الدهر عجباً ، وإن تعجب فعجب قولهم . ليت شعري إلى أيّ لَجأ لجأوا ، وإلى أيّ سناد استندوا ، وعلى أي عماد اعتمدوا ، وبأيّ عروة تمسكوا ، وعلى أيّ ذريّة قدّموا واحتنكوا (12) «لبئس المولى ولبئس العشير» (13) وبئس للظالمين بدلاً . استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قومٍ «يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً» (14) ، «ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لايشعرون» (15) ويحهم «أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتّبع أم من لايَهدِّي إلاّ أن يهدى فمالكم كيف تحكمون» (16) ؟! . أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملء القَعب دماً عبيطاً ، وذعافاً مبيداً ، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبّ ما أسس الأولون ، ثم طيبوا عن دنياكم نفساً ، واطمئنّوا للفتنة جأشاً (17)، وابشروا بسيف صارم ، وسطوة معتدٍ غاشم ، وبهرج دائمٍ شاملٍ ، واستبدادٍ من الظالمين ، يدع فيأكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً . فيا حسرتى لكم ، وأنّى بكم وقد عميت عليكم؟ «أنلزمكموها وأنتم لها كارهون» (18) . قال سويد بن غفلة : فأعادت النساء قولها على رجالهنّ ، فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين ، وقالوا : يا سيدة النساء ، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يُبرَم العهد ويُحكَم العقد ، لما عدلنا إلى غيره . فقالت عليها السلام : إليكم عنّي ، فلا عذر بعد تعذيركم ، ولا أمر بعد تقصيركم (19) . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) اختبرتهم وابتليتهم . (2) اختبرتهم وامتحنتهم . (3) سورة المائدة : 5 / 80 . (4) ثقلها . (5) الفطن الحاذق . (6) سورة الزمر : 39 / 15 . (7) أمسكة . (8) سهلاً ليناً . (9) لا يتكدر . (10) لم يستفد منه كثير فائدة . (11) سورة الزمر :39 / 51 . (12) استولوا . (13) سورة الحج : 22 / 13 . (14) سورة الكهف : 18 / 104 . (15) سورة البقرة : 2 / 12 . (16) سورة يونس : 10 / 35 . (17) مروّعة للقلب والنفس . (18) سورة هود : 11 / 28 . (19) روى هذه الخطبة ابن أبي طيفور في بلاغات النساء : 19 . والشيخ الصدوق في معاني الأخبار : 354 / 1 . والشيخ الطوسي في أماليه : 374 / 804 . والطبري في الدلائل : 125 / 37 . والاربلي في كشف الغمة 1 : 492 . والطبرسي في الاحتجاج 1 : 108 . وابن أبي الحديد في شرح النهج 16 : 233 . والعلامة المجلسي في البحار 43 : 158 ـ 159 . المصدر : كتاب / سيدة النساء/ مركز الرسالة