لا اعلم عندما نتكلم عن التضحية هل نذكر كلمة التضحية أم نذكر اسم أمنا هاجر عليها السلام .. هاجر أم إسماعيل زوج إبراهيم عليه السلام .. هاجر التى صارت معلماً نسائياً فى التضحية وفى الفداء بما مرت به من تجارب قاسية .. فى مثل هذه الأيام من كل عام يحاول الحجيج أن يلحقوا بها بين الصفا والمروة أشواطاً .. يصعدون وينحدرون إنها الذكرى ذكرى التضحية .. ذكرى أمنا هاجر .. نجدد العهد .. ولكن لم هرولت يا هاجر ؟! .. هرولت حيث لم يكن معها أحد أما وقد صارت بين الرجال فلا يليق لها الهرولة وقد بنى أمرها وأمر بنات جنسها على الإستتار .. ولكنها هرولت هرولة صاحبة الهمة العالية .. فلا مكان لأصحاب النفوس الكسولة المتراخية بين الأمم .. وإنما تظهر الهمة العالية فى الإضطباع عند الحجيج عندما يبرزون اليد والذراع الأيمن في همة ونشاط: "رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة".
تنتقل من تضحية إلى تضحية
أراك أيتها العظيمة حياتك تنتقل من شدة إلى شدة ومن تضحية إلى تضحية .. أراك تنتقلين من تضحية :- ( إذن لن يضيعنا الله أبداً ) وصدمتها وتمر الأيام عليك شديدة أشد ما تكون .. ثم تنتقلين إلى شدة وتضحية تربية ولدك فى غيبة أبيها وتكونى حافظة للأمانة لقد بذلت جهدها في أن تحافظ على صغيرها من انحراف المنحرفين .. لا شك أن الصغير رأى وسمع ما عليه بعض الشباب من سقطات ولكنها وقفت صلبة قوية أمام كل هذا .. وقفت لتورث ولدها ما رُبيت عليه وما هو عليه أبوه .. ورثت الولد البر والطاعة والإخلاص .. ورثته كل هذا فكان نعم المعين له أن يمر بمراحل عمره دونما سقوط وما شابه .. فكانت هاجر حافظة لأمانتها حق الحفظ .. ثم شدة أخرى ما أشدها وما أعظمه من تضحية يوم أن جاء زوجك يعلم ولدك بأنه سيذبحه :- ( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) .. رغم تمزق قلبها واحتراقه على فلذت كبدها وابن عمرها ..لم تعترض ولو بكلمة واحدة .. أي أمٍ أنتِ يا هاجر ؟! .. ثم يكن أيامك الأخيرة بين ولدك وزوجته شاكرة لربك حياتك كلها راضية غير ساخطة عما عشتيه فى حياتك كلها .. حياة كلها تضحية وفداء ..
ومع كل هذا ما ذكر القرآن تذمرا لهاجر، ولا تلكؤا ولا دموعا قاهرة، والدموع سلاح المرأة القتال، ولا عبارات خاذلة لعزم إبراهيم عليه السلام المهاجر إلى الله، وهذا واجب المرأة المسلمة، تصبرا على ما في قلبها من لوعة، وجلدا مع ما في النفس من شجون، وطاعة على ما في أمر الزوج من مشقة.
ولهذا فعندما ننظر للتضحية كل عام يكون ذلك إحياء لقصة غير متكررة قصة الفداء العظيمة ذات الأبطال الثلاثة الأب الطائع ، والأم الصابرة ، والابن البار ..
التضحية طريق المجد ..
نعم فلا يمكن لأمة من الأمم أن تتبوأ عرش المجد والتمكين إلا بعد ترويض النفس وتهذيب الخلق والإنتصار على الذات .. إلا بعد تضحية وفداء بذل وعطاء .. والإسلام يشهد على ذلك كله فالبذل فى سبيل المصلحة العامة من شيم العظماء .. وإراقة الدماء لرى شجرة النصر والتمكين ..
.. وكم رأينا وسمعنا وشاهدنا إنه لم يأتى التمكين والعلو والعزة إلا على أكتاف عظماء عمالقة النفس ضحو فى سبيل الحق والخير والعدل ..
وقد غرس الإسلام فينا التضحية والفداء بالمال والروح في نفوس الكبار والصغار، الرجال والنساء، الشيوخ والأطفال، حتى صارت التضحية سارية في عروق العرب والمسلمين ودمائهم، وحتى صار البذل والفداء في سبيل الله والمثل العليا جزءا لا يتجزأ من نفوسهم وأفئدتهم . كل هذا ليكون النصر والتمكين هو طريقنا ..
التضحية فى حياة الحبيب صلى الله عليه وسلم
يقول فضيلة الشيخ الشيخ أحمد كفتارو - المفتي العام للجمهورية العربية السورية رئيس مجلس الإفتاء الأعلى :- ( ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم معنى من معاني التضحية والفداء إلا تحمله وبذله ، لقد تحمل بنفس هادئة راضية الأذى والاضطهاد والمقاطعة له ولأنصاره ، فلا بيع منهم ولا شراء ولا مزاوجة ولا نكاح .. لقد رُجم بالأحجار حتى سالت الدماء على عقبيه فتحمل ذلك غير واهن ولا خائر، وصودرت أمواله وداره فلم يحزن ولم ييئس ، ودبرت المؤامرات المتنوعة لاغتياله فلم يهن ولم يحزن .. لقد قدم سخياً راضياً كل ما يملك من مال وروح وراحة ومهج ة، مضحياً باذلاً كل ذلك في سبيل الله )
فضائل من يسير على مع الركب ..
وانظرى أختى الكريمة أجر من يطبق سنة كانت أمنا هاجر سبب فى وجودها :-
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :- ( ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من هراقة دم ، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها ، وأظلافها وأشعارها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض ، فطيبوا بها نفسا ) رواه ابن ماجة والترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب .
وعن زيد بن أرقم قال :- ( قلت أو قالوا يا رسول الله :- ما هذه الأضاحي ؟ قال : سنة أبيكم إبراهيم ، قالوا : مالنا منها ؟ .. قال : بكل شعرة حسنة ، قالوا : فالصوف ؟ قال : بكل شعرة من الصوف حسنة ) رواه أحمد وابن ماجة .
كما حض النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على الأضحية هذا اليوم توسعة على الأهل والفقراء في قوله :- ( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ) رواه البخاري ومسلم
وقال زيد بن أرقم :- (يا رسول الله ما لنا في الأضاحي ؟ .. فقال :- لكم بكل شعرة حسنة ، قلت :- فالصوف ؟ .. قال :- بكل شعرة من الصوف حسنة ) رواه الديلمي عن ابن عباس.
كلمة قبل أن نسدل الستار ..
وها هو الستائر تسدل وتتوفى هاجر ، وتنتهى القصة بجزيرة العرب بعد ما بدأت بمصر .. بدايتها بلاط الملوك ثم خيمة الأنبياء ثم مروراً بضفاف النيل الرائعة ثم خيام الصحراء .. حياة كلها بلاء وشدة وتضحية وفداء .. وتُسدل الستائر على حياة قصيرة المدة طويلة الدروس والعبر .. حياة أولها خروج إسماعيل ، وخبرها الأخير ميلاد محمد عليه الصلاة والسلام .. وداعاً يا أمنا الحبيبة .. يا أمنا الرائعة .. عشت معك وعشنا معك فى ثلاث مقالات متتاليات .. كم تعلقت قلوبنا بك .. الله أسأل أن يجمعنا بك فى الفرودس الأعلى .. سبحانك الله وبحمدك نشهد ألا لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب عليك ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته