بتـــــاريخ : 10/10/2009 8:39:22 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 962 0


    الوحدة الرابعة:81 - 98 آياتها:75 - 103 موضوعها:تفنيد مزاعم اليهود والتحذير منهم - في ظلال القرآن

    الناقل : elmasry | العمر :42 | المصدر : www.khayma.com

    كلمات مفتاحية  :


    تقديم الوحدة الرابعة

    انقضى المقطع السابق في السورة في تذكير بني إسرائيل بأنعم الله عليهم وجحودهم لهذا الإنعام المتواصل ؛ وباستعراض مشاهد الإنعام والجحود ، بعضها باختصار وبعضها بتطويل ؛ وانتهى هذا الاستعراض بتقرير ما انتهت إليه قلوبهم في نهاية المطاف من قسوة وجفاف وجدب ، أشد من قسوة الحجارة وجفافها وجدبها .

    فالأن يأخذ السياق في الاتجاه بالخطاب إلى الجماعة المسلمة يحدثها عن بني إسرائيل ، ويبصرها بأساليبهم ووسائلهم في الكيد والفتنة ؛ ويحذرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم وجبلتهم ، فلا تنخدع بأقوالهم ودعاويهم ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل . ويدل طول هذا الحديث ، وتنوع أساليبه على ضخامة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من الكيد المنصوب لها والمرصود لدينها من أولئك اليهود !

    وبين آن وآخر يلتفت السياق إلى بني إسرائيل ليواجههم - على مشهد من المسلمين - بما أخذ عليهم من المواثيق ، وبما نقضوا من هذه المواثيق ؛ وبما وقع منهم من انحرافات ونكول عن العهد وتكذيب بأنبيائهم ، وقتلهم لهؤلاء الأنبياء الذين لا يطاوعونهم على هواهم ، ومن مخالفة لشريعتهم ، ومن التوائهم وجدالهم بالباطل ، وتحريفهم لما بين أيديهم من النصوص .

    يستعرض جدالهم مع الجماعة المسلمة وحججهم ودعاويهم الباطلة ، ويلقن الرسول [ ص ] أن يفضح دعاويهم ، ويفند حججهم ، ويكشف زيف ادعاءاتهم ، ويرد عليهم كيدهم بالحق الواضح الصريح:

    فلقد زعموا أن لن تمسهم النار إلا أياما معدودة بحكم ما لهم من المكانة الخاصة عند الله ! فلقن الله نبيه [ ص ] أن يرد عليهم قولهم هذا: قل:أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ . .

    وكانوا إذا دعوا إلى الإسلام قالوا:نؤمن بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم . . فلقن الله رسوله [ ص ] أن يفضح دعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم: قل:فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ؟ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ؟ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا . قالوا:سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم . قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ! . .

    وكانوا يدعون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس . فلقن الله رسوله [ ص ] أن يتحداهم بدعوتهم إلى المباهلة أي أن يجتمع الفريقان:هم والمسلمون ، ثم يدعون الله أن يميت الكاذب: قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . . وقرر أنهم لن يتمنوه أبدا - وهذا ما حدث . فقد نكصوا عن المباهلة لعلمهم أنهم كاذبون فيما يدعون !

    وهكذا يمضي السياق في هذه المواجهة ، وهذا الكشف ، وهذا التوجيه . . ومن شأن هذه الخطة أن تضعف - أو تبطل - كيد اليهود في وسط الصف المسلم ؛ وأن تكشف دسائسهم وأحابيلهم ؛ وأن تدرك الجماعة المسلمة طريقة اليهود في العمل والكيد والادعاء ، على ضوء ما وقع منهم في تاريخهم القديم .

    وما تزال الأمة المسلمة تعاني من دسائس اليهود ومكرهم ما عاناه أسلافها من هذا المكر ومن تلك الدسائس ؛ غير أن الأمة المسلمة لا تنتفع - مع الأسف - بتلك التوجيهات القرآنية ، وبهذا الهدى الإلهي ، الذي انتفع به أسلافها ، فغلبوا كيد اليهود ومكرهم في المدينة ، والدين ناشيء ، والجماعة المسلمة وليدة . . وما يزال اليهود - بلؤمهم ومكرهم - يضللون هذه الأمة عن دينها ، ويصرفونها عن قرآنها ، كي لا تأخذ منه أسلحتها الماضية ، وعدتها الواقية . وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها الحقيقية ، وينابيع معرفتها الصافية . . وكلمن يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء يهود ؛ سواء عرف أم لم يعرف ، أراد أم لم يرد ، فسيظل اليهود في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها - حقيقة العقيدة الإيمانية والمنهج الإيماني والشريعة الإيمانية - فهذا هو الطريق . وهذه هي معالم الطريق:

     

    الدرس الأول:75 - 77:تيئيس المسلمين من اليهود المحرفين المنافقين

    أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا:أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ؟ . .

    كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صور الله بها قلوب بني إسرائيل في نهاية الدرس الماضي . صورة الحجارة الصلدة التي لا تنض منها قطرة ، ولا يلين لها ممس ، ولا تنبض فيها حياة . . وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية . . وفي ظل هذا التصوير ، وظل هذا الإيحاء ، يلتفت السياق إلى المؤمنين ، الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل ، ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان ، وأن يفيضوا عليها النور . . يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة ، وبالقنوط من الطمع:

    أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ؟ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ . .

    إلا أنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء . فللإيمان طبيعة أخرى ، واستعداد آخر . إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة ، مفتحة المنافذ للأضواء ، مستعدة للإتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء . وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى . هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تحرفه من بعد تعقله . تحرفه عن علم وإصرار . فالطبيعة المؤمنة طبيعة مستقيمة ، تتحرج من هذا التحريف والالتواء .

    والفريق المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم هم الأحبار والربانيون ، الذين يسمعون كلام الله المنزل على نبيهم موسى في التوراة ثم يحرفونه عن مواضعه ، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي تخرج به عن دائرته . لا عن جهل بحقيقة مواضعه ، ولكن عن تعمد للتحريف ، وعلم بهذا التحريف . يدفعهم الهوى ، وتقودهم المصلحة ، ويحدوهم الغرض المريض ! فمن باب أولى ينحرفون عن الحق الذي جاء به محمد [ ص ] وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى - عليه السلام - ومن باب أولى - وهذا خراب ذممهم ، وهذا إصرارهم على الباطل وهم يعلمون بطلانه - أن يعارضوا دعوة الإسلام ، ويروغوا منها ويختلقوا عليها الأكاذيب !

    وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا:أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ . .

    أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ، وهم يضيفون إلى خراب الذمة ، وكتمان الحق ، وتحريف الكلم عن مواضعه . . الرياء والنفاق والخداع والمراوغة ؟

    وقد كان بعضهم إذا لقوا المؤمنين قالوا:آمنا . . أي آمنا بأن محمدا مرسل ، بحكم ما عندهم في التوراة من البشارة به ، وبحكم أنهم كانوا ينتظرون بعثته ، ويطلبون أن ينصرهم الله به على من عداهم . وهو معنى قوله: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا . . ولكن: إذا خلا بعضهم إلى بعض . . عاتبوهمعلى ما أفضوا للمسلمين من صحة رسالة محمد [ ص ] ومن معرفتهم بحقيقة بعثته من كتابهم ، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم . . فتكون لهم الحجة عليكم ؟ . . وهنا تدركهم طبيعتهم المحجبة عن معرفة صفة الله وحقيقة علمه ؛ فيتصورون أن الله لا يأخذ عليهم الحجة إلا أن يقولوها بأفواههم للمسلمين ! أما إذا كتموا وسكتوا فلن تكون لله عليهم حجة ! . . وأعجب العجب أن يقول بعضهم لبعض في هذا: أفلا تعقلون ؟ . . فيا للسخرية من العقل والتعقل الذي يتحدثون عنه مثل هذا الحديث !!

    ومن ثم يعجب السياق من تصورهم هذا قبل أن يمضي في استعراض ما يقولون وما يفعلون:

    أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ؟ . .

     

    الدرس الثاني:78 - 79 فريقا اليهود:جاهل ومحرف

    ثم يستطرد يقص على المسلمين من أحوال بني إسرائيل:إنهم فريقان . فريق أمي جاهل ، لا يدري شيئا من كتابهم الذي نزل عليهم ، ولا يعرف منه إلا أوهاما وظنونا ، وإلا أماني في النجاة من العذاب ، بما أنهم شعب الله المختار ، المغفور له كل ما يعمل وما يرتكب من آثام ! وفريق يستغل هذا الجهل وهذه الأمية فيزور على كتاب الله ، ويحرف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المغرضة ، ويكتم منه ما يشاء ، ويبدي منه ما يشاء ويكتب كلاما من عند نفسه يذيعه في الناس باسم أنه من كتاب الله . . كل هذا ليربح ويكسب ، ويحتفظ بالرياسة والقيادة:

    ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ، فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ، ثم يقولون:هذا من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا . فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون . .

    فكيف ينتظر من أمثال هؤلاء وهؤلاء أن يستجيبوا للحق ، وأن يستقيموا على الهدى ، وأن يتحرجوا من تحريف ما يقف في طريقهم من نصوص كتابهم نفسه ؟ إن هؤلاء لا مطمع في أن يؤمنوا للمسلمين . وإنما هو الويل والهلاك ينتظرهم . الويل والهلاك لهم مما كتبت أيديهم من تزوير على الله ؛ والويل والهلاك لهم مما يكسبون بهذا التزوير والاختلاق !

     

    الدرس الثالث:80 تكذيبهم في زعم النجاة من النار

    من تلك الأماني التي لا تستقيم مع عدل الله ، ولا تتفق مع سنته ، ولا تتمشى مع التصور الصحيح للعمل والجزاء . . أن يحسبوا أنهم ناجون من العذاب مهما فعلوا ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات يخرجون بعدها إلى النعيم . . علام يعتمدون في هذه الأمنية ؟ علام يحددون الوقت كأنهم مستوثقون ؟ وكأنها معاهدة محدودة الأجل معلومة الميقات ؟ لا شيء إلا أماني الأميين الجهال ، وأكاذيب المحتالين العلماء ! الأماني التي يلجأ إليها المنحرفون عن العقيدة الصحيحة ، حين يطول بهم الأمد ، وينقطع ما بينهم وبين حقيقة دينهم ، فلا يبقى لهم منه إلا اسمه وشكله ، دون موضوعه وحقيقته ويظنون أن هذا يكفيهم للنجاة من العذاب بحكم ما يعلنونه بألسنتهم من أنهم على دين الله:

    وقالوا:لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . قل:أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ . .

    وهذا هو التلقين الإلهي للحجة الدامغة: أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ . . فأين هو هذا العهد ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون . . وهذا هو الواقع . فالاستفهام هنا للتقرير . ولكنه في صورة الاستفهاميحمل كذلك معنى الإنكار والتوبيخ !

     

    الدرس الرابع:81 - 82:بيان أصحاب الجنة وأصحاب النار

    هنا يأتيهم الجواب القاطع والقول الفصل في هذه الدعوى ، في صورة كلية من كليات التصور الإسلامي ، تنبع من فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان:إن الجزاء من جنس العمل ، ووفق هذا العمل .

    بلى ! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . .

    ولا بد أن نقف قليلا أمام ذلك التصوير الفني المعجز لحالة معنوية خاصة ، وامام هذا الحكم الإلهي الجازم نكشف عن شيء من أسبابه وأسراره :

    بلى ! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته . . . .

    الخطيئة كسب ؟ إن المعنى الذهني المقصود هو اجتراح الخطيئة . ولكن التعبير يوميء إلى حالة نفسية معروفة . . إن الذي يجترح الخطيئة إنما يجترحها عادة وهو يلتذها ويستسيغها ؛ ويحسبها كسبا له - على معنى من المعاني - ولو أنها كانت كريهة في حسه ما اجترحها ، ولو كان يحس أنها خسارة ما أقدم عليها متحمسا ، وما تركها تملأ عليه نفسه ، وتحيط بعالمه ؛ لأنه خليق لو كرهها وأحس ما فيها من خسارة أن يهرب من ظلها - حتى لو اندفع لارتكابها - وأن يستغفر منها ، ويلوذ إلى كنف غير كنفها . وفي هذه الحالة لا تحيط به ، ولا تملأ عليه عالمه ، ولا تغلق عليه منافذ التوبة والتكفير . . وفي التعبير: وأحاطت به خطيئته . . تجسيم لهذا المعنى . وهذه خاصية من خواص التعبير القرآني ، وسمة واضحة من سماته ؛ تجعل له وقعا في الحس يختلف عن وقع المعاني الذهنية المجردة ، والتعبيرات الذهنية التي لا ظل لها ولا حركة . وأي تعبير ذهني عن اللجاجة في الخطيئة ما كان ليشع مثل هذا الظل الذي يصور المجترح الآثم حبيس خطيئته:يعيش في إطارها ، ويتنفس في جوها ، ويحيا معها ولها .

    عندئذ . . عندما تغلق منافذ التوبة على النفس في سجن الخطيئة . . عندئذ يحق ذلك الجزاء العادل الحاسم:

    فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . .

    ثم يتبع هذا الشطر بالشطر المقابل من الحكم .

    والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . .

    فمن مقتضيات الإيمان أن ينبثق من القلب في صورة العمل الصالح . . وهذا ما يجب أن يدركه من يدعون الإيمان . . وما أحوجنا - نحن الذين نقول أنا مسلمون - أن نستيقن هذه الحقيقة:أن الإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح . فأما الذين يقولون:إنهم مسلمون ثم يفسدون في الأرض ، ويحاربون الصلاح في حقيقته الأولى وهي إقرار منهج الله في الأرض ، وشريعته في الحياة ، وأخلاقه في المجتمع ، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء ، وليس لهم من ثواب الله شيء ، وليس لهم من عذابه واق ولو تعلقوا بأماني كأماني اليهود التي بين الله لهم وللناس فيها هذا البيان .

     

    الدرس الخامس:83 - 86 نماذج لتناقض اليهود ومخالفاتهم

    ثم يمضي السياق يحدث الجماعة المسلمة عن حال اليهود ، ومواقفهم التي يتجلى فيها العصيان والالتواءوالانحراف والنكول عن العهد والميثاق . ويواجه اليهود بهذه المواقف على مشهد من المسلمين:

    وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ؛ وبالوالدين إحسانا ؛ وذي القربى واليتامى والمساكين ؛ وقولوا للناس حسنا ؛ وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة . . ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون . وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم . ثم أقررتم وأنتم تشهدون . . ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ، وهو محرم عليكم إخراجهم . أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ، وما الله بغافل عما تعملون . أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون . .

    ولقد سبقت الإشارة إلى الميثاق في معرض تذكير الله لبني إسرائيل بإخلاف موقفهم معه في الدرس الماضي . فهنا شيء من التفصيل لبعض نصوص هذا الميثاق .

    ومن الآية الأولى ندرك أن ميثاق الله مع بني إسرائيل ، ذلك الميثاق الذي أخذه عليهم في ظل الجبل ، والذي أمروا أن يأخذوه بقوة وأن يذكروا ما فيه . . أن ذلك الميثاق قد تضمن القواعد الثابتة لدين الله . هذه القواعد التي جاء بها الإسلام أيضا ، فتنكروا لها وأنكروها .

    لقد تضمن ميثاق الله معهم:ألا يعبدوا إلا الله . . القاعدة الأولى للتوحيد المطلق . وتضمن الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين . وتضمن خطاب الناس بالحسنى ، وفي أولها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . . كذلك تضمن فريضة الصلاة وفريضة الزكاة . وهذه في مجموعها هي قواعد الإسلام وتكاليفه . .

    ومن ثم تتقرر حقيقتان:الأولى هي وحدة دين الله ؛ وتصديق هذا الدين الأخير لما قبله في أصوله . والثانية هي مقدار التعنت في موقف اليهود من هذا الدين ، وهو يدعوهم لمثل ما عاهدوا الله عليه ، وأعطوا عليه الميثاق .

    وهنا - في هذا الموقف المخجل - يتحول السياق من الحكاية إلى الخطاب ، فيوجه القول إلى بني إسرائيل . وكان قد ترك خطابهم والتفت إلى خطاب المؤمنين . ولكن توجيه الخطاب إليهم هنا أخزى وأنكى:

    ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون . .

    وهكذا تتكشف بعض أسرار الالتفات في سياق القصص وغيره في هذا الكتاب العجيب !

    ويستمر السياق يوجه الخطاب إلى بني إسرائيل ، وهو يعرض عليهم متناقضات موقفهم من ميثاقهم مع الله . .

    وإذ أخذنا ميثاقكم:لا تسفكون دماءكم ، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم . ثم أقررتم وأنتم تشهدون . .

    فماذا كان بعد الإقرار وهم شاهدون حاضرون ؟

    ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان . وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ، وهو محرم عليكم إخراجهم . أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ . .

    ولقد كان هذا الذي يواجههم به واقعا قريب العهد قبيل غلبة الإسلام على الأوس والخزرج . كان الأوس والخزرج مشركين ، وكان الحيان أشد ما يكون حيان من العرب عداء . وكان اليهود في المدينة ثلاثة أحياء ترتبط بعهود مع هذا الحي وذاك من المشركين . . كان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج ، وكان ينو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ؛ فيقتل اليهودي أعداءه ،وقد يقتل اليهودي اليهودي من الفريق الآخر - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم - وكانوا يخرجونهم من ديارهم إذا غلب فريقهم وينهبون أموالهم ويأخذون سباياهم - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم - ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فادوا الأسارى ، وفكوا أسر المأسورين من اليهود هنا أو هناك ، عندهم أو عند حلفائهم أو أعداء حلفائهم على السواء - وذلك عملا بحكم التوراة وقد جاء فيها:إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا أخذته فأعتقته . .

    هذا التناقض هو الذي يواجههم به القرآن ؛ وهو يسألهم في استنكار:

    أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ . .

    وهذا هو نقض الميثاق الذي يتهددهم عليه بالخزي في الحياة الدنيا ، والعذاب الأشد في الآخرة . مع التهديد الخفي بأن الله ليس غافلا عنه ولا متجاوزا:

    فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب . وما الله بغافل عما تعملون . .

    ثم يلتفت إلى المسلمين وإلى البشرية جميعا ، وهو يعلن حقيقتهم وحقيقة عملهم:

    أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة . فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون . .

    وكذبوا إذن في دعواهم أن لن تمسهم النار إلا أياما معدودة . . فهؤلاء هم هناك: فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون . .

    وقصة شرائهم الحياة الدنيا بالآخرة هنا في هذه المناسبة:هي أن الدافع لهم على مخالفة ميثاقهم مع الله ، هو استمساكهم بميثاقهم مع المشركين في حلف يقتضي مخالفة دينهم وكتابهم . فإن انقسامهم فريقين ، وانضمامهم إلى حلفين ، هي هي خطة إسرائيل التقليدية ، في إمساك العصا من الوسط ؛ والانضمام إلى المعسكرات المتطاحنة كلها من باب الاحتياط ، لتحقيق بعض المغانم على أية حال ؛ وضمان صوالح اليهود في النهاية سواء انتصر هذا المعسكر أم ذاك ! وهي خطة من لا يثق بالله ، ولا يستمسك بميثاقه ، ويجعل اعتماده كله على الدهاء ، ومواثيق الأرض ، والاستنصار بالعباد لا برب العباد . والإيمان يحرم على أهله الدخول في حلف يناقض ميثاقهم مع ربهم ، ويناقض تكاليف شريعتهم ، باسم المصلحة أو الوقاية ، فلا مصلحة إلا في اتباع دينهم ، ولا وقاية إلا بحفظ عهدهم مع ربهم .

     

    الدرس السادس:87 مزاجية اليهود في التعامل مع الحق

    ثم يمضي السياق يواجه بني إسرائيل بمواقفهم تجاه النبوات وتجاه الأنبياء . . أنبيائهم هم ، وما كان من سوء صنيعهم معهم كلما جاءوهم بالحق ، الذي لا يخضع للأهواء . .

    ولقد آتينا موسى الكتاب ، وقفينا من بعده بالرسل ؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس . أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ، ففريقا كذبتم ، وفريقا تقتلون ؟ . .

    ولقد كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام ، وإبائهم الدخول فيه ، أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم ، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم . . فهنا يفضحهم القرآن ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم . ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق ، الذي لا يخضع لأهوائهم .

    وفيما تقدم واجههم بالكثير من مواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وقد آتاه الله الكتاب . ويزيد هناأن رسلهم توالت تترى ، يقفو بعضهم بعضا ؛ وكان آخرهم عيسى بن مريم . وقد آتاه الله المعجزات البينات ، وأيده بروح القدس جبريل - عليه السلام - فكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام ؟ كان هذا الذي يستنكره عليهم ؛ والذي لا يملكون هم إنكاره ، وكتبهم ذاتها تقرره وتشهد به:

    أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم:ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ! !

    ومحاولة إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارىء والنزوة المتقلبة . ظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة ، وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني ذاته . المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت - غير المصدر الإنساني المتقلب - مصدر لا يميل مع الهوى ، ولا تغلبه النزوة . وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب ، والصحة والمرض ، والنزوة والهوى ، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى !

    ولقد قص الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذرهم من الوقوع في مثله ، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض والأمانة التي ناطها بهم الله ، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل ، وطرحوا منهج الله وشريعته ، وحكموا أهواءهم وشهواتهم ، وقتلوا فريقا من الهداة وكذبوا فريقا . ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل ، من الفرقة والضعف ، والذلة والهوان ، والشقاء والتعاسة . . إلا أن يستجيبوا لله ورسله ، وإلا أن يخضعوا أهواءهم لشريعته وكتابه ، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم ومع أسلافهم ، وإلا أن يأخذوه بقوة ، ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون .

     

    الدرس السابع:88 - 93:حقد اليهود على النبي الخاتم وبعض جرائمهم

    ذلك كان موقفهم مع أنبيائهم ، يبينه ويقرره ، ثم يجابههم بموقفهم من الرسالة الجديدة والنبي الجديد ، فإذا هم هم ، كأنهم أولئك الذين جابهوا الأنبياء من قبل:

    وقالوا:قلوبنا غلف . بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . فلعنة الله على الكافرين . بئسما اشتروا به أنفسهم:أن يكفروا بما أنزل الله - بغيا ، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده - فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين . وإذا قيل لهم:آمنوا بما أنزل الله ، قالوا:نؤمن بما أنزل علينا . ويكفرون بما وراءه ، وهو الحق مصدقا لما معهم ، قل:فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ؟ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون . وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور:خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا . قالوا:سمعنا وعصينا ، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم . قل:بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ! . .

    إن الأسلوب هنا يعنف ويشتد ، ويتحول - في بعض المواضع - إلى صواعق وحمم . . إنه يجبههم جبها شديدا بما قالوا وما فعلوا ؛ ويجردهم من كل حججهم ومعاذيرهم ، التي يسترون بها استكبارهم عن الحق ، وأثرتهم البغيضة ، وعزلتهم النافرة ، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الخير ، وحسدهم أن يؤتي الله أحدا من فضله . جزاء موقفهم الجحودي المنكر من الإسلام ورسوله الكريم . .

    وقالوا:قلوبنا غلف . بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون . .

    قالوا:إن قلوبنا مغلفة لا تنفذ إليها دعوة جديدة ، ولا تستمع إلى داعية جديد ! قالوها تيئيسا لمحمد [ ص ] وللمسلمين ، من دعوتهم إلى هذا الدين ؛ أو تعليلا لعدم استجابتهم لدعوة الرسول . . ويقول الله ردا على قولتهم: بل لعنهم الله بكفرهم . . أي إنه طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم . فهم قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع بالهدى . . فقليلا ما يؤمنون . . أي قليلا ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا الطرد الذي حق عليهم جزاء كفرهم السابق ، وضلالهم القديم . أو أن هذه حالهم:أنهم كفروا فقلما يقع منهم الإيمان ، حالة لاصقة بهم يذكرها تقريرا لحقيقتهم . . وكلا المعنيين يتفق مع المناسبة والموضوع .

    وقد كان كفرهم قبيحا ، لأنهم كفروا بالنبي الذي ارتقبوه ، واستفتحوا به على الكافرين ، أي ارتقبوا أن ينتصروا به على من سواهم . وقد جاءهم بكتاب مصدق لما معهم:

    ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . .

    وهو تصرف يستحق الطرد والغضب لقبحه وشناعته . . ومن ثم يصب عليهم اللعنة ويصمهم بالكفر: فلعنة الله على الكافرين . .

    ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه ؛ بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها:

    بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ، بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين . .

    بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . . . لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم ! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما ، يكثر أو يقل . أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع . وإن بدا تمثيلا وتصويرا . لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين . وبماذا خرجوا في النهاية ؟ خرجوا بالكفر ، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه !

    وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله [ ص ] أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم ، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . وكان هذا بغيا منهم وظلما فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب ؛ وهناك ينتظرهم عذاب مهين ، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم .

    وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود ، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد ؛ وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها ؛ ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى ، التي تربط البشرية جميعا . . وهكذا عاش اليهود في عزلة ، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة ؛ ويتربصون بالبشرية الدوائر ؛ ويكنون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ، ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض ، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم ، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفىء ، وهلاكا يسلطونه على الناس ، ويسلطه عليهم الناس . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة: بغيا . . أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . .

    وإذا قيل لهم:آمنوا بما أنزل الله قالوا:نؤمن بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم . .

    وكان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن وبالإسلام . كانوا يقولون نؤمن بما أنزل علينا . . ففيه الكفاية ، وهو وحده الحق ، ثم يكفرون بما وراءه . سواء ما جاءهم به عيسى عليه السلام ، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين .

    والقرآن يعجب من موقفهم هذا ، ومن كفرهم بما وراء الذي معهم وهو الحق مصدقا لما معهم . .

    وما لهم وللحق ؟ وما لهم أن يكون مصدقا لما معهم ! ما داموا لم يستأثروا هم به ؟ إنهم يعبدون أنفسهم ، ويتعبدون لعصبيتهم . لا بل إنهم ليعبدون هواهم ، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم أنبياؤهم به . . ويلقن الله نبيه [ ص ] أن يجبههم بهذه الحقيقة ، كشفا لموقفهم وفضحا لدعواهم:

    قل:فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ؟ . .

    لم تقتلون أنبياء الله من قبل ، إن كنتم حقا تؤمنون بما أنزل إليكم ؟ وهؤلاء الأنبياء هم الذي جاؤوكم بما تدعون أنكم تؤمنون به ؟

    لا بل إنكم كفرتم بما جاءكم به موسى - نبيكم الأول ومنقذكم الأكبر -:

    ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون . .

    فهل اتخاذكم العجل من بعدما جاءكم موسى بالبينات ، وفي حياة موسى نفسه ، كان من وحي الإيمان ؟ وهل يتفق هذا مع دعواكم أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم ؟

    ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة . بل كان هنالك الميثاق تحت الصخرة ، وكان هناك التمرد والمعصية:

    وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور:خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا . قالوا:سمعنا وعصينا ، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم . .

    والسياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية . . يخاطب بني إسرائيل بما كان منهم ، ويلتفت إلى المؤمنين - وإلى الناس جميعا - فيطلعهم على ما كان منهم . . ثم يلقن الرسول [ ص ] أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون من الإيمان العجيب الذي يدعونه إن كان يأمرهم بكل هذا الكفر الصريح:

    قل:بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ! . .

    ونقف هنا لحظة أمام التعبيرين المصورين العجيبين: قالوا:سمعنا وعصينا . . وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم . .

    إنهم قالوا:سمعنا . ولم يقولوا عصينا . ففيم إذن حكاية هذا القول عنهم هنا ؟ إنه التصوير الحي للواقع الصامت كأنه واقع ناطق . لقد قالوا بأفواههم:سمعنا . وقالوا بأعمالهم:عصينا . والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي دلالته . وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق . . وهذا التصوير الحي للواقع يومىء إلى مبدأ كلي من مباديء الإسلام:إنه لا قيمة لقول بلا عمل . إن العمل هو المعتبر . أو هي الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة ، وهي مناط الحكم والتقدير .

    فأما الصورة الغليظة التي ترسمها: وأشربوا في قلوبهم العجل فهي صورة فريدة . لقد أشربوا . أشربوا بفعل فاعل سواهم . أشربوا ماذا ؟ أشربوا العجل ! وأين أشربوه ؟ أشربوه في قلوبهم ! ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة ، وتلك الصورة الساخرة الهازئة:صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا ، ويحشر فيها حشرا ، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسمة لتؤديه ، وهو حبهم الشديد لعبادة العجل ، حتى لكأنهم أشربوه إشرابا في القلوب ! هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور ، بالقياس . إن التعبير الذهي المفسر . . إنه التصوير . . السمة البارزة في التعبير القرآني الجميل .

     

    الدرس الثامن:94 - 96 عدم تمنيهم الموت وحرصهم على الحياة

    ثم لقد كانوا يطلقونها دعوى عريضة . . إنهم شعب الله المختار . إنهم وحدهم المهتدون . إنهم وحدهم الفائزون في الآخرة . إنه ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة عند الله نصيب .

    وهذه الدعوى تتضمن أن المؤمنين بمحمد [ ص ] لا نصيب لهم في الآخرة . والهدف الأول هو زعزعة ثقتهم بدينهم وبوعود رسولهم ووعود القرآن لهم . . فأمر الله نبيه [ ص ] أن يدعو اليهود إلى مباهلة . أي بأن يقف الفريقان ويدعوا الله بهلاك الكاذب منهما:

    قل:إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس ، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين .

    ويعقب على هذا التحدي بتقرير أنهم لن يقبلوا المباهلة ، ولن يطلبوا الموت . لأنهم يعلمون أنهم كاذبون ؛ ويخشون أن يستجيب الله فيأخذهم . وهم يعلمون أن ما قدموه من عمل لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة . وعندئذ يكونون قد خسروا الدنيا بالموت الذي طلبوه ، وخسروا الآخرة بالعمل السيىء الذي قدموه . . ومن ثم فإنهم لن يقبلوا التحدي . فهم أحرص الناس على حياة . وهم والمشركون في هذا سواء:

    ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم . والله عليم بالظالمين . ولتجدنهم أحرص الناس على حياة . ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، والله بصير بما يعملون .

    لن يتمنوه . لأن ما قدمته أيديهم للآخرة لا يطمعهم في ثواب ، ولا يؤمنهم من عقاب . إنه مدخر لهم هناك ، والله عليم بالظالمين وما كانوا يعملون .

    وليس هذا فحسب . ولكنها خصلة أخرى في يهود ، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنضح بالتحقير والمهانة: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة . . أية حياة ، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق ! حياة فقط ! حياة بهذا التنكير والتحقير ! حياة ديدان أو حشرات ! حياة والسلام ! إنها يهود ، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء . وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة . فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس ، وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة . . أي حياة !

    ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، والله بصير بما يعملون . .

    يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . ذلك أنهم لا يرجون لقاء الله ، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة . وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها ، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة . . إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة . نعمة يفيضها الإيمان على القلب . نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني . المحدود الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود ، إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة . فالإيمان بالآخرة - فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق ، وجزائه الأوفى - هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية ، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض ؛ إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق ، الذي لا يعلم إلا الله مداه ، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صعدا إلى جوار الله .

     

    الدرس التاسع:97 - 98 كفرهم لتفريقهم بين الملائكة والرسل

    ويمضي السياق بتلقين جديد من الله لرسوله [ ص ] يتحداهم به ، ويعلن الحقيقة التي يتضمنها على رؤوس الأشهاد:

    قل:من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ، مصدقا لما بين يديه ، وهدى وبشرى للمؤمنين . من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ، فإن الله عدو للكافرين . .

    وفي قصة هذا التحدي نطلع على سمة أخرى من سمات يهود . سمة عجيبة حقا . . لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده مبلغا يتجاوز كل حد ، وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل . . لقد سمعوا أن جبريل ينزل بالوحي من عند الله على محمد [ ص ] ولما كان عداؤهم لمحمد قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لج بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة ، فيزعموا أن جبريل عدوهم ، لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب ؛ وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد من جراء صاحبه جبريل ! ولو كان الذي ينزل إليه بالوحي هو ميكائيل لآمنوا ، فميكائيل يتنزل بالرخاء والمطر والخصب !

    إنها الحماقة المضحكة ، ولكن الغيظ والحقد يسوقان إلى كل حماقة . وإلا فما بالهم يعادون جبريل ؟ وجبريل لم يكن بشرا يعمل معهم أو ضدهم ، ولم يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير ؟ إنما هو عبد الله يفعل ما يأمره ولا يعصى الله ما أمره !

    قل:من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله . .

    فما كان له من هوى شخصي ، ولا إرادة ذاتية ، في أن ينزله على قلبك ، إنما هو منفذ لإرادة الله وإذنه في تنزيل هذا القرآن على قلبك . . والقلب هو موضع التلقي ، وهو الذي يفقه بعد التلقي ، ويستقر هذا الكتاب فيه ويحفظ . . والقلب يعبر به في القرآن عن قوة الإدراك جملة وليس هو هذه العضلة المعروفة بطبيعة الحال .

    نزله على قلبك . . مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين . .

    والقرآن يصدق في عمومه ما سبقه من الكتب السماوية ، فأساس دين الله واحد في جميع الكتب السماوية وجميع الديانات الإلهية . . وهو هدى وبشرى للقلوب المؤمنة ، التي تتفتح له وتستجيب . . وهذه حقيقة ينبغي إبرازها . . إن نصوص القرآن لتسكب في قلب المؤمن من الإيناس ، وتفتح له من أبواب المعرفة ، وتفيض فيه من الإيحاءات والمشاعر ما لا يكون بغير الإيمان . ومن ثم يجد فيه الهدى ، كما يستروح فيه البشرى . وكذلك نجد القرآن يكرر هذه الحقيقة في مناسبات شتى . . هدى للمتقين . . هدى لقوم يؤمنون . . هدى لقوم يوقنون . . شفاء ورحمة للمؤمنين . فالهدى ثمرة الإيمان والتقوى واليقين . .

    وبنو إسرائيل لم يكونوا يؤمنون أو يتقون أو يوقنون !

    وكانوا - كعادتهم في تفريق الدين وتفريق الرسل - قد فرقوا بين ملائكة الله الذين يسمعون أسماءهم وأعمالهم ، فقالوا:إنهم على صداقة مع ميكائيل أما مع جبريل فلا ! لذلك جمعت الآية التالية جبريل وميكال وملائكة الله ورسله ، لبيان وحدة الجميع ، ولإعلان أن من عادى أحدا منهم فقد عاداهم جميعا ، وعادى الله سبحانه ، فعاداه الله . فهو من الكافرين . .

    من كان عدوا لله وملائكته ورسله ، وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين .

     

    الدرس العاشر:99 - 101 فسق اليهود ونقضهم العهد

    ثم يتجه بالخطاب إلى الرسول [ ص ] يثبته على ما أنزل عليه من الحق ، وما آتاه من الآيات البينات ، مقررا أنه لا يكفر بهذه الآيات إلا الفاسقون المنحرفون . ويندد ببني إسرائيل الذين لا يستقيمون على عهد . سواء عهودهم مع ربهم وأنبيائهم من قبل ، أو عهودهم مع رسول الله [ ص ] كمايندد بنبذهم لكتاب الله الأخير الذي جاء مصدقا لما معهم:

    ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ، أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ بل أكثرهم لا يؤمنون . ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ، كأنهم لا يعلمون . . . . .

    لقد كشف القرآن هنا عن علة كفر بني إسرائيل بتلك الآيات البينات التي أنزلها الله . . إنه الفسوق وانحراف الفطرة . فالطبيعة المستقيمة لا يسعها إلا الإيمان بتلك الآيات . وهي تفرض نفسها فرضا على القلب المستقيم . فإذا كفر بها اليهود - أو غيرهم - فليس هذا لأنه لا مقنع فيها ولا حجة ، ولكن لأنهم هم فاسدو الفطرة فاسقون .

    ثم يلتفت إلى المسلمين - وإلى الناس عامة - منددا بهؤلاء اليهود ، كاشفا عن سمة من سماتهم الوبيئة . . إنهم جماعة مفككة الأهواء - رغم تعصبها الذميم - فهم لا يجتمعون على رأي ، ولا يثبتون على عهد ، ولا يستمسكون بعروة . ومع أنهم متعصبون لأنفسهم وجنسهم ، يكرهون أن يمنح الله شيئا من فضله لسواهم ، إلا أنهم - مع هذا - لا يستمسكون بوحدة ، ولا يحفظ بعضهم عهد بعض ، وما من عهد يقطعونه على أنفسهم حتى تند منهم فرقة فتنقض ما أبرموا ، وتخرج على ما أجمعوا:

    أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ بل أكثرهم لا يؤمنون . .

    وقد أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل ، ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد ، وأخيرا نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع النبي [ ص ] أول مقدمه إلى المدينة ؛ وهو العهد الذي وادعهم فيه بشروط معينة ، بينما كانوا هم أول من أعان عليه أعداءه ؛ وأول من عاب دينة ، وحاول بث الفرقة والفتنة في الصف المسلم ، مخالفين ما عاهدوا المسلمين عليه . .

    وبئس هي من خلة في اليهود ! تقابلها في المسلمين خلة أخرى على النقيض ، يعلنها رسول الله [ ص ] في قوله المسلمون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم . . يسعى بذمتهم أدناهم ، فلا يخيس أحد بعهده إذا عاهد ، ولا ينقض أحد عقده إذا أبرم ، ولقد كتب أبو عبيدة - رضي الله عنه - وهو قائد لجيش عمر - رضي الله عنه - وهو الخليفة يقول:إن عبدا أمن أهل بلد بالعراق . وسأله رأيه . فكتب إليه عمر:إن الله عظم الوفاء ، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا . . فوفوا لهم وانصرفوا عنهم . . وهذه سمة الجماعة الكريمة المتماسكة المستقيمة . وذلك فرق ما بين أخلاق اليهود الفاسقين وأخلاق المسلمين الصادقين .

    ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ، نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون . .

    وكان هذا مظهرا من مظاهر نقض فريق لكل عهد يعاهدونه . فلقد كان ضمن الميثاق الذي أخذه الله عليهم ، أن يؤمنوا بكل رسول يبعثه ، وأن ينصروه ويحترموه . فلما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ، خاسوا بذلك العهد ، ونبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ، يستوي في هذا النبذ كتاب الله الذي معهم ، والذي يتضمن البشرى بهذا النبي وقد نبذوه ، والكتاب الجديد مع النبي الجديد وقدنبذوه أيضا !

    وفي الآية ما فيها من سخرية خفية ، يحملها ذلك النص على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . فلو كانوا هم المشركين الأميين لكان نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم مفهوما ! ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب . هم الذين عرفوا الرسالات والرسل . هم الذين اتصلوا بالهدى ورأوا النور . . وماذا صنعوا ؟ إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ! والمقصود طبعا أنهم جحدوه وتركوا العمل به ، وأنهم أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم . ولكن التعبير المصور ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحس ؛ ويمثل عملهم بحركة مادية متخيلة ، تصور هذا التصرف تصويرا بشعا زريا ، ينضح بالكنود والجحود ، ويتسم بالغلظة والحماقة ، ويفيض بسوء الأدب والقحة ؛ ويدع الخيال يتملى هذه الحركة العنيفة . حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور . .

     

    الدرس الحادي عشر:102 - 103 اليهود والسحر وقصة هاروت وماروت

    ثم ماذا ؟ ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم ؟ ؟ ألعلهم قد لاذوا بما هو خير منه ؟ ألعلهم قد لجأوا إلى حق لا شبهة فيه ؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه ؟ كلا . . لا شيء من هذا كله . إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة .

    واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وما كفر سليمان ، ولكن الشياطين كفروا . يعلمون الناس السحر ، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . وما يعلمان من أحد حتى يقولا:إنما نحن فتنة فلا تكفر . فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه - وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله - ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم . ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون . .

    لقد تركوا ما أنزل الله مصدقا لما معهم ؛ وراحوا يتتبعون ما يقصه الشياطين عن عهد سليمان ، وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة عن سليمان ، إذ يقولون:إنه كان ساحرا ، وإنه سخر ما سخر عن طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه .

    والقرآن ينفي عن سليمان - عليه السلام - أنه كان ساحرا ، فيقول:

    وما كفر سليمان .

    فكأنه يعد السحر واستخدامه كفرا ينفيه عن سليمان - عليه السلام - ويثبته للشياطين:

    ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر . .

    ثم ينفي أن السحر منزل من عند الله على الملكين:هاروت وماروت . اللذين كان مقرهما بابل:

    وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . .

    ويبدو أنه كانت هناك قصة معروفة عنهما ، وكان اليهود أو الشياطين يدعون أنهما كانا يعرفان السحر ويعلمانه للناس ، ويزعمان أن هذا السحر أنزل عليهما ! فنفى القرآن هذه الفرية أيضا . فرية تنزيل السحر على الملكين .

    ثم يبين الحقيقة ، وهي أن هذين الملكين كانا هناك فتنة وابتلاء للناس لحكمة مغيبة . وأنهما كانا يقولان لكل من يجيء اليهما ، طالبا منهما أن يعلماه السحر:

    وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر . .

    ومرة أخرى نجد القرآن يعتبر السحر وتعلمه واستخدامه كفرا ؛ ويذكر هذا على لسان الملكين:هاروتوماروت .

    وقد كان بعض الناس يصر على تعلم السحر منهما ، على الرغم من تحذيره وتبصيره . وعندئذ تحق الفتنة على بعض المفتونين:

    فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه . .

    وهو الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان . .

    وهنا يبادر القرآن فيقرر كلية التصور الإسلامي الأساسية ، وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله:

    وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله . .

    فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشىء آثارها وتحقق نتائجها . . وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من وضوحها في ضمير المؤمن تماما . وأقرب ما يمثل هذه القاعدة في مثل هذا المقام ، أنك إذا عرضت يدك للنار فإنها تحترق . ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله . فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها . وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها ؛ كما وقع لإبراهيم - عليه السلام - وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه ، ينشىء هذا الأثر بإذن الله . وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها . . وهكذا بقية ما نتعارف عليه بأنه مؤثرات وآثار . . كل مؤثر مودع خاصية التأثير بإذن الله ، فهو يعمل بهذا الإذن ، ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء . .

    ثم يقرر القرآن حقيقة ما يتعلمون ، وما يفرقون به بين المرء وزوجه . . إنه شر عليهم هم أنفسهم لا خير:

    ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم . .

    ويكفي أن يكون هذا الشر هو الكفر ليكون ضرا خالصا لا نفع فيه !

    ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق . .

    ولقد علموا أن الذي يشتريه لا نصيب له في الآخرة ، فهو حين يختاره ويشتريه يفقد كل رصيد له في الآخرة وكل نصيب . .

    فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون حقيقة الصفقة:

    ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . .

    ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون . .

    وينطبق هذا القول على الذين كانوا يتعلمون السحر من الملكين ببابل ، وعلى الذين يتبعون ما تقصه الشياطين عن عهد سليمان وملكه ، وهم اليهود الذين ينبذون كتاب الله وراءهم ظهريا ، ويتبعون هذا الباطل وهذا الشر الذميم .

     

    تعقيب على قصة هاروت وماروت وبعد فلا بد من كلمة هنا عن السحر ، وعما يفرق بين المرء وزوجه ، مما كان أولئك اليهود يجرون خلفه ، ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم من أجله . .

    إنه ما يزال مشاهدا في كل وقت أن بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد . لقدسمي بعضها بأسماء ولكنه لم يحدد كنهها ولا طرائقها ! . . هذا "التيليبياثي" - التخاطر عن بعد - ما هو ؟ وكيف يتم ؟ كيف يملك إنسان أن يدعو إنسانا على أبعاد وفواصل لا يصل إليها صوت الإنسان في العادة ولا بصره ، فيتلقى عنه ، دون أن تقف بينهما الفواصل والأبعاد ؟

    وهذا التنويم المغنطيسي ما هو وكيف يتم ؟ كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة ، وأن يتصل فكر بفكر ، فإذا أحدهما يوحي إلى الآخر ، وإذا أحدهما يتلقى عن الآخر ، كأنما يقرأ من كتاب مفتوح ؟

    إن كل ما استطاع العلم أن يقوله إلى اليوم في هذه القوى التي اعترف بها ، هو أن أعطاها أسماء ! ولكنه لم يقل قط:ما هي ؟ ولم يقل قط كيف تتم ؟

    وثمة أمور كثيرة أخرى يماري فيها العلم . إما لأنه لم يجمع منها مشاهدات كافية للاعتراف بها ؛ وإما لأنه لم يهتد إلى وسيلة تدخلها في نطاق تجاربه . هذه الأحلام التنبئية - وفرويد الذي يحاول إنكار كل قوة روحية لم يستطع إنكار وجودها - كيف أرى رؤيا عن مستقبل مجهول ، ثم إذا هذه النبوءة تصدق في الواقع بعد حين ؟ وهذه الأحاسيس الخفية التي ليس لها اسم بعد . كيف أحس أن أمرا ما سيحدث بعد قليل أو أن شخصا ما قادم بعد قليل ؛ ثم يحدث ما توقعت على نحو من الأنحاء !

    إنه من المكابرة في الواقع أن يقف إنسان لينفي ببساطة مثل هذه القوى المجهولة في الكائن البشري ، لمجرد أن العلم لم يهتد بعد إلى وسيلة يجرب بها هذه القوى .

    وليس معنى هذا هو التسليم بكل خرافة ، والجري وراء كل أسطورة . . إنما الأسلم والأحوط أن يقف العقل الإنساني أمام هذه المجاهيل موقفا مرنا . . لا ينفي على الإطلاق ولا يثبت على الإطلاق ، حتى يتمكن بوسائله المتاحة له بعد ارتقاء هذه الوسائل من إدراك ما يعجز الآن عن إدراكه ؛ أو يسلم بأن في الأمر شيئا فوق طاقته ، ويعرف حدوده ، ويحسب للمجهول في هذا الكون حسابه . .

    السحر من قبيل هذه الأمور . وتعليم الشياطين للناس من قبيل هذه الأمور . وقد تكون صورة من صورة:القدرة على الإيحاء والتأثير ، إما في الحواس والأفكار ، وإما في الأشياء والأجسام . . وإن كان السحر الذي ذكر القرآن وقوعه من سحرة فرعون كان مجرد تخييل لا حقيقة له: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى - ولا مانع أن يكون مثل هذا التأثير وسيلة للتفريق بين المرء وزوجه ، وبين الصديق وصديقه . فالانفعالات تنشأ من التأثرات . وإن كانت الوسائل والآثار ، والأسباب والمسببات ، لا تقع كلها إلا بإذن الله ، على النحو الذي أسلفنا .

    أما من هما الملكان:هاروت وماروت ؟ ومتى كانا ببابل ؟ فإن قصتهما كانت متعارفة بين اليهود . بدليل أنهم لم يكذبوا هذه الإشارة ولم يعترضوا عليها . وقد وردت في القرآن الكريم إشارات مجملة لبعض الأحداث التي كانت معروفة عند المخاطبين بها ؛ وكان في ذلك الإجمال كفاية لأداء الغرض ، ولم يكن هنالك ما يدعو إلى تفصيل أكثر . لأن هذا التفصيل ليس هو المقصود .

    ولا أحب أن نجري نحن - في ظلال القرآن - خلف الأساطير الكثيرة التي وردت حول قصة الملكين . فليست هنالك رواية واحدة محققة يوثق بها .

    ولقد مضى في تاريخ البشرية من الآيات والابتلاءات ما يناسب حالتها وإدراكها في كل طور من أطوارها . فإذا جاء الاختيار في صورة ملكين - أو في صورة رجلين طيبين كالملائكة - فليس هذا غريبا ولا شاذا بالقياس إلى شتى الصور وشتى الابتلاءات الخارقة ، التي مرت بها البشرية وهي تحبو ، وهي تخطو ، وهي تقفوأشعة الشعلة الإلهية المنيرة في غياهب الليل البهيم !

    والمفهومات الواضحة المحكمة في هذه الآيات تغني عن السعي وراء المتشابه فيها بالقياس إلينا بعد ذلك الزمن المديد . وحسبنا أن نعلم منها ضلال بني إسرائيل في جريهم وراء الأساطير ، ونبذهم كتاب الله المستيقن ، وأن نعرف أن السحر من عمل الشيطان ؛ وأنه من ثم كفر يدان به الإنسان ، ويفقد به في الآخرة كل نصيب وكل رصيد .


    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()