حروب رمسيس الثاني وتسخير بني إسرائيل
|
تمثال لرمسيس الثاني وهو يمسك بصولجان الحرب
|
الدكتور رشدي البدراوي
أستاذ بجامعة القاهرة وباحث وكاتب إسلامي
لقد تم تخصيص هذه المقالة لوصف حروب رمسيس الثاني وبالذات معركة قادش لما كان لها من انعكاسات على وضع بني إسرائيل في مصر. إذ فور أن عاد رمسيس الثاني من هذه المعركة حتى بدأت حملة ضاربة من التعذيب والتنكيل ببني إسرائيل بلغت مداها بإصدار أوامر بذبح المواليد الذكور وترك البنات، والذي أشار إليه القرآن الكريم:
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } [البقرة: 49].
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } [إبراهيم: 6].
وقد سبق أن ذكرنا أن ذلك التسخير هو أحد الأشياء التي يجب أن تتوافر في فرعون موسى واستبعدنا عدداً من النظريات لعدم توافر هذا الشرط وسنرى الآن أن رمسيس الثاني كان تقريباً الفرعون الوحيد الذي توافر لديه دافع قوي لإنزال هذا التعذيب الشديد ببني إسرائيل.
وذكرنا أن سياسة أخناتون أفقدت مصر إمبراطوريتها التي أسسها تحتمس الأول وتحتمس الثالث، ولما تولى حورمحب الحكم أعاد الانضباط إلى الإدارة الحكومية، وبدأت الأسرة التاسعة عشرة برمسيس الأول ثم خلفه سيتي الأول واعتبر الشعب توليه الحكم بداية عهد جديد ومن ثم أطلق عليه لقب ( مجدد الميلاد) وقاد حملات مظفرة في فلسطين والشام، ومن ثم بدأ الاحتكام بين مصر والحثيين في آسيا الصغرى الذين كانوا قد استولوا على شمال سوريا. ودارت معارك كان النصر فيها حليف سيتي الأول وعقد مع ملكهم معاهدة ودية، كما حمى مصر من غارات الليبيين في الغرب وعندما تولى رمسيس الثاني الحكم قام ملك خيتا بزيارة لمصر، ولا يُعرف السبب الحقيقي الذي كان وراء هذه الزيارة، هل هو تأكيد المعاهدة الودية التي أبرمها سيتي الأول معهم، أم هي لسبر غور الفرعون الجديد ومعرفة نواياه تجاههم، المهم أن الأموريين ( في شمال العراق ) قاموا بثورة ونقضوا ولاءهم لمملكة خيتا ( الحثيين) وولوا وجوههم شطر مصر لمعاونتهم، وتوترت العلاقات بين مصر وخيتا. وكان رمسيس الثاني يطمع في إعادة الإمبراطورية المصرية كما كانت في عهد تحتمس الثالث ومن ثم فقد قاد في السنة الرابعة من حكمه حملة لإخضاع الساحل الفينيقي ليتخذه قاعدة لتوسعاته المقبلة ووصل إلى نهر الكلب على مقربة من بيروت، ونقش على صخرة هناك ما يدل على وصوله إلى هذا المكان، وكان في هذا نقض للمعاهدة التي كانت معقودة بين سيتي الأول والده وملك خيتا، وأضمر رمسيس الثاني متابعة التوسع شمالاً، وفي العام التالي – أي العام الخامس من حكمه قاد حملة ثانية وهي الحملة التي وقعت فيها معركة قادش الشهيرة وكان ملك خيتا من جانبه قد توجس خيفة من رمسيس الثاني ولعله علم نواياه فاستعد لذلك وأعد جيشاً قوياً انخرط في سلكه كثير من المرتزقة، كما استمال إله أمراء الشام حتى لا يقوموا بطعنه من الخلف أثناء حربه مع المصريين.
معركة قادش:
وصف المعركة ( نقلاً بتصرّف عن كتاب فرعون المنتصر. كتشن، ص 53):
في يوم ربيع دافئ في أواخر شهر أبريل من عام 1287 ق.م كان هناك هرج ومرج في مدينة بررعمسيس، فكتائب المشاة تتجمع وفرق العربات الحربية كانت تثير الغبار فيما قوادها يختبرون حماس خيولها المتحفزة، وفتحت مخازن المهمات الحربية لتأخذ كل سرية حاجتها من الدروع والسيوف والخناجر، وتجمع في الأرض الواسعة حول المدينة جيش كبير قوامه عشرون ألف مقاتل مقسمين إلى أربعة فيالق، كل منها باسم أحد الأرباب المصريين الكبار، وقد اختبر أفراد كل فيلق من مكان عبادة هذه الآلهة، فمن طيبة جاء فيلق آمون، ومن منف ومصر الوسطى جاء فيلق (بتاح) ومن عين شمس جنّد فيلق ( رع) ومن بررعمسيس اختير فيلق (ست) كذلك تخير رمسيس الثاني مجموعة من صفوة الشبان الشجعان وسماهم ( فريق الفتوة ) وأمرهم بالتزام خط الساحل واللحاق به عند قادش وحماية ظهر قواته عند الحاجة ويمكن تشبيههم بفرقة صاعقة.
وسار الجيش يقوده رمسيس الثاني بنفسه على رأس فيلق آمون تتبعه الفيالق الثلاث الأخرى، وكما هو مكتوب من وصف المعركة على المعابد:
(بدأ جلالته في السير في السنة الخامسة من حكمه الشهر الثاني من الصيف، اليوم التاسع، وعبر جلالته الحدود عند Sile سيلة، وبدأ قوياً مثل ( منتو) وكانت البلاد الأجنبية ترتجف أمامه، يأتي رؤساؤها بجزاهم، والعصاة خمدوا في أماكنهم خوفاً من قوة جلالته ومر الجيش بغزة وبسرعة عبر أرض كنعان ثم الجليل الأعلى فبحيرة الحولة حيث ينبع نهر الأردن، ثم تابع السير شمالاً في سهل البقاع بين جبال لبنان الشرقية والجبال الغربية وكما كتب عنها: وكانت الجيوش تسير بسهولة كأنها تسير في شوارع مصر ومر على إحدى الحاميات المصرية في وادي الأرز ببلدة كوميدى – المركز الإداري لمقاطعة أوبي (Upi) في جنوب سوريا – وكان قد مضى على خروجه من مصر شهر بالتمام، وسار مخترقاً غابة اللبوة حتى بلغ بلدة شابتوتا ( ربلة الحالية ) على نهر الأورنت (نهر العاصي ) وعسكر على ربوة تشرف على الوادي الفسيح التي تقع مدينة قادش في شماله على مسيرة يوم واحد.
وبعد وصوله هناك دخل معكسره اثنان من الشاسو ( البدو) وادّعيا أنهما يتكلمان باسم إخوانهم رؤساء قبائل البدو وأنهم يعرضون الولاء والتحالف مع مصر بدلاً من الاستعباد الحثي، وأسلمها لرجاله فاستجوبوهما عن مكان جيوش الحثيين فأخبراهم أن حاكم خاتى ما إن سمع بمقدم فرعون حتى ارتعد وتقهقر بجيوشه إلى ما حول حلب في الشمال.
وكان هذا النبأ مفرحاً للفرعون ولاعتقاده الشديد في قوة جيشه فقد صدّقه على الفور، ومع أن هذه الأخبار كانت مبهجة أكثر من اللازم بحيث تدعو إلى الارتياب في صحتها وكان الواجب التحقق منها بإرسال العيون وفرق الكشافة، إلا أن رمسيس الثاني وقد ملأه الزهو بنفسه فإنه صدقها، وأسرع على رأس فيلق أمون يعبر مخاضة نهر العاصي إلى السهل الذي تقع في شماله مدينة قادش.
قادش: تقع قادش على الضفة الغربية لنهر العاصي جنوب بحيرة حمص بعدة كيلومترات وهناك رافد لنهر العاصي يجر في الشمال الغربي منها، وكان هذا من أسباب منعتها إذ بشق قناة تصل بين النهرين تصبح قادش وكأنها جزيرة يصعب اقتحامها ومن ثم فإن من يستولي عليها يمكنه التحكم في كل شمال سوريا.
قلنا إن رمسيس الثاني عبر نهر العاصي ثم سار إلى مرتفع شمال غربي قادش وأقام معسكره هناك في انتظار وصول باقي فيالق الجيش ليتابع السير في أثر جيش خيتا الذي كان يظن أنه في الشمال حسب ما أخبره الجاسوسان وهنا نزلت عليه صاعقة من السماء الصافية التي كان يحلق فيها، فقد وقع في أيدي فرق استطلاعه جنديان من جيش العدو كانا في مهمة لاستكشاف موقع جيش المصريين وعدده، وبالضرب استخلصوا منهما الحقيقة وهو أن جيش الحثيين في مكان شرقي قادش وهو في طريقه ليعبر نهر العاصي وأن الجاسوسيين الأولين كانا خدعة من ملك خيتا، وأدرك رمسيس الثاني هول الكارثة المتوقعة، وراح يوبخ ضباطه على إهمال فرق الاستطلاع وبسرعة أعاد ترتيب الفيلق الذي يرأسه استعداداً لهجوم العدو، كما أرسل الرسل على عجل إلى فيلق بتاح وسوتخ ليسرعا السير، وفي هذه الأثناء كان نصف الجيش الحيثي قد عبر مخاضة نهر العاصي وهاجم فيلق رع بينما الجنود يسيرون في استرخاء غير متوقعين القتال، وتشتت الفيلق ودمر تماماً، ثم تابع جيش خيتا تقدمه حتى أصبح في مواجهة فيلق آمون، وبدأ في مهاجمته ورأى جنود فيلق آمون بقايا الجنود من فيلق رع يجرون مذعورين تتبعهم عاصفة التراب التي تثيرها عربات العدو وهي تلاحقهم فدب الذعر في قلوبهم ولم يدروا ماذا يفعلون حتى أحاط جنود العدو بهم، ثم اندفعت فرقة من جنود العدو تهاجم الجناح الغربي من الفيلق وهنا أظهر رمسيس الثاني شجاعة فائقة إذا اندفع على عربته وقاتل الفرقة المهاجمة بشراسة اليائس والغاضب من تخاذل قواته ويطوف بذهنه شبح الهزيمة فيعطيه قوة مضاعفة على القتال وبهت ضباط الفرقة المهاجمة من هذه الشجاعة وقدروا أن كل جنوده سيحاربون مثله فضعفت عزيمتهم وارتبكوا، وفي نفس هذه اللحظة كان فريق الفتوة قد وصل من الغرب وبدأ في مهاجمة العدو من الخلف وظن الحثيين أن فريق الفتوة قد وصل من الغرب وبدأ في مهاجمة العدو من الخلف وظن الحيثيون أن فريق الفتوة هذا مقدمة جيش كبير فتخاذلوا في القتال كما أن الغبار الذي كان يثيره فيلق ( بتاح ) بدأ يظهر في الأفق من ناحية الجنوب، وشدد رمسيس الثاني عليهم القتال ففروا هاربين عبر النهر يلقون أنفسهم فيه طلباً للنجاة وكان من بين من ألقوا بأنفسهم فيه أمير حلب الذي لم يكن يحسن السباحة فابتلع كمية كبيرة من المياه وتم إنقاذه، وهناك رسم يصور جندوه وقد أمسكوه من رجليه مقلوباً لإفراغ ما في جوفه من مياه.
رمسيس الثاني يهزم الحيثيين، ويرى ملك حلب مقلوباً ( مشار إلهي بعلامة X ) ويحاول رجاله تفريغ ما ابتلعه من ماء.
|
ووصل فيلق (بتاح ) أرض المعركة وبدأ يشترك في المطاردة وفي جمع الأسرى، وذهل ملك خيتا لما آلت إليه نتيجة المعركة مع أن جزءاً كبيراً من جيشه كان لا يزال في الشرق ولم يشترك في المعركة ولو تقدم واشترك فيها لكان النصر حليفه ولكن ملك خيتا ارتد بباقي جيشه لما رأى فرار جنوده وأرسل يطلب وقف القتال والصلح وكان التعب قد حل بجيش رمسيس أيضاً فقبل الصلح.
المهم أن رمسيس الثاني في هذه المعركة خدع خدعة كبيرة كلفته فيلق رع بأكمله، كما فقد فيلق آمون عدداً كبيراً من الجنود، ولم يتمكن رمسيس الثاني من النصر الذي كان يرجوه، وكل ما حصل عليه هو وقف القتال وبقاء الحال كما هو. إذ لم يتمكن من الاستياء على قادش ولا على أرض أمورو، ولعله في قرارة نفسه أضمر أن يحقق ذلك في معركة أخرى في المستقبل، وبدأت مسيرة العودة إلى أرض الوطن... وأخيراً وصل في عربته اللامعة يتبعه طابور طويل من الأسرى ليدخل السرور على شعبه !
بعد عودة رمسيس الثاني أحكم مواتاليس ملك خيتا القبضة على قادش، واتجه غرباً نحو أرض أمورو وعزل أمريها ونصل مكانه أميراً مواليا له، واتجه جنوباً نحو دمشق وجعل من هذه المنطقة أرضاً محايدة بينه وبين مصر وكانت من قبل في حوزة مصر، أي أن النتيجة النهائية كانت في صالح خيتا، ولكن فرحة ملك خيتا لم تدم، إذ انتهز ملك آشور الظروف واستولى على مملكة ميتاني في الفرات الأعلى والتي كانت موالية لملك خيتا وأمدته بجنود في معركته مع رمسيس الثاني.
قلنا إن رمسيس الثاني قَبِل الصلح مع ملك خيتا وعاد إلى مصر يسوق بعض الأسرى، وقد أكثر رمسيس الثاني من تسجيل وصف هذه المعركة في عدة أماكن على الآثار، وإن كنا سنطيل بعض الشيء في ذكر ما جاء بالآثار عن هذه المعركة فذلك لنوضح ما سبق أن ذكرناه سابقاً من أنه فور عودة رمسيس الثاني من هذه المعركة حتى بدأ حملة ضارية من التعذيب والتنكيل ببني إسرائيل كذلك لنلحظ أنه في كل الكتابات التي أمر بها عن المعركة أرجع الفضل في الانتصار في المعركة لشجاعته ورباطة جأشه وجاء في بعضها مبالغات تبعد كثيراً عن الحقيقة ولا يقبلها العقل ولعل هذه البطولة التي نسبها لنفسه جعلته يشعر أنه فعلاً فوق مستوى البشر وأنه يقرب من مستوى الآلهة، الأمر الذي أدى به فيما بعد إلى أن يدعي الألوهية.
وفيما يلي بعض الأماكن التي سجل عليها وصف هذه المعركة: ( مصر القديمة، سليم حسن، ج6 ص 246).
1- على الجدار الغربي الخارجي من ردهة أمنحتب الثالث في معبد الأقصر.
2- على الجدار الجنوبي الشرقي لردهة رمسيس الثاني في معبد الأقصر.
3- على بوابة معبد الأقصر.
4- على الجدار الغربي لمعبد العرابة المدفونة.
5- على البوابة الأولى لمعبد الرمسيوم.
6- على الجدار الشمالي للردهة الثانية في معبد الرمسيوم.
7- على الجدار الشمالي لمعبد أبو سميل سجّل ما يسمى بأنشودة معركة قادش.
8- برديتي ( ريفا ) و(سالييه).
وسنكتفي بذكر ما جاء في اثنتين من الكتابات:
1- كان وصف المعركة والخدعة في أحد هذه الكتابات كما يلي:
في السنة الخامسة الشهر الثالث من فصل الصيف كان ابن الشمس محبوب آمون ( رعمسيس) في حملته الثانية المظفرة في أرض زاهى في سرادق جلالته على الهضبة الجنوبية من قادش، وعندما طلع الفجر أشرق جلالته كما يشرق (رع)، وهنا أتى إليه اثنان من الشاشو (البدو) وقالا لجلالته قائلين إننا سنكون خدماً لفرعون، وقد فررنا من أمير خيتا الخاسئ، وهو يقيم في أرض حلب في الشمال، وهكذا جاء هذان البدويان ليقولا هذا الكلام لجلالته، ويروا المكان الذي فيه جلالته وليروا أنسب الأوقات حتى لا يكون جيش جلالته مستعداً، وصدق جلالته ما قاله البدويان، وسار شمالاً حتى وصل إلى الشمال الغربي من قادش وضرب هناك جلالته سرادقه على الشاطئ الغربي من نهر الأورنت، وأمكن القبض على جاسوسين آخرين أخبرا جلالته بأن جنود خيتا عبروا المخاض جنوبي قادش ثم اقتحموا قلب جيش جلالته، وتخاذل مشاة جلالته أمامهم فسار جنود خيتا شمالاً نحو المكان الذي فيه جلالته، وأحاط الأعداء بحرس جلالته وحينئذ انقض عليهم جلالته، وهو شجاع القلب ووجهه جذوة نار تحرق كل بلد أجنبي باللهب وصار كالأسد الهصور وقوته ترسل عليهم شواظاً من نار وكان جلالته مثل الإله (سوتخ ) عظيم القوة ومثل الإلهة ( سخمت) في وقت غضبها، فأخذ في تذبيحهم وتقتيلهم فسقطوا على وجوههم الواحد فوق الآخر، وقتلهم جلالته مجندلين تحت سنابك خيله ولم يكن معه آخر، وأطاح جلالته بأعدائه خيتا الخاسئين، وكان وراءهم كالمارد الطائر وحيداً وقد فرّ عنه مشاته وخياله، وإني أقسم بحب ( رع ) وحظوة (آتوم) لي أن كل شيء قلته قد فعله جلالته حقاً.
2- ووصف آخر للمعركة جاء به:
كان الحثيون يقفون كامنين خلف مدينة قادش ثم خرجوا من الجهة الجنوبية في قادش واخترقوا قلب فيلق رع الذي كان يتابع السير ولم يكونوا مستعدين للحرب عندئذ تخاذل مشاة جلالته وفرسانه أمامهم، وكان جلالته قد عسكر شمالي قادش وفي هذه اللحظة جاء رجل وأخبر جلالته بذلك وظهر جلالته آنئذ مثل ( منتو) (إله الحرب) فأخذ عدة الحرب ولبس درعه فكان مثل ( بعل ) وركب جلالته مسرعاً، واندس في أعماق الأعداء، وكان وحده ولم يكن معه إنسان آخر ولما نظر خلفه وجد أن طريق مخرجه قد أحيطت بألفين وخمسمائة عربة من كل نوع من حاربي خيتا، ثم يستمر الكلام على لسان رمسيس الثاني فيقول، ولم يكن معي رئيس ولا قائد عربة ولا ضابط مشاة ولا حامل درع، ومشاتي وخيالتي قد تركوني فريسة أمامهم، وعندئذ قال جلالته: ماذا جرى يا والدي (آمون) ؟ هل من عمل الوالد أن يهمل الابن ؟ أم هل عملت شيئاً بغير علم منك ؟ هل مشيت أو وقفت إلا على حسب قولك ؟ هل تعديت الخطط التي أمرت بها من فمك، ألم أقم لك آثاراً عدة لأملا معبدك بأسلابي ؟ ووهبت لك كل أملاكي بوصية، وعملتُ على أن تعطى عشرات الآلاف من الثيران مع كل أنواع النبات الزكية.. (من المرجح أن هذا كان شب نذر نذره إن خرج سالماً من هذه المعركة ) ويستمر الكلام ( ونختصره ) وإذ ذاك وجدت (آمون) قد أتى على أثر ندائي له، ومد إليّ يده، وحينما كنت في ابتهاج كان يصيح خلفي: إلى الأمام يا رمسيس، إني معك، ويدي معك، إني أكثر نفعاً من مائة ألف رجل مجتمعين معاً في مكان واحد، وإني سيد الانتصار الذي يحب الشجاعة لقد كنتُ مثل (منتو) عندما أشد قوسي بيميني، ومثل (بعل) حينما كنتُ أحارب بيدي اليسرى وقد وجدتُ الألف وخمسمائة عربة التي كنت في وسطها وقد تحولت إلى كومة أمام خيلي، وقلوبهم سقطت في جوبهم خوفاً مني وأذرعهم قد شلت، وقد جعلتهم يتساقطون في الماء، وقد خرجوا على وجوههم الواحد فوق الآخر، وذبحت منهم من أردت ولم يلتفت منهم أحد وراءه وقد انقضضت عليهم مثل (منتو) وجعلتهم يذوقون يدي في لحظة وقد قتلتهم في مكانهم حينما كان الواحد يصيح على صاحبه قائلاً: إن الذي بيننا ليس بشراً، إنه (سوتخ) صاحب القوة العظيمة، و(بعل) في أعضائه إذ أن البشر لا يمكنهم أن يأتوا بما يأتيه من الأعمال هلموا نسرع ونولي الأدبار أمامه ونبحث لأنفسنا عن الحياة.
كان فريق الفتوة ( الصاعقة ) قد وصل ولكنه يستمر يعزو النجاح لنفسه فيقول.
وقد أعملتُ السيف فيهم دون هوادة ورفعت السوط وصحتُ على مشاتي وخيالتي قائلاً: قفوا وثبّتوا قلوبكم يا مشاتي ويا خيالتي، شاهدوا انتصاراتي عندما كنت وحيداً و(آمون) كان حامِيّ ويده معي سيتحدث الناس بترككم إياي وحيداً لا رفيق معي ولا عظيم معي ولا ضابط صف يمد يده، وكنت أحارب منفرداً، وظهرتُ أمام الأعداء مثل (منتو) عندما يكون مدججاً بآلات الشجاعة وكنت مثل (رع) عند إشارقي يحرق شعاعي أعضاء العدو وكان الواحد منهم ينادي صاحبه قائلاً: لا تقتربوا لأن( سخمت العظيمة ) معه على فرسه ويدها معه ومن يقترب منه يقابل لهيباً من نار يحرق أعضاءه ووقف رجال خيتا بعيداً، ولكن ( جلالتي ) هجم عليهم وأعملت السيف فيهم دون أن يفلتوا مني وقد صاروا كومة من الجثث أمام جيادي مضرجين بدمائهم فأرسل أمي رخيتا الخاسئ متضرعاً لاسم جلالتي العظيم كما يتضرع الإنسان لاسم (رع) ثم أرسل بعد ذلك رسوله بخطابه سار للقلب في يده باسم جلالتي العظيم يقول: هل من الخير أن تقتل عبيدك ؟ وأن يكون وجهك عابساً لهم ولا تأخذك الشفقة بهم ؟ إنك قد قمت بمذبحتك أمس وأعملت السيف في رقاب المئات، أيها الملك القوي إن السلام أكثر خيراً من الحرب، امنحنا النفس، وبعد ذلك عاد جلالتي في حياة ورضا وجمعت عظمائي لأجعلهم يسمعون السبب الذي من أجله بعث ملك خيتا رسالته.
ثم تذكر الكتابة عقد الصلح وعاد رمسيس إلى مصر، وكان الآلهة يحيونه قائلين: تعالَ تعال يا ابننا الذي نُعزّه سيد الأرضيين، يا رمسيس، ابن الشمس ومحبوب (آمون).
ونعود ثانية إلى شعور رمسيس الثاني بعد المعركة، فهو قد تعرض لخدعة كبرى كادت أن تكلفه حياته، وقد كلفته فيلقاً كاملاً من جيشه كما أن كتب التاريخ تذكر أن التنكيل ببني إسرائيل قد اشتد عقب عودة رمسيس الثاني من معركة قادش ويطرح بعضهم السؤال (د. محمد بيومي مهران، دراسات تاريخية من القرآن الكريم جـ2 ص 154) لم تغير الحال إلى هذا المصير المؤلم ؟ ويجيب ليس أمامنا سوى أن نفترض أن أمراً ما قد حدث من بني إسرائيل، ربما كان خيانة ! رما كان بداية تمرد !
ويمكننا القول بأن الخدعة التي سلبت الفرعون انتصاره في معركة قادش كان لها صلة ببني إسرائيل، وأن جنود رمسيس الثاني – بعد المعركة – أخذوا الأسيرين اللذين خدعا الفرعون وضربوهما كما هو مسجل بالصورة على الآثار ولعل الأسيرين اعترفا بأنهما من (العابيرو) وأن أنهما فعلا ذلك بتدبير من العابيرو.
والعابيرو أو الخابيرو كانوا على اتصال وثيق بالهكسوس وكما يقول عالم الآثار سليم حسن (مصر القديمة جـ 4 ص 196 ) وهم طائفة وليست جنساً وقد تطورت وأصبحت طائفة من طوائف اليهود، وهذا يؤيد ما ذُكِرَ من أنهم ذلك النفر من بني إسرائيل الذين خرجوا من مصر مع الهكسوس وأقاموا بفلسطين، ولكنهم انتشروا في الشام يثيرون القلاقل ضد مصر وذكر د. عبد العزيز صالح ( الشرق الأدنى القديم جـ 1 ص 240) أنهم قاموا بدور المخربين في فلسطين، وكانت الكتابات المصرية تشير إلهيم بوصفهم هم (العابيرو في أرض كنعان ) ثم أصبح بعد ذلك لفظ (العابيرو) يطلق على بني إسرائيل المقيمين بمصر أيضاً، وقد عثر على خطاب من رئيس عمال يقول فيه: لقد أرسلت الطعام (للعابيرو) الذين يسحبون الأحجار للصرح العظيم لمعبد رمسيس محبوب آمون ( جاردنر تاريخ مصر القديمة جـ 1 ص 134).
كذلك فإن الحرص على تسجيل ضرب الأسيرين بالصورة على جدران معبد أبي سمبل يمكن أن يكون له دلالة غير مجرد تسجيل الواقعة، ففي كل الحروب يوجد جواسيس كما كان الأليق أن تخفى واقعة خداع الفرعون لا أن تعلن على الملأ هكذا، إلا أن تكون رسالة موجهة إلى المصريين لأخذ جانب الحذر من (العابيرو) المقيمين بمصر وهم بنو إسرائيل.
ولو نظرنا إلى الأمور من جانب بني إسرائيل وتطلعهم إلى الخروج من مصر إلى (الأرض الموعودة ) ونبحث كيف يمكنهم تحقيق ذلك، فليس عندهم الأسلحة ولا الجند المدرب الذي يمكنهم من اقتحام الأرض وإخراجها من دائرة النفوذ المصري، فليس أمامهم إلا صفقة يعقدونها مع ملك (خيتا) بأن يساعدوه على هزيمة الجيش المصري، فينحسر نفوذ مصر عن فلسطين، وتعطى لهم _ وتخلّص الشام والساحل الفينيقي وأرض أمورو لملك (خيتا).
|
تسخير بني إسرائيل في عمل الطوب وأعمال البناء ـ يلاحظ اللون الأبيض لبشرة العمال مقارنة باللون الأسمر للملاحظين والعصا في يد الملاحظ الجالس في أقصى اليمين من الرسم الطوى(لوحة في مقبرة الوزير " رح مي رع" ). نقلاً عن الكتاب المقدس كتاريخ ـ وارنر كيللر ص 110 |
|
تسخير بني إسرائيل في مدينة المخازن " فيثوم " ويرى أحد العمال أبيض البشرة يحمل غرارة حبوب على كتفه بينما الرسم الداخلي يبين سلَّم لملأ الصومعة من فتحة في أعلاه (نقلاً عن الكتاب المقدس كتاريخ ت وارنر كيللر . ص112 |
ولعل رمسيس الثاني قد توصل إلى هذا الاستنتاج وشعر أنه قد طعن في ظهره ممن آوتهم مصر وأطعمتهم وأكرمتهم على مدى عدة قرون ومن هذا كان العذاب الأليم صبه الفرعون دونما رحمة أو شفقة على بني إسرائيل، لم يكتف بإنزال العذاب بهم بل وضع خطة لاستئصال شأفتهم فأعطى الأوامر إلى قتلهم عاماً وتركهم عاماً فيقل عددهم فلا يخشى بأسهم وفي نفس الوقت تبقى المنفعة من تسخيرهم في أعمال البناء.
وقد وجد في الآثار المصرية دليل على هذا التسخير عبارة عن عدة رسوم في مقبرة وزير اسمه (رخ مى رع ) سجل فيها ما قام به من أعمال كلّف بها لصالح بلاده، وأحد هذه الرسوم يبين تفاصيل صنع الطوب اللبن ثم عملية البناء وقد اكتشف هذه الرسوم عالم الآثار برسى نيوبرى Percy Newberry. وأهم ما في اللوحة هو لون البشرة الأبيض للعمال المسخرّين بينما الملاحظون المشرفون تبدو بشرتهم سمراء وهذا يشير إلى أن العمال هم من الساميين، والكتابة بجوار العمال يقول فيها: لقد أمدنا بالخبز والنبيذ وكل شيء حسن، أما الكتابة الموجودة بجوار أحد الملاحظين فتقول: السوط في يدي فلا تكونوا كسالى ! وفي هذا دليل على أن العمل يتم بالسخرة، ويرى وارنركيللر ( تاريخ الكتاب المقدس ص 110) أن هذا الرسم دليل مؤكد على صدق ما جاء في التوراة ( خروج 1: 13) فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس ولكن بحسبما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا فاختشوا من بني إسرائيل (أي خافوا منهم ) فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف ومرّوا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفاً، وفي رسم آخر في نفس المقبرة تظهر مخازن الغلال في مدينة فيثوم – وصوامع القمح الحالية تشبهها شكلاً ولكنها تفوقها في الحجم كثيراً – ويبين الرسم طريقة ملئها بالحبوب من خلال فتحه في أعلاها يُصعد إليها بسلم أو منحدر، وقد رسم عامل يحمل على كتفه غرارة حبوب ويلاحظ أيضاً بشرته البيضاء للإشارة إلى أنه من الساميين أي من بني إسرائيل، ومما يذكر أن هذه المخازن كانت تشبه المخازن التي أمر يوسف الصديق بإقامتها في مصر لتموين البلاد في سنوات المجاعة.
كذلك جاءت إشارات في الكتابات المصرية عن بناء مدينة بررعمسيس وتسخير العمال من العابيرو ( بني إسرائيل) في قطع الحجارة ونقلها وبناء منشئات المدينة.
وفضلاً عن التسخير في أعمال البناء كانت أوامر ذبح المواليد الذكور فبلغ التعذيب ذروته.
وكان لا بد أن تتدخل السماء لإيقاف هذا العذاب الذي نزل ببني إسرائيل واختير موسى ليكون هو مخلصهم من هذا العذاب المهين ويقودهم إلى الخروج من مصر.