كتبه/ أحمد عبد الحميد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فليس ثمة خطأ في العنوان، فبرغم أن القوم -الإنجليز- هم أهل الصليب الذي يرفرف على أعلامهم معلناً المحادَّة لله رب العالمين؛ إلا أنهم لم يسلموا هم أيضاً من نار الحروب الصليبية.
ففي العام 1588م -أي قبل حوالي 420 عام- جرد الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا حملة صليبية على بريطانيا؛ لتأديبها وإرجاعها إلى صوابها، لكن صليب الغزاة هذه المرة كان كاثوليكياً، وقد أُشهر في وجه الصليب البروتستانتي الإنجليزي الذي رفعه هنري الثامن عام 1534م معلناً انفصاله عن "بابا روما"، وذلك لأسباب لا مجال لتفصيلها الآن.
المهم أنه انفصل، وأعلن تأسيس كنيسة إنجلترا والتي اعتنقت المذهب البروتستانتي، ولكن على الطريقة الإنجليزية، وأصبح هذا هو المذهب الرسمي للدولة البريطانية، واستمر كذلك بعد وفاة هنري الثامن إلى يومنا هذا مع التطوير المستمر المعتاد من النصارى في دينهم، وتولت ابنته "إليزابيث" العرش بعد هلاك أبيها بمرض الزهري؛ لتحافظ على سيرته وسياسته الدينية والدنيوية والخلقية كذلك، حيث أطلق عليها الإنجليز لقب "فيرجينيا" -أي العذراء-، واستخدم البعض هذا اللقب كتقرير لحقيقة أنها لم تتزوج حتى ماتت، بينما استخدمه البعض الآخر تهكماً وذلك تقريراً لحقائق أخرى معلومة.
وقد كان من شأنها أن رفضت عرضاً بالزواج من فيليب الثاني -الكاثوليكي- مما أثار غيظه بالإضافة إلى الأسباب الأخرى المعلومة.
وقد كانت هذه الحملة الصليبية كأخواتها عبر التاريخ ترفع الصليب، وتستمطر لعنات الرب على أعدائه؛ في الوقت الذي يسيل فيه لعابها على ثروات الآخرين، وتستبد بها شهوة الكبر، وفرض السلطان على بلادهم، وطبعاً كان كل ذلك بمباركة "البابا" الجالس على كرسيه عند بوابة السماء في روما.
خرج قرابة سبعون ألف جندي إسباني على ظهر حوالي 170 سفينة حربية باتجاه إنجلترا، وبمجرد مفارقتها الشواطئ الإسبانية هبت رياح وعواصف لم يعرف لها ذلك الزمان مثيلاً؛ ليغرق أكثر من نصف الأسطول "54%" وليهلك آلاف الجنود تحت راية الصليب، ثم ليصل عدد محدود من قطع الأسطول لملاقاة الإنجليز الذين قاموا بدورهم بتدمير عدد قليل من قطعه، ولتفر البقية عائدة إلى البابا المعصوم بهزيمة هي الأفدح في تاريخ إسبانيا والتي كانت مقدمة لزوال سلطان أقوى دولة في العالم بأسره في ذلك الوقت، والتي طردت المسلمين من الأندلس، وحاربت الخلافة العثمانية، وأقامت محاكم التفتيش للمسلمين واليهود،بل ولغير الكاثوليك من النصارى، وقد كان الحرق والقتل نصيب كل من يثبت عنه أدنى انحراف عن عقيدة بابا روما، وذلك بتهمة الهرطقة حتى لو كان كاثوليكياً.
لم تنته الأحداث عند هذا الحد ففي غمرة النشوة بهذا الانتصار الإنجليزي -المجاني- إذا بجند الله العلي الكبير تفتك بجند جلالة الملكة البروتستانتية؛ ليهلك حوالي ثمانية آلاف جندي بريطاني على ظهر سفنهم بعد أن خفتت حدة المعركة الفاترة أصلاً. وقد كانت الميتة مهينة جداً لجندي يواجه الموت بصدر مفتوح فإذا به يواجه هذه المرة عدواً من نوع آخر.
كان جند الله حينها هو أمراض "الدوسنتاريا والزهري والإسقربوط"، جيش تهلكه الريح، والآخر تهلكه أمراض خبيثة مؤلمة فتاكة، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ)(المدثر:31).
دالت إسبانيا ثم دِيل عليها وصارت ذيلاً، ودالت بريطانيا ثم ديل عليها وصارت ذيلاً، والباب مفتوح على مصراعيه، والسنن تجري على الظالمين أفراد وجماعات، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا)(الأحزاب:62).
واليوم نعاني نحن المسلمين جرحاً غائراً يتسع كل يوم، تضربك هراوة ثقيلة على رأسك كل ساعة، وأنت تسمع عن أعداد جديدة من القتلى المسلمين في العراق، سواء بأيدي الصليبيين أو بأيدي العراقيين أنفسهم.
رحماك يا رب...، وتسأل نفسك: أما لهذا الليل من آخر؟! ثم تسأل: وما الذي بدأ هذا الليل أصلاً؟!!
ليأتيك الجواب منطقياً وشرعياً: وماذا تنتظر حينما تكون الحياة في غير ظل شريعة الله -عز وجل-؟!!
حينما تكون القوانين الوضعية الجائرة هي الحكم، والأحزاب العلمانية من بعثية وغيرها هي القائدة، وحينما تكون الفواحش هي الأخلاق، وحينما يكون القتل والإجرام والتعدي على الحرمات هو السبيل، حين يعلو صوت الباطل في الوقت الذي يـُضطهد فيه صوت الحق، ويُكمم ويُنال من أصحابه، ويكون مصيرهم السجن أو القتل....
ويقرع ذهنك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولكن من رضي وتابع)(1) رواه مسلم، نعم... من رضي وتابع... فظـننا أن من لم يرض ولم يتابع هو الذي أشعل جمرة الجهاد في سبيل الله، ورفع رايته بعد أن سقطت أقنعة الخونة والعملاء، الظالمين لأنفسهم وأقوامهم، البائعين دينهم، بل ودنياهم كذلك، وإلا فالمحافظة على الدنيا لها أسبابها، ولكن لا تسل عن ذلك حين تنطمس البصائر، وحينما تكون الكلمة لسَكْرة الحكم وشهوة السلطة.
تشعر أحياناً بأننا كنا نحتاج إلى أن تسقط بغداد على أيدي الصليبيين؛ ذلك أنها قد سقطت بالفعل قبل زمن، ولكنه سقوط مخدِّر -بكسر الدال وتشديدها-، وذلك على أيدي الأشاوس أصحاب الشوارب الكَثـَّة الذين كانوا يتغنون بالعروبة وبأرض العراق المجيدة، ثم كانوا بعد ذلك يلعنون العلوج الأمريكان ويتوعدونهم؛ فإذا ببعضهم يؤتى به بعد ذلك من الحفر والحشوش، وإذا بالبعض الآخر يسكن القصور تحت حراسة العلوج أنفسهم، ويتمتع بأموالهم الخضراء، ثمناً لما قدمه من خدمات.
نعم إن سقوط بغداد أمر مؤلم مهين، إلا أنه رب ضارة نافعة؛ فرب ألم يحدث أملاً، ورب منحة تأتي من طيَّات محنة.
حينما تتميز الصفوف، وتعرف العدو من الصديق، والأمين من الخائن، والصادق من الكاذب؛ فإن الحرب وإن كانت مؤلمة فإنها تكون واضحة محددة لا لبس فيها ولا مكان فيها لمنافق خوَّان.
اليوم يأتي الصليبي البروتستانتي -على الطريقة الأمريكية-، يجر وراءه ذيلَه البروتستانتي -على الطريقة الإنجليزية-، وعدداً من الذيول الأخرى بعضها كاثوليكي كإسبانيا، وبعضها غير ذلك من عبدة الأوثان، وبرغم أن موازين القوى الظاهرة تميل إلى جانب الظالم إلا أن المظلوم له رب يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يرفع أقواماً ويضع آخرين، ويعز أقواماً ويذل آخرين، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(الحج:40).
لو يعتبر ابن آدم!!
ستحيي إنجلترا العام القادم (2009م) وتحتفل بذكرى هنري الثامن صانع مجدها الزائل، فقط لو يذكرون في احتفالاتهم، أو يجدون من يذكرهم بأجدادهم على ظهور السفن ينزفون الدم والقيح من أعضائهم التناسلية، بينما تخرج أرواحهم الظالمة إلى ربهاَ!!
لو تذكر إسبانيا أسطول "الأرمادا" تدمره الرياح والأعاصير قرب شواطئهم!!
لو يذكر الأمريكان أيام الله في الذين خلوا من قبل وفي أنفسهم (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)(التوبة:126).
بل لو يذكر المسلمون ما حل ببغداد فيعتبرون ولا نحتاج حينئذ إلى أن نكتب في رثاء عواصم أخرى للمسلمين.
اللهم انصر الإسلام، وأعز المسلمين، وأيد إخواننا المجاهدين بمدد من عندك، وقاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك. خالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وأنزل بهم رجزك وعذابك إله الحق. اللهم آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن أم سلمة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع لم يبرأ) رواه مسلم.