سلمان الفارسي وكنيته (أبو عبد الله) رجلا من أصبهان من قرية (جيّ)، غادر ثراء والده بحثا عن خلاص عقله وروحه، كان مجوسيا ثم نصرانيا ثم أسلم للـه رب العالمين، وقد آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين أبو الدرداء
لقد اجتهد سلمان -رضي الله عنه- في المجوسية، حتى كان قاطن النار التي يوقدها ولا يتركها تخبو، وكان لأبيه ضيعة، أرسله إليها يوما، فمر بكنيسة للنصارى، فسمعهم يصلون وأعجبه ما رأى في دينهم وسألهم عن أصل دينهم فأجابوه في الشام، وحين عاد أخبر والده وحاوره فقال: (يا أبتِ مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله مازلت عندهم حتى غربت الشمس).
قال والده: (أي بُني ليس في ذلك الدين خير، دينُك ودين آبائك خير منه)... قال: (كلا والله إنه خير من ديننا)... فخافه والده وجعل في رجليه حديدا وحبسه، فأرسل سلمان الى النصارى بأنه دخل في دينهم ويريد مصاحبة أي ركب لهم الى الشام، وحطم قيوده ورحل الى الشام.
وهناك ذهب الى الأسقف صاحب الكنيسة، وعاش يخدم ويتعلم دينهم، ولكن كان هذا الأسقف من أسوء الناس فقد كان يكتنز مال الصدقات لنفسه ثم مات، وجاء آخر أحبه سلمان كثيرا لزهده في الدنيا ودأبه على العبادة، فلما حضره الموت أوصى سلمان قائلا: (أي بني، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلا بالموصل).
فلما توفي رحل سلمان الى الموصل وعاش مع الرجل الى أن حضرته الوفاة فدله على عابد في نصيبين فأتاه، وأقام عنده حتى إذا حضرته الوفاة أمره أن يلحق برجل في عمورية.
فرحل إليه، واصطنع لمعاشه بقرات وغنيمات، ثم أتته الوفاة فقال لسليمان: (يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفا، يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرّتين فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل، وإن له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وإن بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته).
مر بسليمان ذات يوم ركب من جزيرة العرب، فاتفق معهم على أن يحملوه الى أرضهم مقابل أن يعطيهم بقراته وغنمه، فذهب معهم ولكن ظلموه فباعوه ليهودي في وادي القرى، وأقام عنده حتى اشتراه رجل من يهود بني قريظة، أخذه الى المدينة التي ما أن رآها حتى أيقن أنها البلد التي وصفت له، وأقام معه حتى بعث الله رسوله وقدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فما أن سمع بخبره حتى سارع اليه.
فدخل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحوله نفر من أصحابه، فقال لهم: (إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به)... فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: (كلوا باسم الله) وأمسك هو فلم يبسط إليه يدا... فقال سليمان لنفسه: (هذه والله واحدة، إنه لا يأكل الصدقة).
ثم عاد في الغداة الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحمل طعاما وقال: (أني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية). فقال الرسول لأصحابه: (كلوا باسم الله) وأكل معهم فقال سليمان لنفسه: (هذه والله الثانية، إنه يأكل الهدية).
ثم عاد سليمان بعد مرور زمن فوجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في البقيع قد تبع جنازة، وعليه شملتان مؤتزرا بواحدة، مرتديا الأخرى، فسلم عليه ثم حاول النظر أعلى ظهره فعرف الرسول ذلك، فألقى بردته عن كاهله فإذا العلامة بين كتفيه، خاتم النبوة كما وصفت لسليمان... فأكب سليمان على الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقبله ويبكي، فدعاه الرسول وجلس بين يديه، فأخبره خبره، ثم أسلم.
وحال الرق بين سليمان -رضي الله عنه- وبين شهود بدر وأحد، وذات يوم أمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكاتب سيده حتى يعتقه، فكاتبه على ثلاثمائة نخلة يجيبها له بالفقير وبأربعين أوقية، وأمر الرسول الكريم الصحابة كي يعينوه ،فأعانه الرجال بقدر ما عندهم من ودية حتى اجتمعت الثلاثمائة ودية، فأمره الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أذهب يا سلمان ففقّرها، فإذا فرغت فأتني أنا أضعها بيدي)... ففقرها بمعونة الصحابة حتى فرغ فأتى الرسول الكريم، وخرج معه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخذ يناوله الودي ويضعه الرسول بيده، فما ماتت منها ودية واحدة فأدى النخيل.
وأعطاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بعض المغازي ذهب بحجم بيضة الدجاج وقال له: (خُذْ هذه فأدِّ بها ما عليك يا سلمان)... فقال: (وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي ؟)... قال: (خُذها فإن الله عزّ وجل سيؤدي بها عنك)... فأخذها فوزنها لهم فأوفاهم، وحرر الله رقبته، وعاد رجلا مسلما حرا، وشهد مع الرسول غزوة الخندق والمشاهد كلها.
في غزوة الخندق جاءت جيوش الكفر الى المدينة مقاتلة تحت قيادة أبي سفيان، ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب، وجمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ليشاورهم في الأمر، فتقدم سلمان وألقى من فوق هضبة عالية نظرة فاحصة على المدينة، فوجدها محصنة بالجبال والصخور محيطة بها، بيد أن هناك فجوة واسعة يستطيع الأعداء اقتحامها بسهولة...
وكان سلمان -رضي الله عنه- قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدعها، فتقدم من الرسول -صلى الله عليه وسلم- واقترح أن يتم حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة، وبالفعل بدأ المسلمين في بناء هذا الخندق الذي صعق قريش حين رأته، وعجزت عن اقتحام المدينة، وأرسل الله عليهم ريح صرصر عاتية لم يستطيعوا معها الا الرحيل والعودة الى ديارهم خائبين...
وخلال حفر الخندق اعترضت معاول المسلمين صخرة عاتية لم يستطيعوا فلقها، فذهب سلمان إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مستأذنا بتغيير مسار الحفر ليتجنبوا هذه الصخرة، فأتى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع سلمان وأخذ المعول بيديه الكريمتين، وسمى الله وهوى على الصخرة فإذا بها تنفلق ويخرج منها وهجا عاليا مضيئا وهتف الرسول مكبرا: (الله أكبر... أعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء الله لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وإن أمتي ظاهرة عليها).
ثم رفع المعول ثانية وهوى على الصخرة، فتكررت الظاهرة وبرقت الصخرة، وهتف الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (الله أكبر... أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضاء لي منها قصور الحمراء، وإن أمتي ظاهرة عليها)... ثم ضرب ضربته الثالثة فاستسلمت الصخرة وأضاء برقها الشديد، وهلل الرسول والمسلمون معه وأنبأهم أنه يبصر قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق فوقها راية الله يوما، وصاح المسلمون: (هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله).
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة تشتاقُ إليهم الحُور العين: عليّ وعمّار وسلمان).
حسبه
سُئِل سلمان -رضي الله عنه- عن حسبه فقال (كرمي ديني، وحَسَبي التراب، ومن التراب خُلقتُ، وإلى التراب أصير، ثم أبعث وأصير إلى موازيني، فإن ثقلت موازيني فما أكرم حسبي وما أكرمني على ربّي يُدخلني الجنة، وإن خفّت موازيني فما ألأَمَ حَسبي وما أهوَننِي على ربّي، ويعذبني إلا أن يعود بالمغفرة والرحمة على ذنوبي).
لقد كان إيمان سلمان الفارسي قويا، فقد كان تقي زاهد فطن وورع، أقام أياما مع أبو الدرداء في دار واحدة، وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقوم الليل ويصوم النهار، وكان سلمان يرى مبالغته في هذا فحاول أن يثنيه عن صومه هذا فقال له أبو الدرداء: (أتمنعني أن أصوم لربي، وأصلي له؟)... فأجاب سلمان: (إن لعينيك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، صم وافطر، وصلّ ونام)... فبلغ ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لقد أشبع سلمان علما).
وفي غزوة الخندق وقف الأنصار يقولون: (سلمان منا)... ووقف المهاجرون يقولون: (بل سلمان منا)... وناداهم الرسول قائلا: (سلمان منا آل البيت).
في خلافة عمر بن الخطاب جاء سلمان الى المدينة زائرا، فجمع عمر الصحابة وقال لهم: (هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان)... وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة...
وكان علي بن أبي طالب يلقبه بلقمان الحكيم، وسئل عنه بعد موته فقال: (ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم ؟... أوتي العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف).
لقد كان -رضي الله عنه- في كبره شيخا مهيبا، يضفر الخوص ويجدله، ويصنع منه أوعية ومكاتل، ولقد كان عطاؤه وفيرا... بين أربعة آلاف و ستة آلاف في العام، بيد أنه كان يوزعه كله ويرفض أن ينال منه درهما، ويقول: (أشتري خوصا بدرهم، فأعمله ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهما فيه، وأنفق درهما على عيالي، وأتصدق بالثالث، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت).
الإمارة
لقد كان سلمان الفارسي يرفض الإمارة ويقول: (إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين فافعل).
في الأيام التي كان فيها أميرا على المدائن وهو سائر بالطريق، لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل من التين والتمر، وكان الحمل يتعب الشامي، فلم يكد يرى أمامه رجلا يبدو عليه من عامة الناس وفقرائهم حتى قال له: (احمل عني هذا)... فحمله سلمان ومضيا، وعندما بلغا جماعة من الناس فسلم عليهم فأجابوا: (وعلى الأمير السلام).
فسأل الشامي نفسه: (أي أمير يعنون ؟!)... ودهش عندما رأى بعضهم يتسارعون ليحملوا عن سلمان الحمل ويقولون: (عنك أيها الأمير)... فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي فسقط يعتذر ويأسف واقترب ليأخذ الحمل، ولكن رفض سلمان وقال: (لا حتى أبلغك منزلك).
سئل سلمان يوما: (ماذا يبغضك في الإمارة ؟)... فأجاب: (حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها).
هم سلمان ببناء بيتا فسأل البناء: (كيف ستبنيه ؟)... وكان البناء ذكيا يعرف زهد سلمان وورعه فأجاب قائلا: (لا تخف، إنها بناية تستظل بها من الحر، وتسكن فيها من البرد، إذا وقفت فيها أصابت رأسك، وإذا اضطجعت فيها أصابت رجلك)... فقال سلمان: (نعم، هكذا فاصنع).
في ليلة زفافه مشى معه أصحابه حتى أتى بيت امرأته فلما بلغ البيت قال: (ارجعوا آجركم الله)... ولم يُدخلهم عليها كما فعل السفهاء، ثم جاء فجلس عند امرأته، فمسح بناصيتها ودعا بالبركة فقال لها: (هل أنت مطيعتني في شيءٍ أمرك به)... قالت: (جلستَ مجلسَ مَنْ يُطاع)... قال: (فإن خليلي أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن أجتمع على طاعة الله)... فقام وقامت إلى المسجد فصلّيا ما بدا لهما، ثم خرجا فقضى منها ما يقضي الرجل من امرأته.
فلمّا أصبح غدا عليه أصحابه فقالوا: (كيف وجدتَ أهلك ؟)... فأعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم ثم قال: (إنّما جعل الله الستورَ والجُدُرَ والأبواب ليُوارى ما فيها، حسب امرئٍ منكم أن يسأل عمّا ظهر له، فأما ما غاب عنه فلا يسألن عن ذلك، سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (المتحدث عن ذلك كالحمارين يتسافران في الطريق)...
عهده لسعد
جاء سعد بن أبي وقاص يعود سلمان في مرضه، فبكى سلمان، فقال سعد: (ما يبكيك يا أبا عبدالله ؟... لقد توفي رسول الله وهو عنك راض)... فأجاب سلمان: (والله ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إلينا عهدا، فقال: (ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب)... وهأنذا حولي هذه الأساود-الأشياء الكثيرة- !)... فنظر سعد فلم ير إلا جفنة ومطهرة... قال سعد: (يا أبا عبد الله اعهد إلينا بعهد نأخذه عنك)... فقال: (يا سعد: اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت).
كان سلمان يملك شيئا يحرص عليه كثيرا، ائتمن زوجته عليه، وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه ناداها: (هلمي خبيك الذي استخبأتك)... فجاءت بها فإذا هي صرة مسك أصابها يوم فتح جلولاء، احتفظ بها لتكون عطره يوم مماته، ثم دعا بقدح ماء نثر به المسك وقال لزوجته: (انضحيه حولي، فإنه يحضرني الآن خلق من خلق الله، لا يأكلون الطعام وإنما يحبون الطيب).
فلما فعلت قال لها: (اجفئي علي الباب وانزلي)... ففعلت ما أمر، وبعد حين عادت فإذا روحه المباركة قد فارقت جسده، وكان ذلك وهو أمير المدائن في عهد عثمان بن عفان في عام (35 هـ)، وقد اختلف أهل العلم بعدد السنين التي عاشها، ولكن اتفقوا على أنه قد تجاوز المائتين والخمسين