من يكتب في المسألة الاقتصادية؟
نعرف من موروثنا الاجتماعى أن أهل مكَّة أدري بشعابها، وأن العاقل يُعطى الخبَّاز قرصه ولو أكل نصفه. ونعرف من أبجديات علم الإدارة أن التخصص فى العمل، وفى البحث والدراسة بالضرورة، كان أحد الأسباب الرئيسية لتطور الدول الصناعية المتقدمة. ونعرف من ممارستنا اليومية لأمور حياتنا المختلفة أن كلّ إنسان ميسر لما خلق له. وفى كل هذه المعارف، يدرك العاقل المتبصِّر أن إعطاء القوس لباريها سبب للوصول إلي الهدف.
وأحسب أن هذه المقدمة، وإن كانت تقرُّ واقعاً يصُعب الاختلاف عليه، تشكّل مدخلاً أساسياً للتأكيد علي دور الكلمة فى مهمتها التوعوية فى المجتمع من حيث أهمية ارتكازها علي أسس علمية تضفى عليها الموضوعية والجدية وتجعلها قادرة علي الوصول إلي هدفها دونما إخلال بالأسس والقواعد العلمية. وهنا يكمن مربط الفرس فى الارتباط الوثيق بين التخصص العلمى والكلمة المكتوبة حتي لا تكون الكلمة حبراً علي ورق لا يسمن ولا يغنى من جوع، بل قد تزيد الطين بلّة.
ويمكن القول أن المسألة الاقتصادية قد سيطرت علي الاهتمام الأول للناس فى هذا العصر الحديث الذى يعيش هجمة العولمة واستحقاقات النظام العالمى الجديد. وقد أغري هذا الواقع الكثير من الأقلام فأخذت تنبرى للكتابة فى المسألة الاقتصادية. وكثير ممن يكتب فى المسألة الاقتصادية تغيب عنهم كثير من أبجديات علم الاقتصاد، فتأتى كلماتهم قاصرة عن الطرح العلمى الرصين وبعيدة عن الحلول الموضوعية الجدية.
الاقتصاد علم تراكمى تشكِّل نظرياته بناء علمى متكامل يمثل، بالمنظور العلمى، الاقتصاد الكلى. والاقتصاد الكلى، أو ما يعرف بالنظرية الاقتصادية العامة، هو هيكل متكامل يشتمل علي جزئيات يجب الإلمام بها حتي لا يختل التوازن الكلى. وأى خلل فى فهم وإدراك الجزء ينسحب بالضرورة علي النظرة الكلية. ولا يمكن لغير المتخصص فى علم الاقتصاد أن يخلص إلي رؤية علمية أو يقدم طرحاً علمياً موضوعياً جاداً دون الإلمام بأبجديات علم الاقتصاد ونظرياته التراكمية، تماماً كما هو الحال بالنسبة لبقية العلوم. وأى تجاوز أو استخفاف بهذه الحقيقة هو استخفاف بالكلمة وإهدار للجهد والوقت وتفريط فى حق الإنسان، الذى هو غاية كل العلوم وهدفها فى أن تكون حياته أفضل.
الكلمة مسؤولة كبيرة. ولن يرتقى كاتب إلي مستوي هذه المسؤولية بشكل يحفظ له مكانته ويعطى لقلمه احتراماً وهيبة، إن لم تكن كلمته مرتكزة علي حصيلة علمية متخصصة. نحن نعيش فى حقبة تنموية تجاوزت حقبة التجربة والخطأ ونموذج "بتاع كُّله"، وأصبحت تتطلب علماء متخصصين تخرج منهم كلمات تقدم رؤية علمية واضحة وتطرح فكراً رصيناً لا تحكمه العواطف أو تحركه مجرد الرغبة فى الكتابة. الكلمة مسؤولية كبيرة، وخاصة فى المسألة الاقتصادية التى استحوذت علي اهتمام الناس. نحن فى عصر الاقتصاد وعلينا أن نتكلم بلغته. ولكى نجيد هذه اللغة، فإن من حقنا أن نسمعها أو نقرؤها ممن يعى مفرداتها ويعرف كلماتها ويفك رموزها ويعرضها علينا واضحة جلية لا تشوبها شائبة. الكلمة مسؤولية كبيرة. وحريُّ لمن يطلقها أن لا يسمعها وهى تقول له.. دعنى!