الأبعاد الجيوبوليتيكية لقضايا المياه في الوطن العربي
يعد الماء أساساً للكائنات الحـية وسراً لخصوبة الأرض وازدهارها وانتعاشها، كما قال الله سبحـانه وتعالي فى محـكم تنزيله: >> ومن آياته أنك تري الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذى أحـياها لمحـيى الموتي إنه علي كل شيء قدير << (فصلت: 39).
كذلك ورد ذكر الماء والأنهار والغيث والسحـاب فى كثير من الآيات القرآنية الكريمة، فقال تعالي: >> وجعلنا من الماء كل شيء حـى << (الأنبياء: 30).
ويفهم من هذه الآيات وغيرها التى جاء ذكر الماء فيها أن الله سبحـانه وتعالي قد بين بها الحـكمة من وجود الماء الذى جعل الله منه كل شيء حـى. كما بينت الآيات أن الماء من نعم الله علي العباد ينزلها فى زمانها ومكانها بقدر معلوم، وأنها للبشرية كافة علي مختلف أعرافهم وألسنتهم ومعتقداتهم وألوانهم وأماكن وجودهم، وأنها قسمة بينهم يستوون جميعاً فى الاستفادة منها. كما أن الآيات القرآنية قد أوضحـت بأن الله قادر علي ذهابها وأن الإنسان لا يملك شيئاً فى تكوينها أو توزيعها أو الاحـتفاظ بها. إن نظرية العرض والطلب تجد مدلولها فى شتي ميادين الحـياة المرتبطة بالعمل الإنسانى، إلا أن العرض فى مجال المياه يقترن بحـكمة الله: >> والذى نزل من السماء ماء بقدر << . فكميات المياه المتوفرة ثابتة من حـيث التوزيع الجغرافى عبر الزمان، ولكن الذى يتغير هو زيادة حـجم استهلاكها للاستخدامات المختلفة، وتقليصها بفعل عامل التلوث الذى طرأ عليها نتيجة التقدم الصناعى والزراعى. ومع ذلك فقد تزايد الطلب علي الماء وتضاعف حـجمه مرتين خلال الثلاثين سنة الأخيرة، نتيجة الطفرة الديموغرافية الهائلة التى عمت أنحـاء شتي من المعمورة، ونتيجة التحـول الاقتصادى والتكنولوجى الذى نتج عنه تطور فى مستوي المعيشة، مما زاد من استهلاك الفرد الواحـد.
ومما زاد المسألة تعقيداً إدخال هذه المادة الحـيوية حـلبة الصراع السياسى بين الدول التى اتبعت الوسائل لحـيازة أكبر قدر منها، خاصة وأن المياه تتباين من حـيث الكم والنوع وكيفية الاستعمال من مكان لآخر.
تصدَّرت هذه الكلمات افتتاحـية الدكتور حـسن عبدالله المنقورى، لكتابه "الأبعاد الجيوبوليتيكية لقضايا المياه فى الوطن العربى" وهو من إصدارات مركز الملك فيصل للبحـوث والدراسات الإسلامية.
وقال المؤلف؛ علي نطاق الشرق الأوسط، فإن المياه قد أصبحـت سلعة استراتيجية مع نهاية القرن العشرين، وربما تجاوزت أهميتها مع مطلع القرن الحـادى والعشرين، أهمية البترول، وإن الدراسات العلمية المختصة فى هذا الجانب تشير إلي أن مناطق الصراع المائى بمنطقة الشرق الأوسط ستتركز بالدرجة الأولي حـول أحـواض أنهار النيل والفرات والأردن والليطانى، وقد بدأت إرهاصات هذا الصراع تظهر داخل مناطق متفرقة من الشرق الأوسط. وتعتبر المياه بمنطقة الشرق الأوسط إحـدي أكثر المشكلات حـساسية وخطورة إن لم تكن الأكثر خطورة علي المدي المتوسط والبعيد، خاصة بالنسبة للدول العربية التى سيكون وضعها علي درجة كبيرة من الحـرج، لأن أكثر من 60% من موارد المياه العربية يمر فى أراض غير عربية، ومن ثم فليس للدول العربية سيطرة مطلقة علي مواردها المائية، مما يجعل الكثير من خطط تنميتها عرضة لتهديدات شتي. من جهة ثانية، تزداد حـاجة المنطقة من المياه نتيجة الازدياد المطرد فى عدد سكان المنطقة، إذ أن معظمها قد تجاوز نسبة 3% ضارباً بذلك الرقم القياسى فى نسبة الزيادة السكانية السنوية، مما يجعل من الضرورى اللجوء لزيادة الرقعة الزراعية المروية لتأمين أدني حـد للاكتفاء الذاتى من المواد الغذائية، مما يتطلب زيادة فى الطلب علي مياه الرى. ومما يزيد المسألة تعقيداً أن العوامل الطبيعية كالجفاف والتصحـر والسخونة المتزايدة للمناخ تحـول دون زيادة مصادر المياه بمنطقة الشرق الأوسط، بل إن هذه المصادر تتراجع فى بعض الأحـيان، بسبب تذبذب سقوط الأمطار والتغيرات المناخية.
ثمة عوامل أخري تزيد من تفاقم مشكلة المياه فى هذه المنطقة، أبرزها سوء استخدام الموارد المائية المتوفرة حـالياً، باعتماد أنظمة رى غير سليمة والإفراط فى استخدام الأسمدة والمواد الكيميائية بشكل يؤدى إلي تلوث طبقات المياه الجوفية، والمبالغة فى ضخ المياه الجوفية، مما نتج عنه حـالة من اختلال الضغط بين الآبار الجوفية والبحـر، أدي إلي تسلل مياه البحـر إلي الطبقة الجوفية وارتفاع ملوحـتها. هذه العوامل تجعل من استخدام الموارد المائية قضية علي درجة كبيرة من الخطورة، ستلعب دوراً أساسياً فى تحـديد سياسات معظم دول المنطقة، ربما فاق الدور الذى يلعبه البترول حـالياً. كما أن السيطرة علي المياه ستكون أحـد المؤثرات المهمة فى موازين القوي الإقليمية. إن الوطن العربى يقع معظمه ضمن النطاقات الجافة وشبه الجافة من العالم، ولا تزيد فيه نسبة الموارد المائية العذبة المتجددة عن 1% فقط من جملة المياه المتجددة فى العالم، حـيث لا يزيد نصيب الفرد العربى عن 1740 متراً مكعباً سنوياً مقارنة بالمعدل العالمى للفرد الذى يصل إلي 900،12 متر مكعب سنوياً. يضاف إلي ذلك الارتفاع المطرد لمعدل النمو السكانى فى معظم الأقطار العربية، حـيث بلغ إجمالى سكان الوطن العربى 205 ملايين نسمة عام 1985م. وتشير التقديرات إلي أن هذا الرقم يقدر فى العام الحـالى 2000 بنحـو 300 مليون، وسيصل إلي 600 مليون بحـلول عام 2035م، مما قد يتسبب فى عجز مائى يقدر بنحـو 127 مليار متر مكعب فى عام 2000 وبنحـو 176 مليار متر مكعب فى عام 2035م.
واستناداً إلي الأرقام؛ فإن حـجم الموارد المائية المتاحـة سنوياً فى الوطن العربى يبلغ نحـو 338 مليار متر مكعب لم يستثمر منه حـتي عام 1991م سوي 170 مليار متر مكعب، مما يعنى وجود فائض مائى يقدر بنحـو 200 مليار متر مكعب. إلا أننا إذا قارنا كمية المياه المتاحـة حـالياً فى الوطن العربى بالاحـتياجات المستقبلية، لوجدنا عجزاً مائياً يقدر بنحـو 100 مليار متر مكعب سنوياً، واضعين فى الاعتبار كل الإجراءات التى سوف تتخذ لتنمية الموارد المائية.
وعلي الرغم من الاعتماد الغربى المتزايد علي بترول الشرق الأوسط، فإن كل الدلائل تشير إلي أن المياه ستصبح السائل الرئيسى الذى يلقى بظلاله علي المنطقة من الناحـية الجيوبوليتيكية خلال العقود المقبلة من الألفية الثالثة. وتبدو هذه المعلومة واضحـة فى أذهان الكثيرين من الساسة والمخططين بمنطقة الشرق الأوسط، بعد أن صدرت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين العديد من الدراسات والتوقعات عن مشكلة الماء بوصـفه أهـم الثروات الطبيعية. وتوقعت تقارير نشرتها مراكز الدراسات الاستراتيجية والدولية احـتـمالات المـواجـهة بـين عـدد مـن دول المـنـطـقـة حـول مصادر المياه التى تشترك هذه الدول فى الاستفادة منها. لذلك فقد أصبـح هنـاك إدراك متـزايد من جانب قادة دول الشرق الأوسط لخـطورة الاعـتماد علي دول أخري للحـصول علي مصادر استراتيجية، ليس فـى مجـال التسـليح بشتي أشكاله وأنواعه فحـسب، وإنما فى مجال السلع الإنتاجية والاستهلاكية أيضاً، كما بات واضحـاً لدي هذه الدول ما يعنيه مفهوم مصطلح الأمن فى معناه الواسع، إذ لم يعد قاصراً علي الجوانب العسكرية، وإنما شمل شتي مناحـى الحـياة، بما فى ذلك الأمن الغذائى والأمن المائى والأمن الثقافى وغيرها. وبدا واضحـاً أن تحـقيق التنمية لأى بلد داخل الشرق الأوسط له علاقة طردية بتحـقيق الأمن المائى، إذ أن الماء يعتبر حـجر الزاوية والمحـرك الفعلى لأى خطة تنمية طموحـة، كما بدا واضحـاً لبعض حـكومات الدول مدي الصعوبات التى تقف فى وجه بعض خطط التنمية بسبب نقص مصادر المياه النقية. لهذا فقد اهتم كثير من الباحـثين المختصين بمشكلة مياه الشرق الأوسط وتحـدثوا عنها من عدة جوانب (الطبيعية والتاريخية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية). وقد حـاول المؤلف بهذه الدراسة أن يدلى بدلوه لمعالجة هذه المشكلة من وجهة النظر الجيوبوليتيكية المحـضة؛ لقناعته أن التطرق لهذه المشكلة من هذه الزاوية سيساعد كثيراً علي فهم أبعادها الجيوبوليتيكية التى أدت إلي تفاقمها وإخراجها من إطارها الطبيعى والتاريخى والاقتصادى والقانونى. واقتـصـرت هـذه الـدراسـة عـلي ثلاث مناطق رئيسية داخل الوطن العربى هى؛ حـوض نهر النيل، حـوض دجلة والفرات، وحـوض نهر الأردن وأنهار بلاد الشام، كـأكـثـر مناطـق الـشـرق الأوسط صراعاً حـول المياه.