دار الضرب الإسلامي..هل كان نواة للبنوك المركزية؟
د. توفيق الطيب البشير
البنك المركزي هو مؤسسة مالية تملكها الدولة أو تكون تحت إشرافها المباشر. ويتولى البنك المركزي الإشراف على العمليات النقدية التمويلية العامة للدولة عن طريق إدارة هذه العمليات ورسم السياسات النقدية للدولة، فضلاً عن قيامه بدور القائد لسوق النقد والمشرف على نشاط المصارف التجارية باعتباره أعلى سلطة نقدية في الدولة. ومن ذلك يمكن القول بأن البنك المركزي له وظائف معروفة ومستقرة في معظم دول العالم، على تعدد توجهاتها وفلسفتها الاقتصادية. ويكاد الذين عرّفوا البنك المركزي لا يجدون فرقاً يذكر في المذاهب والأنظمة الاقتصادية من حيث وظائفه وأهدافه العامة .
بنك إنجلترا
ويعود تاريخ البنوك المركزية الحديثة عند كثير من المؤرخين الاقتصاديين إلى بنك إنجلترا الذي يعد نقلة نوعية كبيرة في هذا الفن المصرفي الحديث.
ولقد أنشئ بنك إنجلترا باكتتاب عام سنة 1694م ، لغرض واضح هو تسليف الحكومة مقابل منحه امتياز إصدار الأوراق النقدية بموجب أحكام قانون أقره البرلمان، وقد كان هذا الامتياز خاضعاً لقيود وشروط محددة لأنه كان قابلاً للتجديد بصفة دورية وكان يجدد معه حق إصدار النقد مقابل تقديم قروض إضافية للحكومة.
وبهذا التطور الهام الذي طبع به بنك إنجلترا موقفه العام كمصدر للنقود (مع مؤسسات أخرى) بالإضافة إلى وظيفته الجديدة كبنك للحكومة ووكيلها، استطاع بنك إنجلترا أن يكسب ثقة الكثير من المصارف الخاصة التي بدأت تظهر في القرن الثامن عشر الميلادي، وفي تطور مهم جداً، كان هناك قانون جديد صدر عام 1844م (The Bank Charter Act) أعطى بنك إنجلترا الحق في احتكار الإصدار النقدي في نطاق دائري نصف قطره 3 أميال من مدينة لندن ، ولم يسمح لأي بنك آخر جديد بالقيام بهذه المهمة .
تطور البنوك المركزية
وفي الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر بنوك الاحتياط الفيدرالي إحدى أهم البنوك المركزية التي عرفها العالم في القرن الميلادي الماضي (1913م). ثم توالت البنوك المركزية وواصلت انتشارها في جميع دول العالم تقريباً بعد توصية المؤتمر المالي الدولي الذي عقد في بروكسل سنة 1920م، والتي مفادها أن على كل البلدان التي لم تكن قد عملت على إنشاء بنك مركزي أن تشرع في ذلك بالسرعة الممكنة.
وهناك عدد كبير من البنوك المركزية التي نشأت بين هاتين التجربتين خلال الفترة 1694 المجتمع و 1913م ، ومن هذه البنوك بنك فرنسا (1800م)، والبنك الهولندي (1814 المجتمع )، والبنك النمساوي ( 1817م)، وبنك النرويج (1817م)، والبنك الوطني البلجيكي (1850م)، وبنك إسبانيا (1829م). وكل هذه البنوك تعتبر ذات طبيعة واحدة ونشاط يكاد لا يختلف في شيء .
إصدار النقود
وتعتبر عملية إصدار النقود هي أسبق وظائف البنك المركزي إلى الظهور، بل هي أسبق بكثير من ظهور البنك المركزي نفسه. وبالتالي فإن ربط هذه الوظيفة بالبنك المركزي إنما جاءت لأهمية إحالة هذا العمل الحيوي إلى جهة متخصصة ذات سيادة اقتصادية ، وقد كانت البنوك المركزية حتى أوائل القرن العشرين الميلادي تعرف ببنوك الإصدار.وبالفعل دار جدل كثير في النظام الرأسمالي حول أي وظائف البنك المركزي يمكن أن تكون أكثر التصاقاً به، فاعتبر هاوتري (Hawtrey) أن وظيفة البنك المركزي الأساسية هي اعتباره كمقرض أخير للبنوك ، واعتبرت فيرا سميث (Vera Smith) أن الإصدار النقدي هو أهم وظيفة للبنك المركزي في مراقبة الائتمان.
دار الضرب الإسلامي
ومن هنا تبدو أهمية دار الضرب الإسلامي الذي أنشأه العرب في عصر بني أمية والذي كان يعتبر المكان الشرعي الوحيد لإصدار النقود. وقد جاء في رواية جعفر بن محمد؛ لا يصح ضرب الدراهم إلاَّ في دار الضرب وبإذن السلطان , لأن الناس إن رخص لهم ركبوا العظائم , وقد منع الإمام أحمد من الضرب بغير إذن السلطان لما فيه من الإفتئات عليه.
وضرب الدراهم عملية قديمة عرفت عند الروم وعند الفرس قبل الإسلام، ولكني لم أجد ما يشير إلى وجود دار متخصصة ذات قواعد وأحكام تتعلق بهذه الصناعة قبل دار الضرب الإسلامي، مما يوحي بأنه أول نواة عملية للبنك المركزي الحديث في تقديري. وقد اختلف في أول من ضرب النقود في الإسلام, فقال سعيد بن المسيب إن أول من ضرب الدراهم المنقوشة عبد الملك بن مروان، وكانت الدنانير ترد رومية والدراهم ترد كسروية وحميرية قليلة. قال أبو الزناد؛ فأمر عبد الملك بن مروان الحجاج أن يضرب الدراهم بالعراق فضربها سنة أربع وسبعين للهجرة. وقال المدائني بل ضربها الحجاج في آخر سنة خمس وسبعين للهجرة، ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين للهجرة. وقيل إن الحجاج خلصها تخليصاً لم يستقصه وكتب عليها ( الله أحد الله الصمد)، ثم ولي بعد الحجاج عمر بن هبيرة في أيام يزيد بن عبد الملك فضربها أجود مما كانت ، ثم ولي بعده خالد بن عبد الله القسري فشدد في تجويدها, وضرب بعده يوسف بن عمر فأفرط في التشديد فيها والتجويد فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقد بني أمية. وكان المنصور، رضي الله عنه، لا يأخذ في الخراج من نقدهم غيرها. وحكى يحيى بن النعمان الغفاري عن أبيه أن أول من ضرب الدراهم مصعب بن الزبير عن أمر أخيه عبد الله بن الزبير سنة سبعين للهجرة على ضرب الأكاسرة وعليها بركة في جانب، والله في الجانب الآخر ، ثم غيرها الحجاج بعد سنة وكتب عليها بسم الله في جانب والحجاج في جانب.
والمسلمون هم الذين وضعوا الضوابط الدقيقة للإصدار النقدي ومنعوا الغش فيها، أي ما نطلق عليه الآن بالتزييف والتزوير في العملات، ومنعوا غير السلطان أن يقوم بهذا الدور، الأمر الذي فعلته جميع الدول في العصر الحديث، كما جاء عن الإمام الشافعي أنه قال؛يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة، لأن فيه إفساداً للنقود وإضراراً بذوي الحقوق وغلاء الأسعار, وانقطاع الأجلاب, وغير ذلك من المفاسد . وهذا التعليل الذي أتى به الإمام الشافعي إنما هو في اعتقادي نواة حقيقية لنشوء نظرية الائتمان والسياسة النقدية الحديثة التي تقوم على التحكم الكمي والنوعي في عرض النقود والتحكم في معدلات التضخم، للمحافظة على الاستقرار النسبي للأسعار ومحاولة منع انخفاض القوة الشرائية للنقود، أو ما يعرف بال (Devaluation) .
ويقول صاحب المجموع "قال أصحابنا؛ ويكره لغير الإمام ضرب المغشوش لما ذكرنا في الإمام، ولأن فيه افتئاتاً على الإمام, ولأنه يخفى فيغتر به الناس بخلاف ضرب الإمام". وهذا ما ذهبت إليه التشريعات المالية في معظم الدول، إذ جعلت عملية الإصدار للبنك المركزي لإكسابها هيبة السلطة وقوة القانون.
فهل يا ترى كان دار الضرب الإسلامي نواة أصيلة للبنوك المركزية الحديثة ؟
رئيس الفريق الاستشاري - دار الدراسات الاقتصادية - الرياض.