بتـــــاريخ : 3/16/2009 8:57:00 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 826 0


    علم السياق القرآني - 7

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د.محمد بن عبد الله الربيعة | المصدر : www.islamiyyat.com

    كلمات مفتاحية  :
    علم السياق القرآني
    تمهيد :
    هذه الحلقة من أهم الحلقات المتعلقة بالسياق القرآني ، إذ هي طرح منهج عملي للكشف عن السياق ، وهو خلاصة تجربة وفقني الله لها خلال بحثي لسورتي الفاتحة والبقرة ، أسال الله تعالى أن ينفع بها ، ويمكن للأخوة الأعضاء الاستدراك أو الزيادة
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ

    الكشف عن السياق والوصول إليه مبني على الاجتهاد ودقة الاستنباط، وإدراكه مما تختلف فيه العقول، وذلك أنه مرتبة بعد إدراك المعنى العام، ويتطلب فهمه إشغالاً للذهن، ولذلك كانت دلالة السياق دلالة ذوقية، كما عبّر عنها الأصوليون([1]).

    قال ابن خلدون في منزلة إدراك الإعجاز في كلام الله تعالى: "وإنما يدرك بعض الشيء من الإعجاز من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من الإعجاز على قدر ذوقه، فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك؛ لأنهم فرسان الكلام وجهابذته، والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه... "([2]).

    قال الدكتور محمد محمد موسى: "وهذا من أدق بحوث النقد الأدبي، وأصعب مسائل النظم إذ النظم محكوم بتوخي معاني النحو، والسياق مؤثر في تلك المعاني، قال ابن أبي الحديد ([3]): (اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ولا يمكن إقامة الدليل عليه) ([4])"([5]).

    ومما يدل على أن السياق يحتاج إلى دقة فهم ونظر ثاقب، ما تميز به ابن عباس رضي الله عنه في فهم كتاب الله تعالى ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن الشواهد على ذلك: ما روي أن عمر بن الخطاب قال للصحابة ما تقولون في {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [سورة النصر] قالوا: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره، فقال لابن عباس: ما تقول أنت، قال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه، فقال: ما أعلم منها غير ما تعلم)([6]).

    قال ابن القيم: "وهذا من أدق الفهم وألطفه، ولا يدركه كل أحد، فإنه سبحانه لم يعلق الاستغفار بعمله بل علقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة فتحه على رسوله ودخول الناس في دينه، وهذا ليس بسبب للاستغفار، فعلم أن سبب الاستغفار غيره، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا مطهرا من كل ذنب، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}وهو صلى الله عليه وسلم كان يسبح بحمده دائما، فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمر أكبر من ذلك المتقدم، وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

    والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكماً أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه، ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به"([7]).

    وفهم السياق والوصول إليه واستنباطه يحتاج إلى أمور:

    أولاً: الفهم الصحيح للسياق وحده وأصوله وقواعده، فإنه لابد للباحث عن السياق أن يكون عالماً بالسياق وحده وما يستلزم الوصول إليه من القواعد والضوابط والأصول. ويتبع ذلك معرفة اللغة والرسوخ فيها.

    ثانياً: صفاء الذهن ودقة النظر، وإدامة التأمل في كتاب الله تعالى، وبعد الغوص فيه، وتكرار البحث والتحري فيه لطلب السياق وتعيينه بقرائنه المختلفة.
    قال عبد القاهر الجرجاني في كلام فصل في هذا الأمر: "ويحتاج في كثير منه إلى دقة الفطنة، وصفاء القريحة، ولطف الفكر، وبعد الغوص، وملاك ذلك كله الجامع له والزمام عليه، صحة الطبع وإدامة الرياضة، فإنهما أمران ما اجتمعا في شخص فقصرّا في إيصال صاحبهما عن غايته، ورضيا له بدون نهايته، فصحة الطبع ملكة فطرية، وإدامة النظر اكتساب مستمر، وعلاقة الذوق بالسياق تصقلها التجربة"([8]).

    وقال الزركشي: "وإنما يفهم بعض معانيه، ويطلع في أسراره ومبانيه، من قوي نظره، واتسع مجاله وتدبره، وامتد باعه، ورقت طباعه"([9]).

    وإدامة النظر والتأمل في كتاب الله تعالى تمنح صاحبها ملكة في معرفة أسلوب القرآن وطرق مخاطباته وأغراضه،وكل ذلك دال على فهم السياق.

    ثالثاً: صدق النية في طلب فهم كلام الله تعالى، واللجوء إلى الله وطلب توفيقه.
    قال ابن القيم: "الفائدة الحادية والستون حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) ([11])، وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول يا معلم إبراهيم علمني، ويكثر الاستعانة بذلك اقتداء بمعاذ بن جبل رضي الله عنه، وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة 32]....وكان بعضهم يقرأ الفاتحة وجربنا نحن ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة، والمعول في ذلك كله على حسن النية وخلوص القصد وصدق التوجه"([12]).

    رابعاً: التأمل في السورة كلها وجمع أطرافها وتحديد هدفها العام، فإن ذلك من أعظم ما يدلك على فهم الآيات فيها.
    قال صاحب النبأ العظيم: "وملاك الأمر في ذلك أن ينظر إلى النظام العام الذي بنيت عليه السورة بمجموعها"([13]).

    وقد يحصل ذلك بتكرار قراءة السورة مع مراعاة هذا الأمر، أو إعادة النظر فيها واستعراضها بالجملة مرات متعددة بغرض معرفة سياقها العام، فإن ذلك مجرب نافع بإذن الله تعالى.

    خامساً: النظر والتأمل في غرض الآية وسابقها ولاحقها.

    الغرض هو أساس السياق، والأساس دال على مافوقه، فإذا ما قرأ القارئ الآية سأل نفسه وتفكر وتدبر في مراد الله فيها والغرض الذي من أجله وردت الآية، ثم يبحث عما يؤكد هذا الغرض في الآية من الألفاظ والمناسبات، وهذا مسلك عظيم في فهم السياق، وهو الموصل إلى فهم مراد الله والعمل به على أكمل وجه؛ لأنك إذا علمت مراد الله تعالى حقيقة أوصلك ذلك إلى العمل الصحيح بما دل عليه وتضمنه مراده.

    قال البقاعي: "إن معرفة مناسبات الآيات في جميع القرآن، مترتبة على معرفة الغرض أو الأغراض التي سيقت لها السورة"([14]).

    ومن أمثلة ذلك ماذكره ابن العربي في تفسيره لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}الآية [النساء 25]. قال: "فيها اثنتا عشرة مسألة.. المسألة الثانية: في فهم سياق الآية، اعلموا - وفقكم الله تعالى - أن العلماء اختلفوا في سياق هذه الآية، فمنهم من قال: إنها سيقت مساق الرخص.. ومنهم من جعلها أصلاً، وجوّز نكاح الأمة مطلقاً... وقد جهل مساق الآية من ظن هذا، فقد قال الله تعالى ما يدل على أنه لم يبح نكاح الأمة إلا بشرطين، أحدهما: عدم الطول، والثاني: خوف العنت، فجاء به شرطاً على شرط، ثم ذكر الحرائر من المؤمنات، والحرائر من أهل الكتاب ذكراً مطلقاً، فلما ذكر الإماء المؤمنات ذكرها ذكراً مشروطاً مؤكداً مربوطاً"([15]).

    فانظر كيف قرر غرض الآية بأنها سيقت مساق الرخص، ثم أيده وأكده بنص الآية وما تضمنته من الألفاظ والضوابط للحكم.

    سادساً: النظر إلى نظم النص وألفاظه والروابط النحوية فيه، وما تضمنته الآيات من الدلائل والقرائن، وذلك هو الركن الثاني للسياق.
    وهذا ظاهر فإنك حين تتأمل في ألفاظ الآيات والترابط بينها ينقدح في ذهنك غرض معين يتكون منه السياق.

    قال السرخسي في بيان مفهوم النص بأنه: "يزداد وضوحاً بقرينة تقترن باللفظ من المتكلم، ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهراً بدون تلك القرينة"([16]).

    وقال الدكتور محمد محمد موسى في دلالات التركيب: "السياق قوة تحرك التركيب، فتنبعث من إشعاعاته ما يلائمه"([17]).

    سابعاً: النظر في مفردات ألفاظ الآية وأصول معناها اللغوي، ودلالتها على الغرض.
    فإن النظر في الكلمة وأصلها اللغوي يدلك على معان دقيقة مقصودة في الآية، وأن اللفظة تحمل معاني متعددة بحسب سياقها، وأعظم ما يعين على ذلك كتابان مهمان:

    1- معجم مقاييس اللغة لابن فارس، فإنه يورد أصول الكلمة في اللغة، وهذا يطلعك على استعمال اللفظ عن العرب، فترى ما يناسب منها حسب السياق.

    2- مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، وهو من أهم ما ينبغي النظر فيه لمن أراد البحث عن السياق، ذلك أنه يجمع نظائر اللفظ في القرآن ويبينها حسب سياقها الذي وردت فيه. قال الزركشي عن كتب غريب القرآن: "ومن أحسنها كتاب (المفردات) للراغب، وهو يتصيد المعاني من السياق؛ لأن مدلولات الألفاظ خاصة"([18]).

    ثامناً: النظر للمناسبات في الآيات، ووجه الارتباط بينها، والمعنى المؤلف بينها، والنظر في المناسبة بين أول الآية وآخرها، والمناسبة بين الآية والسياق العام للسورة.
    قال السيوطي في بيان أهمية النظر للمناسبات: "علم المناسبة: جعل أجزاء الكلام بعضها آخذ بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء"([19]).

    تاسعاً: النظر إلى الأحوال التي نزلت فيها الآية، ومن أهمها سبب النزول.
    معرفة سبب النزول معينة على فهم المعنى كما تقرر. وهذا هو الركن الثالث للسياق.

    قال ابن عاشور مؤكداً أهمية أسباب النزول بمعناها العام في معرفة السياق":ومنها - أي أسباب النزول - ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات، فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام"([20]).

    عاشراً: الاطلاع والنظر في كتب التفسير وغيرها ومن أهمها:
    1- تفسير ابن جرير، وعنايته بالسياق غالباً في جانب الترجيح.

    2- تفسير ابن عطية، وعنايته بالسياق غالباً في جانب الترجيح.

    3- تفسير الزمخشري، وعنايته بالسياق غالباً في جانب البلاغة، والعلاقات النحوية واللغوية في الآية.

    4- تفسير الرازي، وعنايته بالسياق غالباً في جانب بيان الغرض والمناسبات.

    5- نظم الدرر للبقاعي، وعنايته بالسياق غالباً في جانب بيان الغرض والمناسبات.

    6- التحرير والتنوير لابن عاشور، وعنايته بالسياق غالباً في جانب بيان أغراض السور والآيات، والأحوال التي نزلت فيها الآية.

    7- في ظلال القرآن لسيد قطب، وعنايته بالسياق غالباً من جهة سياق السورة ووحدتها الموضوعية وأثر ذلك في مقاطع السورة كلها.

    وقد وقفت على عرض جميل للرافعي في طريقة النظر في إعجاز القرآن والطريق إلى معرفة وأسراره ومنها السياق، قال: "اعلم أنه ليس من شيء يحقق إعجاز القرآن من هذه الجهة، ويكشف منه عن أصول السياستين، والتأتي إلى أغراضهما بسياق اللفظ ونظمه وتركيب المعاني وتصريفها فيما تتجه إليه، ومداورة الكلام على ذلك إلا تأمله على هذه الوجوه، وإطالة النظر في كل معنى من معانيه، وفي طبيعة هذا المعنى ووجه تأديته إلى النفس، وما عسى أن تعارضه النفس به، أو تدافعه، وتلتوي عليه من قبله، ثم طبقات هذا المعنى بعينه.. ثم وجه ارتباط ذلك بما قبله، واندماجه فيما بعده، ومساوقته لأشباهه ونظائره حيث اتفق منها في الكلام شيء، ثم تدبر الألفاظ على حروفها وحركاتها وأصالتها ولحونها، ومناسبة بعضها لبعض في ذلك، والتغلغل في الوجوه التي من أجلها اختير كل لفظ في موضعه.. ثم انظر في روابط الألفاظ والمعاني من الحروف والصيغ التي أقيمت عليها اللغة، ووجه اختيار الحرف أو الصيغة، ثم طريقة النسق والسرد في الجملة ووجه الحذف أو الإيجاز أو التكرار ونحوها، مما هو خاص بهذه الطريقة حسب ما توجهه المعاني، فإن كل ذلك في القرآن على أتمه.."([21]).

     

    د.محمد بن عبد الله الربيعة
    جامعة القصيم - قسم القرآن وعلومه

     (منقول من منتدى أهل التفسير)
    --------------------------------------------------------------------------------

    ([1]) انظر: ((إحكام الأحكام)) (2/129).

    ([2]) ((مقدمة ابن خالدون)) (ص553).

    ([3]) أحمد بن عبد الواحد بن المحدث أبي بكر محمد بن أحمد بن عثمان كان ثقة نبيلاً متفقداً لأحوال الطلبة والغرباء عدلاً مأموناً انظر: سير أعلام النبلاء 18/418 والعبر 3/269

    ([4]) انظر: ((الاتقان في علوم القرآن)) (2/181).

    ([5]) ((البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري)) (ص49).

    ([6]) أخرجه البخاري 4/1901 برقم 4686

    ([7]) ((إعلام الموقعين)) (1/351-354).

    ([8]) ((الوساطة)) (ص413).

    ([9]) ((البرهان)) (2/191).

    ([10]) أخرجه البخاري 1/66 برقم 143 وأحمد1/266

    ([11]) أخرجه مسلم 1/534 برقم 770 و النسائي 8/278 برقم5519

    ([12]) ((أعلام الموقعين)) (4/ 258).

    ([13]) ((النبأ العظيم)) (158).

    ([14]) ((نظم الدرر)) (1/17).

    ([15]) ((أحكام القرآن)) (1/500).

    ([16]) ((أصول السرخسي)) (1/163).

    ([17]) ((دلالات التركيب)) (ص112).

    ([18]) ((البرهان في علوم القرآن)) (1/ 291).

    ([19]) ((الإتقان في علوم القرآن)) (2/978).

    ([20]) ((التحرير والتنوير)) (1/47).

    ([21]) ((إعجاز القرآن)) (ص259)
    كلمات مفتاحية  :
    علم السياق القرآني

    تعليقات الزوار ()