بتـــــاريخ : 3/15/2009 8:22:51 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 988 0


    العبودية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : موقع المنبر | المصدر : www.quranway.net

    كلمات مفتاحية  :
    العبودية

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد ..
    فإنَّ تحقيق العبودية لله، مطلب شرعي لابد من تحقيقه، بل إن الله -عزَّ وجل- خلق الكائنات كلها لعبادته، من إنس وجن وملائكة وحيوان ونبات وجماد، وغيرها من الموجودات، فطرها -سبحانه- على توحيده والاعتراف بألوهيته والإقرار بفقرها واحتياجها وخضوعها له -جلَّ وعلا-.

    * أولًا مفهوم العبودية
    العبودية في اللغة: مصدر عبد يعبد عبادةً ومعبداً ومعبدةً، فهو عبدٌ، أي: ذلّ وخضع.
    قال ابن منظور: «أصل العبودية الخضوع والتذلل... وعبد الله تألّه له... والتعبّد التنسك، والعبادة: الطاعة»[ لسان العرب (5/2776)، مادة (ع ب د)].
    وقال الفراء: «معنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللاً بكثرة الوطء» [انظر: لسان العرب (5/2778)، مادة (ع ب د)].
    وقال ابن الأنباري: «فلان عابد وهو الخاضع لربه المستسلم المنقاد لأمره»[ انظر: لسان العرب (5/2778)، مادة (ع ب د)].
    وقال الزبيدي: «أصل العبودية الذل والخضوع، وقال آخرون: العبودية الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضى به الرب»[ تاج العروس (2/409)].

    مفهوم العبودية في الشرع:
    قال ابن القيم: «العبودية اسم جامع لمراتب أربع من قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح.
    فقول القلب هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته على لسان رسله عليهم السلام.
    وقول اللسان هو الإخبار عن قول القلب بما فيه من الاعتقاد والدعوة إليه والذب عنه، وتبيين بطلان البدع المخالفة والقيام بذكره وتبليغ أوامره.
    وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والمعاداة فيه والخضوع والذل له وغير ذلك من أعمال القلب. وأعمال الجوارح كالصلاة والحج والجهاد وغيرها»[ مدارج السالكين (1/100)].

    * حقيقة العبودية: عبودية القلب. قال ابن تيمية: «الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلبَ واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال:

    العبـد حرّ مـا قنـع   والحر عبـد ما طمـع

    وقال القائل:

    أطعت مطامعي فاستعبدتني   ولو أني قنعت لكنت حراً» [ العبودية (ص104)]

    وقال: «إن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن... وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقا مستعبداً متيّما لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب. وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب... فالحرية حرية القلب كما أن الغنى غنى النفس»[ العبودية (ص116-117)].

    ثانياً: أنواع العبودية: العبودية نوعان: عامة وخاصة:
    أ- فالعبودية العامة: هي عبودية القهر والتسخير والملك والتسيير، وهذه تعمّ جميع الخلق مكلّفهم وغير مكلفهم، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
    ب- والعبودية الخاصة: هي عبودية التأله والطاعة والمحبة وهذه خاصة بعباد الله المؤمنين، الذين استجابوا لداعي الله. قال ابن تيمية -رحمه الله-: «إن العبد يراد به المعبّد الذي عبّده الله فذلَّله ودبره وصرفه، وبهذا الاعتبار فالمخلوقون كلهم عباد الله، الأبرار منهم والفجار، والمؤمنون والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاءوا، وما شاءوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال –تعالى-: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران:83]، ومثل هذه العبودية لا تفرّق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير بها الرجل مؤمناً... والمعنى الثاني من معنى العبد، وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابداً لله لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمره وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ويعادي أعداءه، وهذه العبادة متعلقة بألوهيته، ولهذا كان عنوان التوحيد (لا إله إلا الله) بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده أو يعبد معه إلهاً آخر. وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها وبها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله. وأما العبد بمعنى المعبَد سواء أقر بذلك أو أنكره فهذا المعنى يشترك فيه المؤمن والكافر»[ العبودية (ص38-45)].

    قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «العبودية نوعان: عامة وخاصة.
    فالعبودية العامة: عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية القهر والملك، قال –تعالى-: ﴿إِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ إِلاَّ آتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْد﴾ [مريم:93]. وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر، قال -تعالى-: ﴿يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الزخرف:68]، وقال –تعالى-: ﴿فَبَشّرْ عِبَادِ ﴿17﴾ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر:17-18]، وقال: ﴿وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَم﴾ [الفرقان:63-64]. فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته» [ مدارج السالكين (1/105)].

    قال ابن جرير في تفسير قول الله –تعالى-: ﴿وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدًا سُبْحَـٰنَهُ بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ﴾ [البقرة:116]: «وأولى معاني القنوت في قوله: ﴿كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ﴾ الطاعة والإقرار لله -عز وجل- بالعبودية بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله -عز وجل-، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها، وذلك أن الله -جل ثناؤه- أكذب الدين زعموا أن لله ولداً بقوله: ﴿بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ﴾ ملكاً وخلقاً، ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله –تعالى- بارؤها وصانعها، وإن جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله ولداً وهذه صفته؟!» [ جامع البيان (1/507-508)].

    وقال الله –تعالى-: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهً﴾ [آل عمران:83]، قال شيخ الإسلام: «فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً؛ لأن المخلوقات جميعها متعبّدةٌ له التعبد العام، سواءٌ أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون له مُدبّرون، فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروجٌ عما شاءه وقدّره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم، يُصرّفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلّهم، وبارئهم ومُصورهم، كل ما سواه فهو مربوب مصنوعٌ مفطورٌ، فقيرٌ محتاجٌ معبَّد مقهورٌ، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصوّر» [ العبودية (ص145)].

    ثالثاً: عبودية الكائنات:
    قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل:49].
    قال ابن جرير -رحمه الله-: «يقول الله تعالى ذكره: ولله يخضع ويستسلم لأمره ما في السموات وما في الأرض من دابة تدبّ عليها، والملائكة التي في السموات، وهم لا يستكبرون عن التذلل له بالطاعة» [جامع البيان (7/594)].

    وقال ابن كثير -رحمه الله-: «يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة﴾ [تفسير القرآن العظيم (2/593)].
    وقال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن فِى ٱلأرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مّنَ ٱلنَّاسِ﴾ [الحج:18].

    قال ابن جرير -رحمه الله-: «يقول -تعالى ذكره- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: ألم تر يا محمد بقلبك، فتعلم أن الله يسجد له من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من الخلق من الجن وغيرهم، والشمس والقمر والنجوم في السماء، والجبال والشجر والدواب في الأرض» [جامع البيان (9/122)].
    وقال ابن كثير -رحمه الله-: «يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، وسجود كل شيء مما يختص به»[ تفسير القرآن العظيم (3/220)].
    وقال الله تعالى: ﴿تُسَبّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء:44]
    قال ابن كثير -رحمه الله-: «يقول تعالى: تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن أي: من المخلوقات، وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره» [تفسير القرآن العظيم (3/45)].
    وقال ابن سعدي -رحمه الله-: « ﴿تُسَبّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء﴾ من حيوان ناطق، وغير ناطق، ومن أشجار، ونبات، وجامد، وحيٍ وميت ﴿إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ﴾ بلسان الحال ولسان المقال، ﴿وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ أي: تسبيح باقي المخلوقات، التي على غير لغتكم، بل يحيط بها علام الغيوب» [تيسير الكريم الرحمن (4/283)].
    وعن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حين غربت الشمس: (أتدري أين تذهب؟!) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئتِ، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: ﴿وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ﴾ [يس:38])[ أخرجه البخاري في: بدء الخلق، باب: صفة الشمس والقمر (3199) واللفظ له، ومسلم في: الإيمان (159)].
    قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح بسجود الشمس إذا غربت واستئذانها، وكذلك قال أبو العالية وغيره، قال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا ويقع ساجداً حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه، ومعلوم أن الشمس لا تزال في الفلك كما أخبر الله تعالى بقوله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَـٰرَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء:33]، فهي لا تزال في الفلك، وهي تسجد لله وتستأذنه كل ليلة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تسجد سجوداً يناسبها، وتخضع له وتخشع كما يخضع ويخشع كل ساجد من الملائكة والجن والأنس» [جامع الرسائل، الأولى: (قنوت الأشياء كلها لرب العالمين) (ص37)].
    وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سُقُفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر ولادها، قال: فغزا، فأَدْنى للقرية حين صلاة العصر، أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبِسْها علي شيئاً، فحبست عليه حتى فتح الله عليه) [أخرجه مسلم في الجهاد، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة (1747)].
    وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل) [أخرجه البخاري في المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام (3579)].
    قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «إن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله سلم غالباً، وقد اشتهر تسبيح الطعام، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، ولم يكذب رواتها» [فتح الباري (6/592)].

    رابعاً: ضرورة الخلق إلى العبودية لله تعالى:
    بيّن ابن تيمية -رحمه الله- ضرورة الخلق إلى العبودية من وجوه كثيرة فقال: «ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة.
    وذلك أن العبد بل كل حي بل وكل مخلوق سوى الله هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب، فلا بد له من أمرين:
    أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينفع ويلتذ به.
    والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع الذي يوقع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء:
    أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
    والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
    والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
    والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
    فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي، لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها.

    إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:
    أحدها: أن الله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب، وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه، فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5]، فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب، فالأول من معنى الألوهية، والثاني من معنى الربوبية، إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً، والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها، وكذلك قوله تعالى: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود:88]، وقوله: ﴿فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود:123]، وقوله تعالى: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ [الرعد:30]، وقوله: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴿8﴾ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيل﴾ [المزمل:8، 9]، فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين.

    الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.
    وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذلة، بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى...
    فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم...

    واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
    فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
    ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك.
    وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: ﴿لا أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ﴾ [الأنعام:76].

    الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول، ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاءه، ومسألته، دون ما سواه، ويقتضي أيضاً محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه في هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا في الوجه الأول، ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه.

    الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئاً حباً تاماً بحيث يخالِلُه فلا بد أن يسأمه، أو يفارقه، وفي الأثر المأثور: أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.

    واعلم أن كل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه، ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يأخذ بلهزمته، يقول: أنا كنزك، أنا مالك.
    فكل من أحب شيئاً دون الله ولاَّه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً، فمن أحب شيئاً لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد، أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء، وكل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالا عليه إلا ما كان لله وفي الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (االدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه) [رواه الترمذي وغيره].

    الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل، وقد قال الله تعالى: ﴿وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ﴿81﴾ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَـٰدَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّ﴾ [مريم:81، 82].

    الوجه السادس: أن الله سبحانه غني، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحساناً، والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضاً من تيسير الله تعالى فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر، فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك. وكذلك من أحب إنساناً لشجاعته أو رياسته، أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو -ولو بالدعاء أو الثناء- فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجراء الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد علم وأدب من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة... وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.

    إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته، فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه.
    والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة، فتدبر هذا فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه، ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفهم فلا ترجهم، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى ﴿17﴾ ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ ﴿18﴾ وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ﴿19﴾ إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ٱلأَعْلَىٰ﴾ [الليل:17-20]، وقال فيه: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُور﴾ [الإنسان:9].

    الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك وإن كان ذلك ضرراً عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها.

    الوجه الثامن: أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك.

    الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك.
    قال الله تعالى: ﴿أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَـٰفِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ ﴿20﴾ أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ﴾ [الملك:20، 21]، والنصر يتضمن دفع الضرر والرزق يتضمّن حصول المنفعة»[ مجموع الفتاوى (1/21-31)].
    وقال أيضاً: «فالفقر وصف لازم لها دائماً لا تزال مفتقرة إليه، والإمكان والحدوث دليلان على الافتقار، لا أن هذين الوصفين جعلا الشيء مفتقراً، بل فقر الأشياء إلى خالقها لازم لها لا يحتاج إلى علة، كما أن غنى الرب لازم لذاته لا يفتقر في اتصافه بالغنى إلى علة، وكذلك المخلوق لا يفتقر في اتصافه بالفقر إلى علة، بل هو فقير لذاته، لا تكون ذاته إلا فقيرة فقراً لازماً لها، ولا يستغني إلا بالله.
    وهذا من معاني (الصمد)، وهو الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغني عن كل شيء، بل الأشياء مفتقرة من جهة ربوبيته، ومن جهة إلهيته، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح ولا ينفع ولا يدوم. وهذا تحقيق قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5]، فلو لم يخلق شيئاً بمشيئته وقدرته لم يوجد شيء، وكل الأعمال إن لم تكن لأجله -فيكون هو المعبود المقصود المحبوب لذاته- وإلا كانت أعمالاً فاسدة»[ مجمع الفتاوى (5/514-515)].
    بل لا كمال للعبد إلا في عبوديته لربه جل وعلا، قال ابن تيمية: «كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهّم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق بل أضلّهم»[ العبودية (ص91)].
    وقال: «القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائبة، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة.
    فالقلب لا يصلح ولا يُفلح ولا يلتذّ ولا يُسَرُّ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
    وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فإنه لو أُعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادةٌ لله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها، إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون هو غاية مراده، ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئاً لذاته إلا الله» [ العبودية (ص131-133)].
    ولبيان هذه الحقيقة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أصدق الأسماء حارث وهمام)، قال شيخ الإسلام: «فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمّام: فعّالٌ من الهم، والهم أوّل الإرادة، فالإنسان له إرادة دائماً، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مرادٌ محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب، إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلها من دون الله، كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، أو غير ذلك مما عُبد من دون الله»[ العبودية (ص138)].

    خامساً: فضل العبودية ومكانتها:
    والمراد بالعبودية الممدوحة العبودية الاختيارية التي يوفق الله لها من يشاء من عباده بحكمته ورحمته، فمن فضائلها:
    1- أنها الغاية المحبوبة لله تعالى والمرضية له، والتي من أجلها خلق سبحانه الخلق، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56].
    قال القرطبي: «أي: ليذلوا ويخضعوا لي» [الجامع لأحكام القرآن (17/56)].
    وقيل: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم، وقيل: إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كره[انظر: تفسير ابن كثير (4/238)].
    وقال السعدي: «هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وكلما ازداد العبد معرفة بربه كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله تعالى المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم» [تفسير الكريم الرحمن (7/181)].
    2- أنها أول أمرٍ أمر الله به في كتابه العزيز وأهمه وأعظمه قال تعالى: ﴿يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:21].
    قال القرطبي: «قوله تعالى: ﴿ٱعْبُدُو﴾ أمر بالعبادة له، والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه، وأصل العبادة الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبّدة إذا كانت موطوءة بالأقدام... والعبادة الطاعة، والتعبد التنسّك» [الجامع لأحكام القرآن (1/225-226)].
    وهو أمر واجب لازم حتى الممات قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99].
    3- أن الله وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف الحالات، فقال في حادثة الإسراء: ﴿سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأقْصَى ٱلَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء:1]، وقال في حالة الإيحاء: ﴿فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ﴾ [النجم:10]، وقال في مجال الدعوة: ﴿وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَد﴾ [الجن:19]، وقال في ميدان التحدي: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ﴾ [البقرة:23].
    قال القرطبي في تفسير آية الإسراء: «قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية، قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعاً للأمة» [الجامع لأحكام القرآن (10/205)].
    وهي المنزلة التي رضيها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)[ أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه].
    4- أنها وصف رسل الله وأنبيائه، ونعت ملائكته وأوليائه، قال تعالى: ﴿وَلَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ﴿19﴾ يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء:19، 20]، وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف:206]، وقال: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلَـئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ﴿172﴾ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِير﴾ [النساء:172، 173].
    قال القرطبي: «قوله تعالى: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ﴾ أي لن يأنف ولن يحتشم ﴿أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ﴾ أي من أن يكون... ﴿وَمَن يَسْتَنْكِفْ﴾ أي يأنف ﴿عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ﴾ فلا يفعلها ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ﴾... ﴿جَمِيع﴾ فيجازي كلا بما يستحق، كما بينه في الآية بعد هذا... أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها» [الجامع لأحكام القرآن (6/26-27)].
    وقال سبحانه: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِير﴾ [الإنسان:6]، وقال: ﴿وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَم﴾ [الفرقان:63].
    قال القرطبي: "أضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم... فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى: ﴿أُوْلَـئِكَ كَٱلأنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف:179]» [ الجامع لأحكام القرآن (13/67-68)].
    وقال في وصف ملائكته: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴿26﴾ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴿27﴾ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء:26-28].
    وقال في وصف عيسى -عليه السلام-: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَـٰهُ مَثَلاً لّبَنِى إِسْرٰءيلَ﴾ [الزخرف:59].
    وقال تعالى: ﴿وَٱذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرٰهِيمَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى ٱلأيْدِى وَٱلأبْصَـٰرِ ﴿45﴾ إِنَّا أَخْلَصْنٰهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ ﴿46﴾ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأخْيَارِ ﴿47﴾ وَٱذْكُرْ إِسْمَـٰعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَذَا ٱلْكِفْلِ وَكُلٌّ مّنَ ٱلأخْيَارِ﴾ [ص:45-48].
    وقال عن داود: ﴿وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأيدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص:17].
    وقال عن سليمان: ﴿نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص:30].
    وقال عن أيوب: ﴿وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ﴾ [ص:41].
    وقال عن نوح: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورً﴾ [الإسراء:3].
    5- أنها من محاسن الفضائل وكرائم الخصائل التي أمر الله تعالى بها جميع الأمم، قال تعالى: ﴿وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُور﴾ [النساء:36].
    قال القرطبي: «أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتب، ولو لم يكن كذلك لعُرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب، وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار لمن له الحُكم والاختيار، فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره» [الجامع لأحكام القرآن (5/180)].
    6- أنها غاية دعوة جميع الرسل، فبها أرسل الله الرسل ومن أجلها أنزل الكتب، قال نوح لقومه: ﴿ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف:59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم.
    وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَـٰلَةُ﴾ [النحل:36]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25].
    قال ابن تيمية: «وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله» [العبودية (ص95)].
    7- أنها الحرز المتين والحصن الحصين من تزيين الشيطان وإغوائه، قال تعالى عن إبليس: ﴿رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى ٱلأرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿39﴾ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر:39، 40]، وقال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿82﴾ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ﴾ [ص:82، 83]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ﴾ [الحجر:42]، وقال في حق يوسف: ﴿كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوء وَٱلْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف:24].
    8- أنها سبيل الحرية والفكاك من رق الدنيا الفانية، وطريقُ الخلاص من هلاك الآخرة الباقية.
    قال الحكيم الترمذي: «إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُبّاق سقّاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران» [انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/156)].
    9- أن بها كمال العبد، وتمام إنسانيته.
    قال ابن تيمية: «كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته» [العبودية (ص91)].
    10- أنه لا يحصل الاستغناء التام والحرية التامة المطلقة إلا بالعبودية لله تعالى.
    قال شيخ الإسلام: «ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلّما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك» [العبودية (ص140-141)].
    11- أن بها اللذة الحقيقية والسعادة الأبدية.
    قال شيخ الإسلام: «إن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب»[ العبودية (ص119)].
    12- أنها البند العظيم الذي أمر الله أن يدعو إليه أهلُ الإسلام أهلَ الكتاب، فقال تعالى: ﴿قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون﴾ [آل عمران:64].
    13- أنها سبيلٌ لوقاية الله وكفايته، قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر:36].

    سادساً: أركان العبودية:
    للعبودية ركنان أساسان لا تقوم إلا بهما وهما: الذل والمحبة. فالذل من غير محبة مردود على صاحبه، والمحبة من غير ذل كذب من مدّعيها ورعونة وإدلال.
    قال شيخ الإسلام: «العبادة المأمور بها تتضمّن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له... ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله» [العبودية (ص33-35)].
    وقال: «لفظ العبودية يتضمن كمال الذل وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان متعبداً للمحبوب والمتيم المتعبد، وتيَّم الله عبده»[ العبودية (ص152)].
    قال ابن القيم رحمه الله:

    وعبادة الرحمن غاية حبـه مع ذل عابـده هما قطبـان
    وعليهما فلك العبادة دائـر ما دار حتى قامت القبطـان
    ومداره بالأمر أمر رسـوله لا بالهوى والنفس والشيطان

    وقال شيخ الإسلام مبينا الترابط الوثيق بين المحبة والعبودية: «كلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وفضّله عما سواه» [العبودية (ص131)].
    ولا يتحقق الذل لله تعالى إلا بالخوف والرجاء، الخوف منه والرجاء فيه.
    قال ابن تيمية: «وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ورفع ضرورته قويت عبوديته له، وحريته مما سواه... فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق... وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبّراً لهم متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر»[ العبودية (ص114-115)].
    قال الله تعالى: ﴿أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَـٰفُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورً﴾ [الإسراء:57].
    قال ابن تيمية: «المحب يخاف من زوال مطلوبه، أو عدم حصول مرغوبه، فلا يكون عبدُ الله ومحبُّه إلا بين خوف ورجاء» [العبودية (ص180)].
    وقال: «ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين -أي: الحب والذل-، فمتى كان يحب غير الله لذاته، أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه، كان عبدا لما أحبه وعبدا لما رجاه، بحسب حبه له ورجائه إياه، وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه سواه فإنما أحبه له، ولم يرجُ قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب أو حصل ما حصل منها، كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها وقدّرها وسخرها له، وأن كل ما في السموات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه ومسخّره، وهو مفتقر إليه، كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك.
    والناس في هذا على درجات متفاوتةٍ، لا يحصي طرقها إلا الله، فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم أتمهم عبودية لله من هذا الوجه» [ العبودية (ص133-134)].
    فلا بد أن تكون العبودية مبنية على الحب والخوف والرجاء، ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان اختلت العبودية، فمثل العبد مثل طائر رأسه المحبة وجناحاه الخوف والرجاء، وإنما جُعلت المحبة بمثابة الرأس لأنه المقصود الأسمى الذي يبقى، وأما الخوف والرجاء فلا خوف ولا رجاء بعد دخول العبد الجنة ورضا الله تعالى عليه.
    قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحّد.
    ويبعث هذين الركنين في النفس ويثيرهما ويقوّيهما أمران اثنان: مشاهدة منة الله تعالى ونعمه، ومطالعة عيوب النفس والعمل، قال ابن القيم رحمه الله: "قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله الا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي) مشاهدةَ المنة ومطالعةَ عيب النفس والعمل. فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار، والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً» [الوابل الصيب (ص6)].
    ولهذا السر كان من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره))، فهو يحمد الله تعالى على ما اتصف به من صفات الجلال والجمال والكمال، وعلى ما تفضل به من النعم العظام، ويستعينه لضعفه وعجزه وافتقاره إليه، ويستغفره لتقصيره وذنبه.

    سابعاً: شروط العبودية:
    لا تقبل العبودية من العبد إلا إذا توفّر فيها شرطان اثنان، الأول: الإخلاص، والثاني: أن تكون على شرع الله.
    قال الله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَ﴾ [الكهف:110]، وقال تعالى: ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ﴿1﴾ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَل﴾ [الملك:1، 2].
    قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
    وقال تعالى: ﴿بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:112]، وقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرٰهِيمَ خَلِيل﴾ [النساء:125].
    قال شيخ الإسلام مقرراً هذين الشرطين: «ولها -أي: العبادة- أصلان، أحدهما: أن لا يُعبد إلا الله، والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع، لا يعبده بغير ذلك من الأهواء والظنون والبدع... فالعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات، والحسنات هي ما أحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، فما كان من البدع في الدين التي ليست في الكتاب ولا في صحيح السنة فإنها وإن قالها من قالها وعمل بها من عمل ليست مشروعة، فإن الله لا يحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح.. وأما قوله: ﴿وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَ﴾، وقوله: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ فهو إخلاص الدين لله وحده» [العبودية (ص82-84)].
    قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) [أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنه].
    قال شيخ الإسلام: «كل عملٍ أُريد به غير الله لم يكن لله وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله، وأن يكون موافقاً لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب... فلا بد من العمل الصالح، وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى» [العبودية (ص174)].
    وتحقيق هاذين الشرطين هو مقتضى الشهادتين، قال شيخ الإسلام: «وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا اله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، ففي الأولى أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله المبلّغ عنه، فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بيَّن لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة»[ العبودية (ص121-222)].
    والمنحرفون عن شرط المتابعة من قدم القياس والعقل أو الذوق والوجد أو الرؤى والمنامات، أو الحزبيات والسياسات على نصوص الكتاب والسنة.
    قال ابن تيمية: «وأصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله، وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر الله، فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد، فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته... وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة» [العبودية (ص75-78)].
    وشرط المتابعة لازم لركن المحبة، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ﴾ [آل عمران:31].
    قال ابن تيمية: «فمن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسّى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله» [العبودية (ص126-127)].
    فإذا لم تتحقق المتابعة لم ينفع الحب، قال ابن تيمية: "قد يسلك المحب –لضعف عقله وفساد تصوره– طريقاً لا يحصِّل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة والطريق غير موصل؟!» [العبودية (ص131)].

    ثامناً: المنحرفون في باب العبودية:
    أ- المشتغلون بالعبودية العامة عن العبودية الخاصة:
    المشركون وكثير من أهل التصوف وأهل الجبر يشهدون الحقيقة الكونية دون الحقيقة الشرعية، فيعارضون الشرع بالقدر، قال شيخ الإسلام: «وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، بل وإبليس معترف بهذه الحقيقة وأهل النار، قال إبليس: ﴿رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [ص:79]... وأمثال هذا من الخطاب الذي يقرّ فيه بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره، وكذلك أهل النار: ﴿قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ﴾ [المؤمنون:106]... فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أُمر به من الحقيقة الدينية، التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره وأمر رسله، كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواصّ أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق الذين سقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان كان من أهل الكفر والإلحاد... وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها، ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، التي من اكتفى بها ولم يتّبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام دون مقام، أو حال دون حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية. وهذا مقام عظيم غلط فيه الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين للتحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان» [العبودية (ص42-46)].
    وقال: «كثير من الرجال غلطوا فيه، فإنهم قد يشهدون ما يقدّر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يقدر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جارٍ بمشيئة الله وقضائه وقدره، داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك دينا وطريقاً وعبادة، فيضاهئون المشركين الذين قالوا: ﴿لَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء﴾ [الأنعام:148]» [العبودية (ص50-51)].

    ب- الذين يسوون الله بكلّ موجود:
    وهم أهل المقالة الكفرية وحدة الوجود، قال شيخ الإسلام: «بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سوّوا الله بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقا لكل موجود، إذ جعلوه هو وجود المخلوقات.
    وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العالمين، وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد، لا بمعنى أنهم مُعبّدون، ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق كما صرح بذلك طواغيتهم... ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون، وهذا ليس بشهود لحقيقة لا كونية ولا دينية بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتاً للخالق والمخلوق، إذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم» [العبودية (ص61-62)].

    ج- المدعون للمحبة من غير خوف ولا رجاء:
    قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وُجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة، حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوة التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا لله، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين، أو يطلبون من الله ما لا يصلح بكل وجه إلا لله، ولا يصلح للأنبياء. وهذا بابٌ وقع فيه كثير من الشيوخ، وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بيّنها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته.
    وإذا ضعف العقل، وقلّ العلم بالدين، وفي النفس محبةٌ طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول: أنا محب، فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل، فهذا عين الضلال، وهو شبيهٌ بقول اليهود والنصارى: ﴿نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة:18]» [العبودية (ص162-163)].

    كلمات مفتاحية  :
    العبودية

    تعليقات الزوار ()