يعتقد المسلم جازماً من قلبه أن العبادة مفهوم شامل في التصور الإسلامي ؛ يغطي ويستوعب كل مظاهر الحياة ، انطلاقاً من قول عز وجل : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } فلا ترى المسلم بعد هذه القاعدة القرآنية إلا رافلاً في ثوب العبودية لله رب العالمين ؛ في حركته وسكونه ، وفي نومه ويقظته ، في كسله وجده ، في دعوته ودعائه ، في جهاده ومجاهدته ، في علمه وعمله ، في خوفه وأمله ، كما هو الحال في دموعه ونبضات قلبه ..
ومع هذه السياحة الشاملة لكل نبضات المسلم ، لا نراه إلا طالباً للهداية الحقة في هذه العبودية الشاملة ، فنجده يكرر في كل صلاة قول الحق عز وجل { اهدِنَــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } مع أنه مسلم ومهتدي ويصلي ، إلا أنه من الفرض عليه أن يكرر هذه الآية من سورة الفاتحة في كل صلاة ؛ ذلك بأن الهداية للحق شيء ، والمضي والثبات على تلك الهداية شيء آخر .
وعندما نردد { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } إنما نطلب الثبات على الهداية ، والاستمرار عليها ، وعدم الحيدة عنها ، والتمسك بها ، بل والذود عنها .. لأن معترك الحياة والعيش بهذه المعاني بحق ، ليس بالأمر الهين ، ولا هو بسهل التحصيل ، ولا يُنال بترديد آيات دون الوعي بمقتضياتها .
إن الصراط المستقيم الذي نطلب الهداية له كل مرة ، إنما يحتاج إلى دقة في السير عليه ، ويحتاج إلى وضوح في السير إليه ، ويحتاج إلى توفيق للاستمرار فيه . إن السير على هذا الصراط المستقيم يتطلب الحذر مما على جانبي الصراط ، فعلى جانبه الأول يكون الضلال والإضلال ، وعلى جانبه الأخر ثمة الغضب من الله تعالى ، والمسلم يسير بين هذا وهذا على صراط عليٍ مستقيم .
فنحن في كل صلاة نقول : { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } يقول النبي عليه الصلاة والسلام " اليهود : مغضوب عليهم ، والنصارى : ضالون " أخرجه الإمام الترمذي . هذا هو الوصف لمن سار على جوانب الصراط ، وحاد بنفسه عن الطريق السوي .
يقول الإمام ابن القيم في مدارج السالكين ، انقسم الناس بهذه الآية إلى ثلاثة أقسام :
1. العالم بالحق العامل به . " وهو المنعم عليه الذي يزكي نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح ".
2. العالم بالحق المتبع لهواه . " وهو المغضوب عليه ؛ لأنه علم بالحق وحاد عنه ".
3. الجاهل بالحق . " وهو الضال ؛ لأنه لم يتبع الهدي المستقيم في معرفة الحق وضده ".
وفي كل صلاة يعيش المسلم هذه المعاني مجتمعة في هذه الآيات من سورة الفاتحة ، ويكررها مرات ومرات ، وتتوارد في نفسه صورٌ كثيرة لأهل الغضب ولأصحاب الضلال ؛ صورٌ من أهل الأهواء والجهل ، وصورُ من أهل الغباء وسوء العمل ، صورٌ من أهل الجهالة والبعد عن الصراط المستقيم .
إن عيش المسلم وهو ينشد ربه هذه المعاني ، ويخشى أن يقع في ضدها من صور الغضب والضلال ، هذا الخوف والوجل ، يكون مصاحبا للمرء منا طوال حياته ، تارة يوفقه الله تعالى ، وتارة يُخذل ، بحسب قربه وبعده عن الصراط المستقيم ، وحسن السير إليه وعليه .
وكما قال العارفون ( الأمر كله بين التوفيق والخذلان ) ، وهذا صحيح صحيح ، فكلما ارتكس العبد في الغفلة والمعاصي وفتات الحياة وهام فيها ، كلما كان رداء الخذلان له لباسا ، وحين يقترب وينصب ويرغب ، يجد التوفيق له سجية وعادة ، وخير اللباس التقوى .
وأبدع الإمام ابن القيم رحمه الله حين استخرج أكبر وأخطر مرضين يصيبان العبد في سيره إلى الله ، وهما نتاج من الغضب والضلال ، وهما مرضي " الكبر ، والرياء " وقال بأنهما من أخطر الأمراض ، ومنهما تولد الأمراض الأخرى في قلب العبد .
والكبر : بطر الحق وغمط الناس ، كما بينه الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام ، ورد الحق والتغاضي عنه ، واحتقار الناس وعدم إنزالهم منازلهم ، هما قرني هذا المرض الخطير الفتاك ، الذي يحرم صاحبه من دخول الجنة بوزن حبة خردل منه !
والرياء : العمل لغير الله بشكل عام ، وهو رأس بطلان الأعمال ، فتارة يكون بظاهر حسن من العمل وباطن سيء ، وتارة يكون بتملق واستعراض أمام العبيد ! ، وتارة يكون لجاه أو طلب منزلة في عيون وقلوب من أصلهم مني يمنى !
وبين قرني الكبر ورأس بطلان العمل يصارع المسلم طريقه ومجاهدته إلى الله ، ناشدا التوفيق ، طالبا عونه في البعد عن الخذلان ، معترك صعب طويل ، وما ثمة إلى باب الرب الرحيم يفتحته لعبد أطال الطرق ولم يمل .
• من صور الخذلان أن يتعالى صاحب العلم على الناس بعلمه ، ويظن أنه على شيء ، والمسكين غفل أن صاحب العلم بحق هو المتواضع بحق مع الحق ومع الناس ، والمتعالي لا يليق له إلا الوصف بالجهل .
• ومن صور الخذلان للعبد أن ينشط في الواجبات الفرعية ، ويكسل ويتغافل في الواجبات الأولية الرئيسة ، وعلى سبيل ضرب المثال ؛ ألم يقل الله تعالى في كتابه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } إهمال أهل المرء من زوجة وأولاد و والدين ونحوهما ، هل هو توفيق من الله أم خذلان ؟ ينشط المسلم مع إخوانه في الله ، وبيته تكثر فيه عناكب الشر بكل خيوطها ، ثم يقول : { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } !!
• ومن مظاهر الخذلان للمسلم أن يكون هاجرا للقرآن الكريم ، لا يحفظ ، لا يرتل ، لا يفهم ، لا يشتاق ، لا يتزود ، لا يعرف الختمات تلو الختمات ، ولا يسعى أن يكون القرآن ربيعا لقلبه ، ولا شفاء لصدره ، ولا جلاء لهمه وغمه ، ويظل يردد : { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } !
• ومن صور الخذلان أن لا يوفق المرء لصحبة صالحه تعينه على أمر دينه وتقوية سيره إلى الله ، بل أحيانا يكون حوله الكثير من الإخوة والأخوات في الله ـ كلٌ بحسبه ـ ولكنه يشعر بالغربة بينهم ، نظرا لاختلاف النوازع والأهداف ، وطبيعة الفكر والحماسة للعمل لدين الله عز وجل ، وقد يكون خذلانه مركبا ، فلا تجده في أخلاقه وتعامله ومعاشرته إلا كما يكون السوقة من الناس وأراذل البشر والعياذ بالله .
• ومن صور الخذلان انعدام النصح بين المرء ومن يعاشر ، فتراه متعودا عليهم واعتادوا هم عليه ، فيكثر بينهم حديث العامة وأسعار الأسواق والقيل والقال ، وتغض الأطراف عن منكر بدأ يدب فيهم ، أو منزلة بدأت تتسلل إليهم لا تليق بحاملي لواء الصراط المستقيم ، أو آفات اللعب والضحك والكسل وطراوة الهمم ونداوتها ، وينسوا كلهم قول النبي صلى الله عليهم وسلم : ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } راجع ابن كثير .. ونلحظ تعبير النبي عليه الصلاة والسلام ( إن أول ما دخل " النقص " ) سماه نقصا ، وكل ما يحيد عن الصراط هو تقص ولو كان مبالغة في الكسل ، أو برود في همة ، وإن هذا النقص كبر أو صغر أو سكت عنه يكون العقاب : ( ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ) مختلطة ، لا تعرف منها شيئا ، فكيف يراد من هذه القلوب أن تكون آمرة بمعروف ناهية عن منكر ، بل وحاملة للواء الدعوة وتبشير الناس ؟
• ومن صور الخذلان أن ينسلخ شهر رمضان على العبد ولم يغفر له ؛ فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أحضروا المنبر فأحضرنا فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية، قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين، فلما نزل قلنا يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه، قال صلى الله عليه وسلم: إن جبريل عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. قلت: آمين ) حديث متواتر. إن من الخذلان إخواني أخواتي أن ينسلخ عنا الشهر ولم تدمع منا العيون ، أو ترجف منا القلوب خوفا من نار جهنم ، وإن من الخذلان أن يمر الشهر الكريم ولا يقدر أحدنا على ختم القرآن لمرة واحدة ! ، أو تزيد نوافلنا لله رب العالمين ..
هذه لقطات سريعة ، ولكل منا صوره التي يلتقطها بعدسته الإيمانية ..
إن الثبات على الصراط المستقيم ليس بالأمر الهين ؛ إلا على من يسره الله عليه ، ومما يعين على هذا التذكر - مهما انغمست الأرجل في بعض أوحال الدنيا ـ مدارسة وتذكر أحوال من سبقنا في هذا الطريق ، ولقوا ربهم وهم على بينة من ربهم ، هذا التذكر يدفع المسلم دفعا إلى المسير وبقوة ، مهما كان غريبا بين أصحابه المقربين منه ، فإنه واجد بحول الله ذلك الطعم الرباني بسير أهل الصلاح { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً } .
أولئك لم يكن للكبر عندهم مكانا ، ولا للرياء فيهم منزلا ، وكانوا هداة مهتدين .. اللهم اجعلنا منهم يا كريم العطايا ....