ظن المشركون أن بطشهم بالمستضعفين، ونيلهم من غيرهم، سوف يصرف الناس عن الاستجابة لداعى الله، وظنوا أن رسائل السخرية والتهكم التي جنحوا إليها ستهد قوى المسلمين المعنوية، فيتوارون خجلا من دينهم ، ويعودون كما كانوا إلى دين آبائهم، غير أن ظنونهم سقطت جميعا، فإن أحدا من المسلمين لم يرتدَّ عن الحق الذى شرفه الله به، بل كان المسلمون يتزايدون، ولم تفلح طرق الاستهزاء في الصد عن سبيل الله، بل لم تزد المسلمين إلا استعلاء بدينهم، وثقة بسلامة منهجهم، ووضوح طريقهم، وكان مما يزيدهم يقينا وثباتا الآيات التي تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكى نماذج كثيرة من الحق والباطل، وكيف أنه محسوم العاقبة {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} {غافر:51-52} بل إن الآيات لتشد من أزرهم، وتقوى عزائمهم، وتسلط لهم الأضواء على من سبقهم في طريق الإيمان، كيف ثبتوا ولم ينهزموا أمام تحدى الباطل وغروره وصلفه، { إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} {هود: 38-39}.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه يُظهر دين الله ويدعوا إليه ، والمسلمون حوله يكثرون ، فرأت قريش أن تجرب أسلوب العروض والمفاوضات لعلها أن تحصل على بعض التنازلات التي عجزت أساليب القهر والاستبداد أن تحققها، فأرسلوا وفدا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا! فقال ياعقيل انطلق فأتني بمحمد، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم في الظهيرة في شدة الحر فقال أبو طالب: إن بني عمك هؤلاء قد زعموا إنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عن أذاهم، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس: قالوا نعم، قال فما أنا بقادر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة، فقال أبو طالب : والله ما كَذَبَنا ابن أخى فارجعوا !! والعجب من أبى طالب في تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم وإلى هذا الحد ، ووقوفه إلى جانبه بهذه القوة، ثم لا يسلم ! ولا يجد ابن كثير رضى الله عنه تفسيرا لهذا سوى أن قال : إن الله تعالى قد امتحن قلبه بحب محمد صلى الله عليه وسلم حبا طبيعيا لا شرعيا، وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الحماية، إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركى قريش وجاهة، ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه، ولتجرءوا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}{القصص: 68}
ولما فشلت المفاوضلت انتقلت قريش إلى المساومة ، فعقدوا مجلسا للشورى حضره كبار قادتهم، فقام عتبة بن ربيعة ، وكان سيدا مطاعا في قومه، وقال : يامعشر قريش ألا أقوم لمحمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا عَلَّه يقبل بعضها.
فنعطه إياها ويكف عنا ؟.
فقالوا يا أبا الوليد قم إليه فكلمه ! فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى في المسجد وقال : يا ابن أخى ! إنك منا حيث قد علمت، من خيارنا حسبا ونسبا، وإنك أتيت قوما بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبْت آلهتهم ودينهم وكفَرت من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد أسمع ! فقال: يا بن أخى ! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا فلا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رِئْياً من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطلب وبذلنا من أموالنا حتى تبرأ، فإنه ربما غلب عليك التابع على الرجل حتى يداوى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ! قال فاسمع ، منى ! فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم أول سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} {فصلت:13} فرجع عتبة خائبا.
إن موقف النبي صلى الله عليه وسلم الراسخ من هذه المساومة يبين لنا طبيعة هذه الدعوة المباركة التي بعث بها.
إن هذا الدين يلاحظ الوسائل، كما يلاحظ الغايات، فالغايات الشريفة لا بد لها من وسائل شريفة، وعلى أصحاب الدعوة أن يثقوا أن النصر من عند الله، وأن الدين لا يَعز بتقديم بعض التنازلات ألجأت إليها ما يُسمَّى بمصلحه الدعوة " كما يقولون " بل إن الدين، ومصلحة الدعوة، إنما تكمن في الالتزام بكامل منهجه دون الحيدة يمينا أو شمالا، {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} {محمد:7} وإلا فقد كان باستطاعة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل مثل هذا العرض بدعوى المصلحة، ويقول في نفسه، لو سَودُّونى عليهم وصار لى الحكم والسلطان، لاستطعت من خلال هذا أن ألزمهم بالتوحيد، وأن أحطم الأصنام بما لى من قوة ومنعة ! لكن حاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقبل المداهنة في هذا الدين، وأن يُميِّع قضية التوحيد إلى هذا الحد الذى يجعله يسكت عن الصدع بها في وجه الكافرين والمعاندين ، و ليت أصحاب الحلول السياسية والبرلمانية يستفيدون من هذا الدرس فيكفوا عن المداهنات وما تجلبه من حماقات وتنازلات، وها هى تجاربهم في أرض الواقع تتوالى دون فائدة ولا عائدة، إلا ما كان من حسرات.
ولما لم تفلح مساومات قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، لجأوا إلى أسلوب التحدى والتعجيز، وأرادوا إحراج النبي صلى الله عليه وسلم بمطالبته بالإتيان بالمعجزات التي تثبت نبوته ! { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} {الاسراء:90-93} فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بقوله {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً}{الاسراء:93} وقد تتابع طلب المشركين للآيات والمعجزات حتى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا نؤمن بك ! قال: وتفعلون ؟ قالوا : نعم ! فأنزل الله تعالى : {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا }{الاسراء: 59} وأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لو أجابهم إلى ما طلبوا ولم يؤمنوا لأهلكهم كما أهلك ثمود، وأمام إلحادهم وعنادهم استجاب الله لهم.
حيث سألوه أن يشق لهم القمر نصفين ! فأراهم القمر شقين حتى رأوا جبل حراء بينهما.
ولكن سرعان ما كذبوا واتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر فسجل الله موقفهم في القرآن عارا وشنارا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} {القمر:1-2} .
ولما رأت قريش أن جميع وسائلها وأساليبها لم تُجدِ شيئا مع المسلمين، أعادت النظر في سياستها لمواجهة الدعوة، وانتهت إلى أشد أساليب المحاربة قسوة، وأبلغها ضراوة، لقد اعتمدت قريش أسلوب الحصار الاقتصادى للمسلمين، وقررت المقاطعة العامة لهم ولمن يرضى بدينهم أو يعطف عليهم أو يحمى أحدهم ، ولا يبيعونهم، ولا يبتاعون منهم، ولا يخالطوهم، ولا يزوجونهم ، ولا يتزوجون منهم حتى يُسْلمِوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد دخل مشركو بنى هاشم وبني عبد المطلب في ذلك الحصار مع المسلمين ، أنفة وحمية للقرابة والرحم ، وإباء للذل الذى يلحقهم فيما لو أسلموا محمدا صلى الله عليه وسلم، واشتد الحصار على المسلمين وبلغ أقصاه حتى أكلوا ورق الشجر، وتحملوا في ذات الله الويلات، وبقى المسلمون محاصرين لسنوات ثلاثة في شعب أبي طالب ثم خرجوا أصلب عودا ، وأثبت يقينا، وأشد تفانيا في نصرة الحق.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام