نذر البخلاء
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
أثنى الله -تعالى- على المؤمنين بقوله (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)(الإنسان: 7)، وقال (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ)(البقرة: 270)، وهذا مما يقتضي أن النذر من الطاعات والقربات، إلا أن هذا مُعارَض بأحاديث مُشعرة بالنهي عن النذر منها قوله صلى الله عليه وسلم (لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل) متفق عليه وهذا لفظ مسلم، وهذا وإن لم يكن صريحاً في النهي إلا أنه مُشعر به، وهذا ما فهمه بن عمر -رضي الله عنهما- راوي الحديث حيث ذكر هذا الحديث في معرض إجابته لسؤال عن نذر معلق فقال للسائل "أولم تنهوا عن النذر" ثم قال، قال رسول الله -صلى الله عليه- وسلم وذكر الحديث.
وقد ورد في هذا المعنى أيضاً عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) رواه البخاري، وقد اختلفت أنظار العلماء في التعامل مع هذه النصوص ما بين من سلك مسلك الجمع ومن سلك مسلك الترجيح، ومعظم من ذهب مذهب الترجيح رجح جانب النهي لقاعدة تقديم النهي عن الأمر عند التعارض.
ولا يخفى أن مسلك الجمع أولى طالما كان ممكناً، لاسيما إن كان في أحد النصين الذين ظاهرهما التعارض ما يشعر بخصوصه، حينئذ يكون إعمال قاعدة الخصوص والعموم هي الأولى، وهذا ما ذهب إليه جمع من أهل العلم فذهبوا إلى حمل النهي على النذر المعلق، وحملوا استحباب النذر على النذر المطلق وهو أن يلزم الإنسان نفسه بعبادة مستحبة دون أن يعلق ذلك على شرط، ويكون غرضه من هذا أن يقطع على نفسه طريق التردد عن قربة مستحبة عزم على فعلها كمن يريد أن يصوم يوم عرفة مثلاً وهو مستحب فيقول لله على أن أصوم يوم عرفة.
وحكى ابن حجر عن بعض الشافعية أنهم ذكروا أن الناذر يستفيد بنذره بأن يثاب ثواب عبادة واجبة لا مستحبة، وبهذا التسويغ يمكن أن يجرى النذر في الواجبات حيث يزيدها النذر تأكيداً فيزداد ثوابها، وإلا فيكون النذر في الواجبات من باب تحصيل الحاصل، وأما النذر في المباحات كمن نذر أن يأكل أو يشرب أو يصمت فهذا مما لا فائدة فيه كما دل على ذلك حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يقوم ولا يقعد وألا يتكلم وألا يستظل وأن يصوم ولا يفطر فقال له صلى الله عليه وسلم (مروه فليجلس وليتكلم وليستظل وأن يتم صومه) رواه البخاري.
وكذا نذر المعصية لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم (لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد) رواه مسلم، والراجح أن نذر المعصية هذا فيه كفارة يمين وقد ورد فيه حديث ضعفه بعض العلماء إلا أنه يتعضد بالقياس على كفارة اليمين وبعموم قوله (كفارة النذر كفارة يمين) رواه مسلم، وحاصل هذا أن النذر المطلق بالمستحبات مستحب وأما الوفاء به فواجب إجماعاً.
وهذا النذر المطلق قد تلحق به الكراهة إن كانت فيه مشقة لكون الناذر ينقل نفسه من سعة الشرع إلى ضيق يضيق به على نفسه وربما كسل عن نذره فيأثم، ولذلك كان من فقه الإمام مالك -رحمه الله- أن ذهب إلى كراهة النذر المتكرر لكون صاحبه قد يضعف عنه كمن ينذر أن يصوم الإثنين والخميس أبدا وغيرها، ومن تأمل في المسائل التي تتفرع على هذا من أحوال المرض والسفر، فضلاً عن أحوال قدوم الضيوف وأحوال استئذان المرأة لزوجها وغيرها يعلم أن السلامة لا يعدلها شيء وأن النذر ينبغي أن يستعمل في الطاعة التي غلب على الظن تهيؤ أسبابها وأراد الناذر أن يلزم نفسه بها وأن ينال بها أجر الواجب.
وأما النهي فهو يتوجه إلى النذر المعلق، ومما يؤسف له أن معظم المسلمين لا يكاد يعرف من النذر إلا هذا النوع، وهو أن يقول مثلاً إن شفى الله مريضي لأتصدقن بكذا، والغالب عليه أن يكون صدقة مالية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (وإنما يستخرج به من البخيل)، وإن كان يحتمل أن يشمل كل الطاعات حيث سمى الشرع الكسل عن الطاعات بخلاً كما قال صلى الله عيه وسلم (البخيل من ذكرت عنده ولم يصلى على)(رواه الترمذي وصححه الألباني).
وهذا النهي قد يصل إلى التحريم في حق من ظن أن النذر يوجب ذلك الفعل على الله أو حتى من ظن أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإلا فهو مكروه كما أفاده ابن حجر في فتح الباري، وقد رد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الظن حيث بين أنه لا يأتي بشيء وإنما يأتي الشفاء في موعده الذي قدره الله دونما أن يكون للنذر أي أثر فيه بخلاف الدعاء مثلاً والذي هو سبب شرعي لرفع البلاء، فإذا أتى القدر في موعده فقد وجب على الناذر ما أخذه على نفسه، وإنما سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعل ذلك بخيلاً لكونه لم يبذل الطاعة إلا عندما رجى مصلحة دنيوية أكبر منها.
ومصداقاً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فإننا نجد أن الذين يتعاطون هذا النوع من النذر غالباً ما يكون بخلهم ظاهراً بادياً إلى الحد الذي يدفعهم إلى محاولة التنصل من نذرهم بعدما يحصل لهم مقصودهم ومن اطلع على أحوال الناس وجد من ذلك الشيء الكثير فمنهم من يضع الوفاء بنذره في آخر سلم أولوياته، ومن ثم لا يأتي عليه الدور أبدا فيظل هكذا ديناً في رقبته.
وكم نسمع من سائلة تقول في أثناء حملي بطفلي الأول -الذي ربما تجده قد أصبح الآن رجلاً يافعاً- حدث كذا ونذرت لئن سلم لي حملي فلله علي أن أتصدق بكذا، ويولد المولود وتأتي الهدايا ولوازم السبوع وخلافه ويبقى الوفاء بالنذر المعلق معلقاً، وأما المولود الثاني فحدث كذا ونذرت بكذا وأما وأما... وهي في النهاية تريد من المفتي المسكين أن يحمل عنها وزرها ويفتيها بسقوط النذر بالتقادم -وهو مبدأ لا وجود له إلا في الفقه النسائي الشعبي- وآخر ينذر أنه إن حدث كذا فسوف يذبح لله كذا ثم يأتي سائلاً مبكتاً لمفتيه إن أفتاه بأنه ليس له أن يأكل منه شيئاً بأن هذا عسر ومشقة أن توجد ذبيحة في البيت ولا يأكل منها أهله.
وثالث يريد أن يضرب عصفورين بحجر-وهو تحريف شعبي لمبدأ الجمع بين النوايا- فيريد أن يجمع بين النذر والأضحية إن كان النذر ذبيحة مع أن كلاً منهما واجب على أحد القولين، ولا يجوز الجمع بين النوايا في الواجبات، والأضحية عبادة مستقلة على القول باستحبابها فلا يشرع الجمع بينهما، هذا بخلاف من نذر أن يذبح أضحية فالراجح أن الأضحية قد صارت في حقه بهذا النذر واجبة إلا أنها تبقى على أصلها من أنه يأكل منها ويهدي ويتصدق، وهذا كله مصداقاً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم من أن الذين يقدمون على هذا النوع من النذر عندهم داء البخل، وهذه العادات الجبلية لا ينبغي أن يستسلم لها الإنسان بل يهذب نفسه ويجاهدها ومتى فعل ذلك فإنه يرجى له أن يتخلص بفضل الله ورحمته من شح نفسه، وثمة أمران ليسا من باب النذر المعلق المنهي عنه، بل قد يكون في فعلهما تعويد للنفس على ترك الشح والبخل وهما:
1- أن يفعل الإنسان الطاعة رجاء نفعها العاجل فيمكن للمريض أو ذي الحاجة أن يتعبد لله -عز وجل- تقرباً وتوسلاً إليه بالعمل الصالح بنية رجاء تيسير حاجته ومن ذلك صلاة الحاجة، وصلاة الاستخارة والدعاء بصفة عامة، بل تذَكر الطاعات السابقة والتوسل إلى الله بها مشروع أيضاً كما في حديث الغار، والفرق بين هذا وبين النذر المعلق أن هذا قد فعل الطاعة وأخذ ثوابها ولم يتعامل مع ربه بنظام المجازاة والمقايضة وهو أمر يحبه الله، ولكن ينبغي أن يضم إلى ذلك الثقة في الله وأن الله إما أن يعجل له ما طلب أو يدخر له ما هو أفضل منه.
2- الإكثار من الطاعات عقب حدوث النعم وزوال النقم وهذا مما يحبه الله ويرضاه قال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً)(سـبأ: 13)، ومنه سجدة الشكر وهو يعود النفس على البذل والعطاء دون انتظار لنعمة دنيوية يعلق طاعاته بها وأعظم أمثلة ذلك قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)(الكوثر)، ومما ينبغي أن يُلتفت إليه أن الإنسان إذا حدثت له نعمة فأراد أن يؤكد على نفسه شكرها فقال لله علي أن أفعل كذا أن هذا من النذر المطلق المستحب، نسأل الله عز وجل أن يقينا شح أنفسنا وأن يسلل سخائم صدورنا، اللهم آمين.