بتـــــاريخ : 6/30/2008 11:37:14 AM
الفــــــــئة
  • الاقتصـــــــــاد
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1401 0


    التعاون الاقتصادي العربي: لماذا التجزئة؟

    الناقل : elmasry | العمر :42 | الكاتب الأصلى : lionelfcb | المصدر : www.startimes2.com

    كلمات مفتاحية  :
    اقتصاد
     

    السلام عليكم

    اعضاء وزوار منتدى

    الاقتصاد والاعمال

     

     

    التعاون الاقتصادي العربي: لماذا التجزئة؟
     


    احتل موضوع التعاون والتكامل الاقتصادي بين البلدان العربية, حيزا بارزا في (الخطاب السياسي والاقتصادي), الذي ساد في هذا الجزء من العالم منذ فجر الحقبة الاستقلالية, أي منذ الخمسينيات من القرن المنصرم. بيد أن ما تحقق من الأهداف المعلنة التي تمخض عنها ذلك الخطاب, كان مخيبا للآمال على غير صعيد. فقد ووجهت حركة التعاون والتكامل هذه, بعقبات كأداء, على المستويين السياسي والاقتصادي, واختلط فيها فعل العوامل ذات الطابع الموضوعي مع فعل العوامل الذاتية الأبعاد, بشقيها الداخلي والخارجي. وقد بدا واضحا, على امتداد نصف قرن من مسيرة النمو الاقتصادي في هذه المنطقة, أن جزءا أساسيا من أسباب قصور هذه المسيرة - بالمقارنة مع ما حققته في هذا المضمار كتل رئيسية أخرى من بلدان العالم الثالث - يعود إلى عدم تبلور اتجاهات تعاون وتكامل وتداخل وتشابك راسخة بين اقتصادات البلدان العربية. وتتعاظم, في الظروف الراهنة, المخاوف التي ينطوي عليها فشل حركة التكامل الاقتصادي العربي, بسبب بروز تحديات العولمة, ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة. وهي تتزامن مع تحول البشرية من نظام الاستقطاب الثنائي إلى نظام الاستقطاب الواحد, الذي يمتلك قدرات غير محدودة لإحداث تغييرات جيو - سياسية واقتصادية عميقة في أنحاء المعمورة كافة, ولاسيما في الحلقات الضعيفة منها التي يكاد العالم العربي يحتل مركز الصدارة فيها. وليس ثمة شك في أن هذه التحديات تفرض على الدول العربية بلورة مقاربات من نوع جديد, في مجال التعاون والتكامل الاقتصادي, على نحو يحد من استمرار نهج التناحر والتعارض والتجزئة, ويوفر الفرصة لتعظيم الجوانب الإيجابية لتفاعل العالم العربي مع ظاهرة العولمة, ولتقليص جوانبها السلبية.
    سوف يتناول هذا المقال -بإيجاز - ثلاثة محاور أساسية: الأول يعرض بعض مؤشرات التعاون الاقتصادي واتجاهاته, ويعالج الثاني أبرز العقبات والمعوقات التي تعترض هذا التعاون, ويتناول الثالث أثر (السياسي) و(الاقتصادي) في تشكيل محيط التكامل انطلاقا من تجربة العالم العربي وتجربة الاتحاد الأوربي, ليخلص من ذلك إلى استنتاجات وتوجهات مستقبلية.
    وقائع واتجاهات
    بالرغم من عشرات الاتفاقات التجارية والاقتصادية العربية الثنائية والمتعددة الأطراف, في مغرب العالم العربي ومشرقه, ومن العديد من الاتحادات القطاعية والمهنية العربية المشتركة, انطوت محصلة التعاون والتكامل العربي, على نتائج متواضعة, بالمقارنة مع ما تحقق في محيطات وكتل اقتصادية أخرى في العالم, خلال العقود القليلة المنصرمة, وبإيجاز شديد يمكن رصد اتجاهات هذه المحصلة كالآتي:
    1- إن حجم التجارة البينية بين دول المنطقة - كنسبة من إجمالي صادراتها - لايزال يحتل المرتبة الدنيا, بالمقارنة مع ما هو عليه في التكتلات الاقتصادية الأخرى في العالم. وتشير أحدث المعطيات المتاحة إلى أن هذه النسبة لم تتجاوز 8,2 في المائة عام 1998, مقابل 56,8 في المائة في الاتحاد الأوربي و51 في المائة في أمريكا الشمالية (NAFTA) و25,5 في المائة في أمريكا الجنوبية (الأرجنتين, بوليفيا, البرازيل, التشيلي, البارغواي والأوروغواي), و22,2 في المائة في شرق آسيا. ويستفاد من تقرير للبنك الدولي حول (التجارة والاستثمار والتنمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) (2003), أن درجة تنوع الصادرات في هذه المنطقة تتميز بقدر كبير من الضعف, بالمقارنة مع ما هو عليه في التكتلات الاقتصادية العالمية الأخرى, وان اتجاه هذه الصادرات نحو التركز على عدد محدد من السلع قد تعزز خلال العقدين المنصرمين, في العديد من بلدان المنطقة, وقد بلغ إجمالي قيمة الصادرات العربية - من دون النفط وإعادة التصدير - نحو 28 مليار دولار عام 2000, أي ما يقل عن نصف صادرات بلد كفنلندا لا يتجاوز إجمالي عدد المقيمين فيه خمسة ملايين نسمة. ويستفاد من التقرير ذاته أن حصة المنطقة من إجمالي إنتاج السلع الصناعية في بلدان العالم الثالث قد تراجع بنسبة الثلث بين أواسط الثمانينيات وأواسط التسعينيات, من 4,9 في المائة إلى 3,6 في المائة فقط, مع ميل هذا التراجع إلى التأكد, بقوة أكبر, كلما ازداد المحتوى التكنولوجي لفروع الإنتاج الصناعي المختلفة.
    2- إن الاتجاهات المتحكمة بتطور الإنتاج والتصدير السلعيين في المنطقة, ينطبق إلى حد كبير على إنتاجها وصادراتها من الخدمات, فاستنادا إلى القواعد الإحصائية المتاحة من مصادر دولية, يتبين أن انخفاضا حادا قد طاول حصة العالم العربي من أسواق الخدمات العالمية. ففي مجال الخدمات السياحية مثلا تراجعت حصة بلدان المنطقة من 3.4 في المائة من إجمالي حجم السوق العالمية عام 1987 إلى 2.6 في المائة فقط عام 2000. وفي حين ظلت مساهمة القطاع السياحي خلال التسعينيات تراوح بين 3و4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للمنطقة, تضاعفت هذه المساهمة نحو ثلاث مرات في تكتلات دولية أخرى كالاتحاد الأوربي ومنطقة آسيا الوسطى. وينسحب هذا الاتجاه أيضا على صادرات المنطقة من الخدمات غير السياحية بحسب ما تظهره القواعد الإحصائية المتاحة لدى صندوق النقد الدولي, حيث تزامن تراجع حصة العالم العربي في سوق هذه الخدمات العالمي, مع تضاعف حصة تكتلات مثل شرق آسيا والباسيفيك وأوربا وآسيا الوسطى, وتعكس هذه النتائج غلبة الخدمات غير القابلة للتبادل (Non tradable services) على معظم الأنشطة الخدمية في بلدان العالم العربي, التي تميل إلى التقوقع داخل أسواق قطرية ضيقة, وتتميز بضعف مريع في الإنتاج والقيمة المضافة والقدرة على المنافسة, متحصنة وراء سياسات حمائية غير اقتصادية, كما تتسم بتشويهات عميقة في بنيات الأسعار. والمقلق أن هذه الاتجاهات العامة, السائدة على مستوى الإنتاج والتصدير السلعي والخدماتي, تكاد تنطبق, وإن بنسب متفاوتة, على مجمل المجموعات الاقتصادية التي تتوزع عليها بلدان المنطقة - مشرقا ومغربا - بدءا من البلدان غير النفطية ومرورا بالبلدان شبه النفطية وذات الكثافة السكانية العالية نسبيا, وانتهاء بالبلدان النفطية وذات الكثافة السكانية المتدنية.
    3- إضافة إلى هذا القصور الفاضح في المبادلات البينية العربية السلعية والخدماتية وفي هشاشة الأنشطة التصديرية الطابع, يبرز أيضا ضعف بنيوي في أشكال التعاون والتكامل الاقتصادي الأخرى, فالاتحادات والتجمعات العربية المشتركة ذات التخصص المهني أو القطاعي كانت ولاتزال أقرب إلى (فيدراليات) فوقية تتغذى, سلبا وإيجابا, من الاعتبارات السياسية الضيقة الناظمة للنهج الحكومي في البلدان العربية المختلفة, أكثر مما تتغذى من الاعتبارات المهنية الصرف ومن حسابات الربح والخسارة ومبادئ المساءلة والشفافية. ومع استثناءات قليلة - تنطبق ربما على بعض تجارب صناديق التنمية في المنطقة - لم تنجح هذه الاتحادات والتجمعات في خلق مساحة مقنعة من التفاعل الاقتصادي بين الدول المعنية وفي تعزيز آليات التداخل والتشبيك الاقتصاديين التي من شأنها جعل المدى الاقتصادي العربي التكاملي أوسع من المجموع الحسابي للأسواق القطرية, وأكثر قدرة على حفز واستيعاب الاستثمارات وعلى توليد وتجسيد الفرص الملموسة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وربما يصح هذا القول أيضا في وصف ما آلت إليه محاولات التنسيق والربط بين شبكات المرافق العامة والبنى التحتية الأساسية الخاصة ببلدان المنطقة, بدءا بمشاريع الري والمياه وتحليتها ومرورا بمشاريع الطاقة والكهرباء والاتصالات والمواصلات وانتهاء بالجانب الأهم من المشاريع الصحية والتعليمية. فالرؤية التكاملية غابت, عمليا, عن معظم هذه المشاريع, سواء ما يتعلق منها بطبيعة المشاريع نفسها أو ما يتعلق بأحجامها وبدفاتر الشروط الخاصة بها, وبالمعايير والمواصفات والخيارات الفنية والتكنولوجية الناظمة لها, وبأصول تصنيف الشركات المدعوة للمشاركة في تنفيذها, وبنظم الصيانة المخصصة لها, ناهيك من بنية التعريفات وآليات التسعير التي تنظم استهلاك خدمات هذه المشاريع من قبل المستفيدين النهائيين, وإذا كانت ثمة استثناءات قليلة في هذا المضمار فإنه لا يمكن, واقعيا, التعاطي مع هذه الاستثناءات إلا بصفتها تأكيدا للقاعدة, أي قاعدة الانغلاق والتقوقع على الذات وتكريس تجزئة الموارد والأسواق.
    العقبات والمعوقات
    تنطوي العقبات والمعوقات التي تعترض التكامل الاقتصادي العربي على أبعاد موضوعية وذاتية يصعب الفصل بينها, وأن اقتضت مستلزمات التحليل إجراء مثل هذا الفصل. وفي هذا الإطار يمكن الاكتفاء بالتوقف عند المحاور الآتية:
    1- عالم عربي... أم (عوالم) متمايزة?:
    في طليعة الاعتبارات الموضوعية يبرز واقع التشتت البنيوي في منظومة البلدان العربية, التي يكاد المحيط الذي يوحدها, تاريخا وحضارة ولغة وتطلعات, ينقسم إلى (عوالم) عدة متباينة على غير صعيد. وآليات هذا التباين ومرتكزاته شديدة التنوع بحسب ما يبرز من تفاوت المتغيرات من بلد إلى آخر: المساحة الجغرافية, الكثافة الديموغرافية, مدى توافر الثروات والريوع المتأتية عنها, أثر الحقبة الاستعمارية المتفاوت بحسب طبيعة الجهة المستعمرة, الخليط الاجتماعي والديني والعرقي, درجة الانخراط في آليات السوق ودور القطاع الخاص, درجة الاعتماد على العمالة المستوردة أو - في الحال الأخرى - على تصدير اليد العاملة, تركيبة نظم الحكم وقوانين التمثيل ومسارات تشكل (النخب).... وإذ تبرز هذه العوامل - من ناحية أولى - بصفتها عوامل بحت داخلية, فإنها - من ناحية ثانية - تحمل في معرض تبلورها وترسخها آثار وبصمات التنافس والاستقطاب المتعدد الأشكال, اللذين تمارسهما الكتل السياسية والاقتصادية الدولية المختلفة, إزاء كل من بلدان المنطقة بهدف بسط سيطرتها عليها. ومع أن هذه التباينات ترتدي بشكل عام, طابعا موضوعيا, فإن ما ساهم في تعميق مفاعيلها تمثل في طغيان العديد من العوامل الذاتية المعززة لتيارات التنابذ والانقسام على المستوى العربي, الأمر الذي جعل (الموضوعي) يغذي (الذاتي), ليعود هذا الأخير بدوره فيعزز السمات البنيوية للانقسام, بالرغم من الخطاب العربي الرسمي الصاخب والشديد النزوع, لفظا, نحو الوحدة.
    2- معوقات التكامل:
    إن أبرز ما يعيق الاتجاه نحو التكامل الاقتصادي بين البلدان العربية يتمثل في استمرار وجود مروحة واسعة من القيود غير الجمركية للسلع وعدم التوافق على قواعد المنشأ التفصيلية للمنتجات العربية, إضافة إلى التفاوت الحاد في هياكل الرسوم والضرائب وبنيات الأسعار ومستويات الأجور والتأمينات, وإلى التباين وأحيانا التعارض في نظم الرسوم الجمركية ومعدلاتها. ومع وجود عدد كبير من الاتفاقات الثنائية بين الدول العربية, يصعب إلى حد كبير تطبيق مبدأ المعاملة الوطنية على المبادلات السلعية ذات المنشأ العربي, كذلك فإن عدم وجود استراتيجية موحدة للدول العربية, في تعاملها مع الاتفاقات الدولية والإقليمية, قد ساهم في الحد من حركة انسياب السلع بين الدول العربية, وفي تغليب تدفقات المبادلات التجارية بين كل من البلدان والخارج, على حساب تنمية التجارة البينية العربية. وينطوي ضعف دور القطاع الخاص العربي على تأثيرات سلبية, بالنسبة لموضوع التعاون والتكامل الاقتصادي, إذ يضفي طابعا بيروقراطيا وإداريا وإراديا على الجزء الأكبر من التجارب والجهود الراهنة الرامية إلى تقوية مستوى التداخل والتشابك بين الاقتصادات العربية. كما يلعب النقص وعدم الدقة في نظم الإحصاءات الوطنية, دورا مقيدا لاتجاهات التكامل. وينطبق هذا أيضا على ما تحفل به من تشوهات اتفاقات النقل والمرور والترانزيت العربية, خصوصا في جوانبها التطبيقية التي لا تخلو, في بعض الأحيان, من اعتبارات تعسفية وتمييزية. إن تعدد وتراكم هذه الأنواع المختلفة من المعوقات والكوابح, واستمرار دوران الحلول الجزئية المطروحة كلها في حلقات شبه مفزعة, يفسر إلى حد كبير أسباب البطء الشديد والنتوءات البارزة في تطبيق البرنامج التنفيذي لمنطقة التجارة الحرة العربية, التي انقضى على إنشائها نحو خمس سنوات, من دون أن تثمر تقدما حقيقيا في حركة التكامل والتعاون. ولا يقتصر هذا الاستنتاج على المبادلات السلعية فقط, بل هو يلحق بقوة أكبر التجارة العربية البينية في مجال الخدمات, مع ما تتطلبه هذه من تسهيل لحركة مرور وإقامة وانتقال الأشخاص ولتدفق رءوس الأموال والاستثمارات, بما في ذلك الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) التي تكاد تكون حصة العالم العربي منها معدومة, بالمقارنة مع الكتل الاقتصادية الأخرى في العالم الثالث.
    (السياسي) و(الاقتصادي)
    ثم نأتي إلى دور (السياسي) و(الاقتصادي) في تشكيل محيط للتكامل الاقتصادي: المثال العربي في مقابل المثال الأوربي:
    لقد طرح قيام الاتحاد الأوربي مسألة محورية, من الناحيتين النظرية والعملية, هي مسألة العلاقة بين (السياسي) و(الاقتصادي) ودور كل منهما في تشكيل محيط التكامل الاقتصادي. فكيف تحققت إدارة هذه العلاقة في الإطار الأوربي? وأي مسار سلكته في المحيط العربي?
    1- الاتحاد الأوربي: النموذج وأبرز إشكالياته:
    يشير تقويم تجربة التكامل الأوربية, إلى أن هذه الأخيرة انطلقت أساسا من دوافع ومتطلبات اقتصادية, في الوقت الذي كان المجال السياسي الأوربي على امتداد عقود, بل قرون, موضع نزاعات قومية وعرقية ودينية ولغوية. فقد أملى قيام نظام القطبين على أوربا, خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية, العمل على لملمة شتاتها وجمع صفوفها, بالرغم من الانقسامات السياسية الحادة التي كانت تعمل في أحشاء هذه القارة القديمة, وطغى الطابع الاقتصادي على عملية الجمع واللملمة هذه, في بداياتها الأولى, على ما عداه من جوانب. وانطوت هذه التجربة على دروس بالغة الدلالة, وأهمها إمكان التقدم على طريق التنسيق والتعاون والوحدة الاقتصادية, من دون أن يكون تقدم مماثل ومواز قد تحقق على المستوى السياسي. مع ذلك لم يكن التقدم في مجال التكامل الاقتصادي ممكنا لو لم يرفده حد أدنى من التفاهم السياسي. فقد انطوت قرارات التكامل الاقتصادي الكبيرة على تكاليف وتضحيات ومنافع شملت البلدان الأوربية وشرائحها الاجتماعية وقطاعاتها الاقتصادية المختلفة, وإن بنسب متفاوتة, وما كانت مثل هذه التكاليف والتضحيات لتتجسد لو لم يكن هناك حد أدنى من الاستعداد السياسي والاجتماعي لتحملها واستيعاب أعبائها.
    وفي المحصلة النهائية وبمعزل عن غلبة الدوافع الاقتصادية على الدوافع السياسية, أفضت التجربة الأوربية إلى نجاحات على غير صعيد: معدلات نمو مرتفعة نسبيا, ارتفاع قياسي في حجم المبادلات البينية وتدفقات السلع والخدمات ورءوس الأموال واليد العاملة, تقسيم عمل يغلب عليه التوازن والتكامل واستهداف النشاطات ذات القيمة المضافة العالية, تحسن حثيث في الأوضاع المعيشية ونوعية الحياة, احترام عام للمعايير البيئية, ميل للتخصيص الأمثل للموارد لا على صعيد البلد الواحد فقط, بل على مستوى بلدان الاتحاد الأوربي كافة, وغير ذلك من المؤشرات. والأهم من ذلك, أن هذا النموذج التكاملي الأوربي قد هيأ بلدان القارة, باكرا, لتقبل واستيعاب اتجاهات العولمة التي اتسعت مفاعيلها وتنوعت في العقد الأخير من القرن المنصرم. وهذا ما أتاح للاتحاد الأوربي أن يصبح فاعلا ومؤثرا في ظاهرة العولمة, ومنكبا على تعظيم منفعته منها, بدلا من أن يكون مجرد متلق لها ومنفعل بها, ولا هم له سوى التكيف معها والحد من خسائرها. وهذا الاستنتاج يبقى قائما, مع الإقرار باستمرار هيمنة الولايات المتحدة - حتى إشعار آخر - على آليات تلك الظاهرة ومحدداتها ومنافعها, على المستويين السياسي والاقتصادي على حد سواء. فأوربا تأتي في المقام الثاني على هذا الصعيد ولكن مستقبل المنافسة والتسابق يبقى مفتوحا على آفاق واسعة.
    2- أين العالم العربي?
    ثمة فارق جوهري بين حال بلدان الاتحاد الأوربي وحال البلدان العربية, البلدان الأولى أنجزت, بشكل عام, (ثورتها) على الإقطاع, بأشكاله المختلفة, ودخلت منذ قرن أو قرنين في مدار النمو الرأسمالي وآليات السوق وتصنيع الاقتصاد وبناء الدولة - الراعية ومؤسساتها وما يتفرع عنها من حقوق وواجبات مجتمعية وفردية. أما البلدان العربية فإن انتقالها من الإقطاعية إلى الرأسمالية, سيطر عليه الطابع الهجين والمعاق: ففي بعض الحالات ارتدى هذا الانتقال طابع التحول من اقتصاد البداوة إلى (اقتصاد الريع) المستتر خلف أشكال مصطنعة من الحداثة, وفي حالات أخرى ارتدى الانتقال طابع التحول من أشكال جنينية للنمو الرأسمالي إلى أنواع من (الاقتصاد الدولتي). وفي كلتا الحالتين غابت (الثورة) الصناعية, وما يتفرع عنها من نشاطات خدمية (نبيلة) وذات قيمة مضافة عالية.
    وبشكل عام لم يجر بناء اقتصادات عربية متدامجة وتقسيم عمل قائم على التنوع والإنتاجية, فبدت حركة التشابك بين القطاعات هزيلة وحركة المبادلات البينية بين الدول العربية أكثر هزالة, وغلبت على الاقتصادات سمات متماثلة يصعب, موضوعيا, تكاملها, ولم تشيد مؤسسات ذكية وكفؤة لرفد عملية التعاون والتنسيق والتكامل الاقتصادي بين الدول المختلفة.
    وفي معظم الحالات لم تترجم المرتكزات القاعدية للديمقراطية إلى واقع حي وممارسات, بالرغم مما حفلت به دساتير بلدان المنطقة من شعارات عامة حول حقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات والشفافية والمساءلة.
    لقد شكلت التجزئة السياسية عقبة أساسية أمام تبلور مشروع تكاملي عربي حقيقي. وإذ تتحمل الدول الاستعمارية جزءا مهما من مسئولية التسبب بهذه التجزئة وتعميقها, فإن قسطا أكبر من المسئولية يقع, ربما, على بلدان المنطقة نفسها. وفي أقل تقدير, فشلت البلدان العربية - حيث نجحت دول الاتحاد الأوربي - في ترسيخ قدر من الاستقلالية النسبية في تعاملها مع الموضوع الاقتصادي (المعبر عن مصالح وحاجات مشتركة تخص مروحة واسعة من القوى الاجتماعية العربية) إزاء واقع التجزئة والتخلف السياسي.
    هذا ما يجعل الاقتصادات العربية تعاني, راهنا, أشكالا متنوعة من التردي الاقتصادي والاجتماعي, تراجعا في معدلات النمو وانخفاضا في نصيب الفرد من الناتج, انتشارا في أنواع البطالة كافة, ارتفاعا في حجم المديونية والعجوزات الخارجية, استفحالا في مؤشرات عدم المساواة, تضخما غير مبرر في الإنفاق العسكري الذي لا يستخدم في معظمه إلا لأغراض داخلية, تبديد الثروات النفطية عبر التفنن في أشكال التبذير والإنفاق المظهري لدى الفئات الطفيلية المتغذية من بنيات السلطة والحكم, تعاظما في هجرة الموارد المتاحة من خبرات ورءوس أموال, وغير ذلك من أشكال التردي.
    ما العمل?
    فيما ينزع العالم - عبر كتله السياسية والاقتصادية الرئيسية - نحو المزيد من الانفتاح والتكامل والتوسع, وينزع العالم العربي نحو تكريس لحالة التشتت والانقسام, تبرز الحاجة إلى بلورة اتجاهات كلية لمعالجة مكامن الوهن والضعف في الجسم العربي المريض. وتتطلب الرؤية المستقبلية, في هذا المضمار, الكثير من الإبداع والعلم, والجرأة والخيال, ومن منظار هذه الرؤية, ينبغي تعبئة الجهود والموارد في الاتجاهات الأساسية التالية:
    أولا: إطلاق إصلاح سياسي يشمل الأنظمة وقوانين التمثيل ويكرس الممارسة الديمقراطية والحريات, على أنواعها, بالتزامن مع إصلاح اقتصادي يؤسس لإعادة النظر في تقسيم العمل والتخصصات القطاعية, مستلهما استثمار الميزات النسبية القائمة والكامنة, وحفز الإنتاجية والقيمة المضافة وتوطين عائدات النفط, وتعميم الخدمة العامة وتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية.
    ثانيا: التوجه - على قاعدة هذا الإصلاح السياسي - نحو بلورة شبكات النشاطات والمصالح التي تعزز ارتباط وتداخل اقتصادات المنطقة, مع استعداد مسبق لتحمل تبعات التضحية ببعض جزر المصالح الضيقة, المعلنة منها والمستترة, التي تستظل بها بعض المجموعات والقوى الاجتماعية الطفيلية في هذا البلد أو ذاك, على غرار ما قامت عليه التجربة الأوربية. وهذا ما يفترض تحقيقه عبر معالجة المعوقات والعراقيل التي تكبح الاتجاه نحو التكامل والتي سبقت الإشارة إليها, ليس فقط في مجال التجارة البينية للسلع والخدمات, بل كذلك في مجال تعزيز الربط بين شبكات البنى التحتية وتنسيق السياسات الكلية والمالية والضريبية والقطاعية وتصحيح التشوهات في الأسعار والأجور والتعريفات الجمركية. فمثل هذه المقاربات من شأنها التمهيد أمام التجسيد الملموس والتدريجي لأشكال التكامل الكامنة والقائمة على المصالح المشتركة, من أبسطها (مناطق التجارة الحرة الثنائية والمتعددة الأطراف) إلى أكثرها تعقيدا (الاتحاد الجمركي, الاتحاد الاقتصادي, الوحدة الاقتصادية)... مع الإشارة إلى أن بلدان المنطقة تتميز عن بلدان أوربا بما يجمعها من وحدة انتماء وتاريخ ولغة وتطلعات.
    ثالثا: تحويل هذا المحيط التكاملي المنشود إلى محاور وشريك حقيقي في شبكة توازنات القوى الاقتصادية والسياسية الدولية, وتوظيفه - بعد تعبئة موارده وحفز قدراته التنافسية - في عملية انتزاع المزيد من التنازلات السياسية والاقتصادية من نظام العلاقات الاقتصادية المعولم, والمستقطب راهنا بشكل شبه أحادي. إذ ذاك لا تعود المسألة المطروحة أمام العرب: كيف الدخول إلى العولمة والتكيف معها?, بل تصبح: كيف يشارك العرب - عبر تعاونهم وتكاملهم الاقتصادي - بفعالية أكبر في إدارة العولمة وزيادة حساب الربح منها مقابل لجم حساب الخسارة?

    * كمال حمدان

     

    كلمات مفتاحية  :
    اقتصاد

    تعليقات الزوار ()