أول ما رتبه العلمانيون على نظريتهم في العلاقة بين السياسة والدِّين: أنهم فصلوا السياسة عن الدِّين، والدِّين عن السياسة فصلا تاما، وأشاعوا المقولة الشهيرة: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدِّين! وهي مقولة لا تثبت على محكِّ النقد والمناقشة.
بل هناك من ينادي بفصل الدين عن الحياة كلها، ولا ينبغي له أن يكون له دور إلا في ضمير الفرد، فإن سمح له بشيء أكثر ففي داخل المعبد (الكنيسة أو المسجد) وهو ما سماه د. عبد الوهاب المسيري:( العلمانية الشاملة).
مناقشة مقولة: لا دين في السياسة:
فما معنى: لا دين في السياسة: أتعني: أن السياسة لا دين لها، فلا تلتزم بالقِيَم والقواعد الدِّينية، وإنما هي (براجماتية) تتبع المنفعة حيث كانت، والمنفعة المادية، والمنفعة الحزبية أو القومية، والمنفعة الآنية، وترى أن المصلحة المادية العاجلة فوق الدِّين ومبادئه، وأن (الله) وأمره ونهيه وحسابه، لا مكان له في دنيا السياسة.
وهي في الحقيقة تتبع نظرية مكيا فللي[1]، التي تفصل السياسة عن الأخلاق، وترى أن (الغاية تبرِّر الوسيلة)، وهي النظرية التي يبرِّر بها الطغاة والمستبدون مطالبهم وجرائمهم ضد شعوبهم، وخصوصا المعارضين لهم، فلا يبالون بضرب الأعناق، وقطع الأرزاق، وتضييق الخناق، بدعوى الحفاظ على أمن الدولة، واستقرار الأوضاع ... إلى آخر المبرِّرات المعروفة.
ولكن هل هذه هي السياسة التي يطمح إليها البشر؟ والتي يصلح بها البشر؟
إن البشر لا يصلح لهم إلا سياسة تضبطها قِيَم الدِّين وقواعد الأخلاق، وتلتزم بمعايير الخير والشر، وموازين الحق والباطل.
إن السياسة حين ترتبط بالدِّين، تعني: العدل في الرعية، والقسمة بالسوية، والانتصار للمظلوم على الظالم، وأخذ الضعيف حقه من القوي، وإتاحة فرص متكافئة للناس، ورعاية الفئات المسحوقة من المجتمع: كاليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ورعاية الحقوق الأساسية للإنسان بصفة عامة.
إن دخول الدِّين في السياسة ليس -كما يصوره الماديون والعلمانيون- شرا على السياسة، وشرا على الدِّين نفسه.
إن الدِّين الحق إذا دخل في السياسة: دخل دخول المُوجِّه للخير، الهادي إلى الرشد، المبين للحق، العاصم من الضلال والغي.
فهو لا يرضى عن ظلم، وهو لا يتغاضى عن زيف، ولا يسكت عن غي، ولا يقر تسلط الأقوياء على الضعفاء، ولا يقبل أن يعاقب السارق الصغير، ويكرم السارق الكبير!!
والدِّين إذا دخل في السياسة: هداها إلى الغايات العليا للحياة وللإنسان: توحيد الله، وتزكية النفس، وسمو الروح، واستقامة الخُلق. وتحقيق مقاصد الله من خلق الإنسان: عبادة الله، وخلافته في الأرض، وعمارتها بالحق والعدل، بالإضافة إلى ترابط الأسرة، وتكافل المجتمع، وتماسك الأمة، وعدالة الدولة، وتعارف البشرية.
ومع الهداية إلى أشرف الغايات، وأسمى الأهداف: يهديها كذلك إلى أقوم المناهج، لتحقيق هذه الغايات، وجعلها واقعا في الأرض يعيشه الناس، وليست مجرد أفكار نظرية، أو مثاليات تجريدية.
والدِّين يمنح في الوقت نفسه رجال السياسة: الحوافز التي تدفعهم إلى الخير، وتقفهم عند الحق، وتشجعهم على نصرة الفضيلة، وإغاثة الملهوف، وتقوية الضعيف، والأخذ بيد المظلوم، والوقوف في وجه الظالم حتى يرتدع عن ظلمه، كما جاء في الحديث الصحيح: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قالوا: يارسول الله، ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذلك نصر له"[2].
والدِّين يمنح السياسي الضمير الحي أو (النفس اللوامة) التي تزجره أن يأكل الحرام من المال، أو يستحل الحرام من المجد، أو يأكل المال العام بالباطل، أو يأخذ الرشوة باسم الهدية أو العمولة. وهو الذي يجعل الحاكم يُحَرّض الناس على نصحه وتقويمه، (إن أسأت فقوموني)[3]، (من رأى منكم فيَّ اعوجاجا فليقومني)[4].
والدِّين يجرِّئ الجماهير المؤمنة أن تقول كلمة الحق، وتنصح للحاكم وتحاسبه، وتقومه إذا اعوج. لا تخاف في الله لومة لائم، حتى لا يدخلوا فيما حذر منه القرآن: {واتّقُوا فتْنةً لا تُصيبَنَّ الذينَ ظَلمُوا منْكُم خاصَّة واعْلمُوا أنَّ اللهَ شَديدُ العقابِ} [الأنفال: 25]، وفيما حذر منه الرسول الكريم أمته: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم"[5]، أي لا خير فيهم حينئذ ويستوي وجودهم وعدمهم.
والسياسي حين يعتصم بالدِّين، فإنما يعتصم بالعروة الوثقى، ويحميه الدِّين من مساوئ الأخلاق، ورذائل النفاق، فإذا حدث لم يكذب، وإذا وعد لم يخلف، وإذا اؤتمن لم يخن، وإذا عاهد لم يغدر، وإذا خاصم لم يفجر، إنه مقيد بالمثل العليا ومكارم الأخلاق.
كما جاء عن محمد صلى الله عليه وسلم الذي رفض معاونة من عرض عليه العون على المشركين، وله معهم عهد، فقال: "نفي لهم ونستعين الله عليهم"[6]، وأنكر قتل امرأة في إحدى الغزوات، قائلا: "ما كانت هذه لتقاتل"[7]. ونهى عن قتل النساء والصبيان[8].
أما تسمية الخداع والكذب والغدر والنفاق (سياسة)، فهذا مصطلح لا نوافق عليه، فهذه هي سياسة الأشرار والفجار، التي يجب على كل أهل الخير أن يطاردوها ويرفضوها.
إن تجريد السياسة من الدِّين يعني تجريدها من بواعث الخير، وروادع الشر. تجريدها من عوامل البر والتقوى، وتركها لدواعي الإثم والعدوان.
وربط السياسة بالدِّين يعطي الدولة قدرة على تجنيد (الطاقة الإيمانية) أو (الطاقة الروحية) في خدمة المجتمع، وتوجيه سياسته الداخلية إلى الرشد لا الغي، وإلى الاستقامة لا الانحراف، وإلى الطهارة لا التلوث بالحرام.
وكذلك تجنيد هذه الطاقة في السياسة الخارجية للدفاع عن الوطن، ومواجهة أعدائه والمتربصين به، والاستماتة في سبيل تحريره إذا احتلت أرضه، أو اغتصبت حقوقه، أو ديست كرامته.
ولقد رأينا المسلمين في عصورهم الذهبية حين ارتبطت سياستهم بالدِّين، فتحوا الفتوح، وانتصروا على الإمبراطوريات الكبرى، وأقاموا دولة العدل والإحسان، ثم شادوا حضارة العلم والإيمان، مستظلين براية القرآن.
وها نحن نرى اليوم: الدولة الصهيونية المغتصبة (إسرائيل) كيف وظفت الدِّين اليهودي في إقامة دولتها، وتجميع اليهود في العالم على نصرتها، حتى العلمانيون من ساسة الصهيونية، كانوا يؤمنون بضرورة الاستفادة من الدِّين، وهم لا يؤمنون به مرجعا موجها للحياة.
ونرى كذلك الرئيس الأمريكي الحالي (بوش) الابن وجماعته من أتباع اليمين المسيحي المتطرف، كيف يستخدمون الدِّين في تأييد سياستهم الطغيانية المستكبرة في الأرض بغير الحق، حتى رأينا (بوش) يتحدث وكأنه نبي يوحى إليه: أمرني ربي أن أحارب في العراق، أمرني ربي أن أحارب في أفغانستان ... إلى آخر ما أعلنه من صدور أوامر إلهية إليه!!
ورأينا أحزابا علمانية الفكر في أوربا تحاول أن تتقوَّى بالدين، فتنسب نفسها إليه، أي إلى المسيحية، فرأينا أحزابا مسيحية: ديمقراطية واشتراكية تقوم في عدد من دول أوربا، وتحصل على أكثرية أصوات الناخبين، وتتولى الحكم عدة مرات.
فلماذا يُراد للمسلمين وحدهم أن يَفْصلوا السياسة عن الدِّين، أو يزيحوا الدين عن السياسة؟ لتمضي الأمة وحدها معزولة عن سر قوتها، مهيضة الجناح، منزوعة السلاح، لا حول لها ولا طول؟!
وقد أجمع كل الحكماء من المسلمين على أن ارتباط الملك أو الحُكم أو الدولة بالدين لا يثمر إلا الخير والقوة للدولة.
يقول العلاَّمة البيروني في كتابة الشهير (تحقيق ما للهند من مقولة): (إن المُلك إذا استند إلى جانب من جوانب مِلَّة (أي دين) فقد توافى فيه التوأمان، وكمل فيه الأمر باجتماع الملك والدين).
وابن خلدون في (مقدمته) الشهيرة يفرق بين نوعين من المجتمعات: مجتمع دنيوي محض، ومجتمع دنيوي ديني، وهو أزكى وأفضل من المجتمع الأول، فهو يقر بأثر الدين في الحياة الاجتماعية، الذي لا يقل أهمية عن أثر العصبية، ومن ثَمَّ كانت الصورة المثلى للدولة عنده، هي التي يتآخى فيها الدين والدولة[9].
مناقشة مقولة: لا سياسة في الدِّين:
وما معنى (لا سياسة في الدِّين): إن كان معناها: أن الدِّين لا يعنى بسياسة الناس ألبتَّة، ولا يشغل نفسه بمشكلات حياتهم العامة، وتدبير أمورهم المعيشية، وعلاقة بعضهم ببعض، فهذا ليس بصحيح. فكل الأديان لها توجيهات في هذا الجانب، تَقْصر في دين، وتَطُول في آخر. والإسلام هو أطول الأديان باعا في هذا المجال، وله في ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة، وله تراث حافل من فقه الشريعة، وشروح مذاهبها، واختلاف مشاربها.
ولقد ذكر الشيخ علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم): أن الدنيا أهون عند الله من أن ينزل في تدبير شؤونها نصوصا من وحيه[10]!!
ونسي الشيخ أو تناسى أن الله أنزل أطول آية في كتابه (القرآن) في شأن من شؤون الدنيا، وهو كتابة الدَّين وتوثيقه. وذلك في الآية (282) من سورة البقرة، المعروفة بآية المداينة. وأن (آيات الأحكام) التي عني بها المفسرون والفقهاء تعد بالمئات.
وكل أصحاب الأديان كان لهم مشاركات في توجيه الحياة السياسية، حتى الكنيسة المسيحية التي قرأت قول الإنجيل: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، لم تأخذه بحرفيته، وحاولت أن تتدخل في شأن قيصر وأن توجهه، وربما نزعت السلطة منه.
ضلالة فصل الدِّين عن السياسة:
وقد اختار شيخنا العلامة محمد الخضر حسين -شيخ الأزهر في زمانه- أن يعبر عن فصل الدِّين عن السياسة -الذي دعا إليه أحد الكُتَّاب- بعبارة (ضلالة) وهو تعبير شرعي صحيح، لأنه أمر مُحْدث ومبتدع في الأمة، وكل بدعة ضلالة، كما في الحديث الصحيح.
وقد كتب في ذلك مقالة طويلة نشرها في مجلة (نور الإسلام)[11]، ثم وضعها في كتابه (رسائل الإصلاح).
ومما قاله الشيخ في هذه المقالة العلمية الرصينة:
(نعرف أن الذين يدعون إلى فصل الدِّين عن السياسة فريقان:
1. فريق يعترفون بأن للدين أحكاما وأصولا تتصل بالقضاء والسياسة، ولكنهم يُنْكرون أن تكون هذه الأحكام والأصول كافلة بالمصالح، آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب. ولم يبال هؤلاء أن يجهروا بالطعن في أحكام الدِّين وأصوله، وقبلوا أن يسميهم المسلمون ملاحدة؛ لأنهم مُقِرُّون بأنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بمن نزل عليه القرآن.
2. ورأى فريق أن الاعتراف بأن في الدِّين أصولا قضائية وأخرى سياسية، ثم الطعن في صلاحها، إيذان بالانفصال عن الدِّين، وإذا دعا المنفصل عن الدِّين إلى فصل الدِّين عن السياسة، كان قصده مفضوحا، وسعيه خائبا، فاخترع هؤلاء طريقا حسبوه أقرب إلى نجاحهم، وهو أن يَدَّعوا أن الإسلام توحيد وعبادات، ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة، وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشُّبه، لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة فيتم لهم ما بيتوا.
هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدِّين عن السياسة، وكلاهما يبغي من أصحاب السلطان: أن يضعوا للأمة الإسلامية قوانين تناقض شريعتها، ويسلكوا بها مذاهب لا توافق ما ارتضاه الله في إصلاحها. وكلا المسلكين وليد الافتتان بسياسة الشهوات، وقصور النظر عما لشريعة الإسلام من حِكَم بالغات.
أما أنَّ الإسلام قد جاء بأحكام وأصول قضائية، ووضع في فم السياسة لجاما من الحكمة، فإنما ينكره من تجاهل القرآن والسنة، ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين، إذ كانوا يزنون الحوادث بقسطاس الشريعة، ويرجعون عند الاختلاف إلى كتاب الله أو سنة رسوله.
وبين الشيخ أن في القرآن شواهد كثيرة على أن دعوته تدخل في المعاملات المدنية، وتتولى إرشاد السلطة السياسية، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وكل حكم يخالف شرع الله، فهو من فصيلة أحكام الجاهلية، وفي قوله تعالى: { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، إيماء إلى أن غير الموقنين قد ينازعون في حُسْن أحكام رب البرية، وتهوى أنفسهم تبدُّلها بمثل أحكام الجاهلية، ذلك لأنهم في غطاء من تقليد قوم كبروا في أعينهم، ولم يستطيعوا أن يميزوا سيئاتهم من حسناتهم، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]، فرض في هذه الآية أن يكون فصل القضايا على مقتضى كتاب الله، ونبه على أن مَن لم يدخل الإيمان في قلوبهم يبتغون من الحاكم أن يخلق أحكامه من طينة ما يوافق أهواءهم، وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه أسرى الشهوات عن بعض ما أنزل الله، وفتنتهم له في أن يسمع لقولهم، ويضع مكان حكم الله حكما يلائم بغيتهم، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي آية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وفي آية ثالثة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
وفي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والإشهاد، وأحكام النكاح والطلاق واللعان والولاء والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث، وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات، وجزاء الساعي في الأرض فسادا).
وذكر الشيخ آيات تتعلَّق بالحرب والسلم والمعاهدات والعلاقات الدولية.
ثم قال: (وفي السنة الصحيحة أحكام مفصلة في أبواب من المعاملات والجنايات إلى نحو هذا مما يدلك على أن مَن يدعو إلى فصل الدِّين عن السياسة إنما تصور دينا آخر غير الإسلام.
وفي سيرة أصحاب رسول الله -وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة- ما يدل دلالة قاطعة على أن للدين سلطانا في السياسة، فإنهم كانوا يأخذون على الخليفة عند مبايعته شرط العمل بكتاب الله وسنة رسول الله.
ولولا علمهم بأن السياسة لا تنفصل عن الدِّين لبايعوه على أن يسوسهم بما يراه أو يراه مجلس شوراه مصلحة، وفي صحيح البخاري: "كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم"[12].
ومن شواهد هذا: محاورة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة، فإنها كانت تدور على التفقه في حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"[13]. فعمر بن الخطاب يستدل على عدم قتالهم بقوله في الحديث: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم". وأبو بكر يحتج بقوله في الحديث: "إلا بحقها" ويقول: الزكاة من حق الأموال، ولو لم يكونوا على يقين أن السياسة لا يسوغ لها أن تخطو خطوة إلا أن يأذن لها الدِّين بأن تخطوها، ما أورد عمر ابن الخطاب هذا الحديث، أو لوجد أبو بكر عندما احتج عمر بالحديث فسحة في أن يقول له: ذلك حديث رسول الله، وقتال مانعي الزكاة من شؤون السياسة!
ومن شواهد أن ربط السياسة بالدِّين أمر عرفه خاصة الصحابة وعامتهم: قصة عمر بن الخطاب، إذ بدا له أن يضع لمهور النساء حدا، فتَلَت عليه امرأة قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء:20]، فما زاد على أن قال: رجل أخطأ، وامرأة أصابت[14]. ونبذ رأيه وراء ظهره، ولم يقل لها: ذلك دين وهذه سياسة!
وكتب السنة والآثار مملوءة بأمثال هذه الشواهد، ولم يوجد -حتى في الأمراء المعروفين بالفجور- من حاول أن يمس اتصال السياسة بالدِّين من الوِجهة العملية، وإن جروا في كثير من تصرفاتهم على غير ما أذن الله به، جهالة منهم أو طغيانا.
أراد الحجاج أن يأخذ رجلا بجريمة بعض أقاربه، فذكَّره الرجل بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فتركه[15]، ولم يخطر على باله -وهو ذلك الطاغية- أن يقول له: ما تلوته دين، وما سأفعله سياسة!).
ثم قال الشيخ رحمه الله:
(فصل الدِّين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدِّين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين، وليست هذه الجناية بأقل مما يعتدي به الأجنبي على الدِّين إذا جاس خلال الديار، وقد رأينا الذين فصلوا الدِّين عن السياسة علنا كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن، ورأينا كيف كان بعض المبتلين بالاستعمار الأجنبي أقرب إلى الحرية في الدِّين ممَّن أصيبوا بسلطانهم، ونحن على ثقة من أن الفئة التي ترتاح لمثل مقال الكاتب لو ملكت قوة لألغت محاكم يقضى فيها بأصول الإسلام، وقلبت معاهد تدرس فيها علوم شريعته الغراء إلى معاهد لهو ومجون، بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم عن التصرف في مساجد يذكر فيها اسم الله تصرف من لا يرجو لله وقارا)[16].
الدِّين ليس دائما مقصورا على الروحانية:
وإذا نظرنا نظرة أخرى في مقولة: (لا سياسة في الدِّين ولا دين في السياسة) نرى أنها لا تصدق على كل دين. ومن التبسيط المخل -وربما من الكذب المكشوف- اعتبار الأديان كلها بعيدة عن السياسة، والسياسات كلها بعيدة عن الدِّين.
فليست الأديان كلها مقصورة على الجانب الروحاني أو اللاهوتي، ولا صلة لها بشؤون الحياة، فهذا يصدق في بعض الأديان ولا يصدق في البعض الآخر.
فمن الأديان ما يتصل بالحياة ويشرِّع لها، كما في ديانة موسى عليه السلام (اليهودية)، كما يبدو ذلك من الأحكام التي جاءت في التوراة، التي تسمى (الناموس). وهو ما أعلن المسيح عليه السلام أنه ما جاء لينقض الناموس، فقال: (ما جئت لأنقض الناموس، بل لأتمم)[17].
ففي التوراة تشريعات مختلفة، بعضها يتعلَّق بالأسرة، وبعضها يتعلَّق بالمجتمع، وبعضها يتعلَّق بالعقوبات: (السن بالسن، والعين بالعين، ...)[18]، وبعضها يتعلَّق بالعلاقات الدولية.
ودين الإسلام جاء بوصايا أخلاقية، وتشريعات قانونية تتعلَّق بأمر الدنيا والحياة، مبثوثة في آيات القرآن، وأحاديث الرسول، وعُني بتفسيرها وشرحها علماء الأمة فيما عرف بـ(آيات الأحكام) و(أحاديث الأحكام). وفصَّلها فقهاء المذاهب في كتبهم، التي شملت أمور الإنسان فردا وأسرة ومجتمعا ودولة، من أدب الاستنجاء، وأدب المائدة، إلى بناء الدولة، وعلاقاتها مع الأمم والدول الأخرى.
فكيف يقال هنا: لا سياسة في الدِّين!
إن أحد أركان الإسلام هو الزكاة، وهو ركن مالي اجتماعي سياسي، لأن الأصل فيها أنها تنظيم تشرف عليه الدولة، تأخذها من الأغنياء وتردها على الفقراء، فالدولة أو السلطة هي التي تجمعها، وهي التي تصرفها في مصارفها الشرعية بواسطة جهاز إداري ومالي، سماه القرآن (العاملين عليها).
ومن مصارف الزكاة (المؤلفة قلوبهم) وهو مصرف سياسي في أصله، يتصرف فيه الإمام (أي الدولة) ليشتري ولاء بعض القبائل والقوى الاجتماعية أو السياسية، أو يحبب إليهم الإسلام، أو يكف شرهم عن المسلمين، أو ليقطع الطريق على أعداء الإسلام أن يستميلوهم إليهم. كل ذلك عن طريق ما يعطى لهم لاستمالة قلوبهم. وهذا في معظمه غرض سياسي محض.
ثم إن المسلم يستطيع أن يدخل في السياسة، وهو في قلب صلاته التي يتعبد لربه بها، بأن يقرأ آيات في صميم السياسة من القرآن، أو يدعو على المستعمرين والحكام الطغاة بدعاء القنوت، وهو ما يعرف عند الفقهاء بـ(قنوت النوازل). ويعنون بالنوازل: المحن والشدائد التي تنزل بالأمة، مثل: احتلال الغزاة لأرضها، ووقوع الكوارث والزلازل ونحوها.
وأذكر أن الإمام الشهيد حسن البنا في سنة 1946 أو 1947م، كتب في حديثه الأسبوعي في صحيفة جماعته اليومية (الإخوان المسلمون): حديث الجمعة عن (قنوت النوازل)، وطلب من الأئمة والخطباء، أن يقنتوا بهذا القنوت، ويدعوا على الانجليز المستعمرين، ووضع لهم صيغة لم يلزمهم بالدعاء بها، ولكن قال: بمثل هذه الصيغة فادعوا على أعدائكم.
وأذكر من هذه الصيغة:
اللهم رب العالمين، وأمان الخائفين، ومذل المتكبرين، وقاصم الجبارين، تقبَّل دعاءنا، وأجب نداءنا ...
اللهم إنك تعلم أن هؤلاء الغاصبين من البريطانيين، قد احتلوا أرضنا، وغصبوا حقنا، وطغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد. اللهم فردَّ عنا كيدهم، وفلَّ حدَّهم ... وأدل دولتهم، واذهب عن أرضك سلطانهم، ولا تدع لهم سبيلا على أحد من عباد المؤمنين. آمين[19].
وقد التزم الكثيرون من المتدينين بأن يدعوا على الانجليز المحتلين المستكبرين في صلواتهم، وخصوصا الجهرية منها، بهذا الدعاء وأمثاله. وكان ذلك لونا من التعبئة الفكرية والشعورية والعملية ضد الاحتلال المدل بقوته العسكرية، وقوته الاقتصادية.
والسياسة ليست دائما علمانية:
وإذا ثبت لنا أن الدِّين ليس دائما روحانيا خالصا، نستطيع هنا أن نقول بكل وضوح: إن السياسة ليست دائما علمانية، أو لا دينية.
فكم رأينا من سياسات تتبنى الدِّين وتدافع عنه، وتتحمل أعباء الدعوة إليه، وتذود عن حماه. ثبت ذلك في التاريخ القديم، وثبت ذلك في العصر الحديث.
عرف التاريخ القديم المَلِك قسطنطين إمبراطور روما المعروف الذي كان وثنيا، ثم اعتنق النصرانية، وانتصر لمذهب المؤلهين للمسيح ضد آريوس ومن وافقه في التمسك بعقيدة التوحيد.
المهم أنه تبنى العقيدة المسيحية على مذهبه، وطارد أعداءها وأعداءه عقودا من السنين. وظلت الكنيسة في الغرب توجه الدِّين لعدة قرون، حتى قامت الثورة الفرنسية ثائرة على الكنيسة ورجالها الذين وقفوا مع الجمود ضد التحرُّر، ومع الخرافات ضد العلم، ومع الملوك ضد الشعوب، ومع الإقطاعيين ضد الفلاحين. لهذا ثارت عليهم الجماهير الغاضبة، منادية: اشنقوا آخر مَلِك بأمعاء آخر قسيس!
وفي التاريخ الإسلامي - وخصوصا عهد الراشدين- كانت السياسة في خدمة الدِّين، وكان الدِّين هو الموجه الأول للفكر، والمحرك الأول للمشاعر، والمؤثر الأول في السلوك.
بل كان هذا هو الاتجاه العام في التاريخ الإسلامي كله، على تفاوت في الدرجة، ولكن لم يغب الدِّين -أو الإسلام- عن الساحة، ولم يدع السياسة وشأنها تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد. بل كان الإسلام هو أساس القضاء في المحاكم، وأساس الفتوى لجماهير الشعب، وأساس التعليم في المدارس والكتاتيب والجامعات. كما دلَّلنا على ذلك في كتابنا (تاريخنا المفترى عليه)[20].
وفي عصرنا لا زالت هناك سياسات تتبنى الدِّين، وتجمع الجماهير عليه، وتعلن انتصارها له، وحماسها في تبليغ رسالته.
وقد ذكرنا من قريب: كيف قامت سياسة دولة بني صهيون على توظيف الدِّين في إقامة الدولة، ثم في حراستها وتثبيتها، واستغلال الجانب الدِّيني عند المسيحين لتأييدها ونصرتها.
كما ذكرنا الرئيس الأمريكي بوش الابن، وتبنيه لليمين المسيحي المتطرف المتصهين في توجيه سياسة أمريكا اليوم.
وقد كان هذا الالتزام! الديني الواضح من بوش من الأسباب الرئيسة لفوزه في انتخابات الرئاسة على خَصمه (كيري) الذي كان يتبنى خطًا مخالفا لتعاليم الدين المسيحي.
وهذا ينقض المقولات التي تزعم أن كل السياسات علمانية، ولا مدخل للدين في أي منها.
[1]- نقولو مكيا فللي: كاتب سياسي إيطالي (ت1642م)، اشتهر بكتابه (الأمير) الذي ذاع صيته في عالم السياسة، لما انفرد به من أفكار لا تبالي بالقِيم والأخلاق في بناء الدول وسياستها، فلا مانع عنده من استعمال النذالة والخيانة والغدر والتضليل والخداع والغش في سبيل الوصول إلى الهدف، وهو المحافظة على الدولة وقوتها، وشن الحرب دائما لحمايتها، ومهاجمة خصومها.
نقله إلى العربية خيري حماد، وقد نشرته دار الأوقاف الجديدة في بيروت (الطبعة الرابعة والعشرون 2002م) مع تعليق مطول للمحامي د. فاروق سعد، حول تراث الفكر السياسي قبل (الأمير) وبعده.
[2]- رواه البخاري في المظالم (2444) عن أنس، وأحمد في المسند (11994).
[3]- جزء من خطبة أبي بكر بعد توليه الخلافة، رواها عبد الرزاق في المصنف كتاب الجامع (11/336)، وابن سعد في الطبقات (3/183)، والطبري في التاريخ (2/238)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (30/301)، وقال ابن كثير في البداية والنهاية: هذا إسناد صحيح (5/248).
[4]- روى ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزهد عن حذيفة قال: دخلت على عمر وهو قاعد على جذع في داره وهو يحدث نفسه، فدنوت منه فقلت: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟ فقال هكذا بيده وأشار بها، قال: قلت: الذي يهمك والله لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك قال: آلله الذي لا إله إلا هو لو رأيتم مني أمرا تنكرونه لقومتموه؟ فقلت: الله الذي لا إله إلا هو لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك. قال: ففرح بذلك فرحا شديدا وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم -أصحاب محمد- من الذي إذا رأى مني أمرا ينكره قومني.
[5]- رواه أحمد في المسند (6786) عن عبد الله بن عمرو، وقال محققوه إسناده ضعيف لانقطاعه، والبزار في المسند (6/362)، والحاكم في فضائل القرآن (4/108)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب الغصب (6/95)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار بإسنادين ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح وكذلك رجال أحمد (7/518)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (501).
[6]- رواه مسلم في الجهاد والسير (1787) عن حذيفة بن اليمان، وأول الحديث:حدثنا حذيفة بن اليمان ما معنى أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي (حُسَيلٌ) قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: "انصرفا نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم".
[7]- رواه أحمد في المسند (15992) عن رباح بن الربيع، وقال محققوه: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن، وأبو داود في الجهاد (2669)، وابن ماجه في الجهاد (2842)، وعبد الرزاق في المصنف كتاب أهل الكتاب (6/132)، وأبو يعلى في المسند (3/115)، والطبراني في الكبير (5/72)، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/82).
[8]- رواه البخاري في الجهاد والسير (3014- 3015) عن عبد الله بن عمر، ومسلم في الجهاد والسير (1744)، وأبو داود في الجهاد (2668)، والترمذي في السير (1569)، وابن ماجه في الجهاد (2841).
[9]- انظر: (موسوعة العلوم السياسية) الصادرة عن جامعة الكويت: فقرة (103) صـ144، 145.
[10]- انظر: الإسلام وأصول الحكم صـ154.
[11]- التي كان يرأس تحريرها، وكانت هي مجلة علماء الأزهر، وقد بدل اسمها بعد ذلك، وسميت (مجلة الأزهر).
[12]- هو من كلام البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38].
[13]- رواه البخاري في الزكاة (1400) عن أبي هريرة، ومسلم في الإيمان (21)، وأبو داود في الزكاة (1556)، والترمذي في الإيمان (2606)، والنسائي في الزكاة (2443)، وابن ماجه في الفتن (3927).
[14]- رويت القصة مع اختلاف في تعليق عمر على قول المرأة، رواها عبد الرزاق في المصنف كتاب النكاح (6/180) وفيها: فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته، وسعيد بن منصور في السنن (1/166)، والبيهقي في الكبرى كتاب الصداق (7/233) وفيهما: فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر. مرتين أو ثلاثا.
[15]- انظر: تاريخ دمشق (12/145)، والبداية والنهاية (9/124).
[16]- انظر: مقالة (ضلالة فصل الدِّين عن السياسة) من (رسائل الإصلاح) صـ159 – 173 طبعة المطبعة التعاونية بدمشق.
[17]- إنجيل متى: (5/17).
[18]- سفر اللاويين: (14/14).
[19]- انظر: جريدة (الإخوان المسلمين) اليومية العدد 135 الصفحة الأولى. نقلا عن (أحاديث الجمعة) صـ83 – 85 لعصام تليمة.
[20] نشرته دار الشروق بالقاهرة.