إن مما يدفع المؤمن للفضائل، ويزيد من مسارعته في الخيرات، وتنافسه في ذلك مع الآخرين، اطلاعه على مكانة العمل الذي يعمله، وفضائله، والثمار والنتائج، الذي سوف يناله جراء قيامه بذلك.
وبما أن الصدقة من أجلّ الأعمال وأزكاها، وأكثرها نفعاً وفائدة، أولاَ: على المتصدق، وثانياَ: على المتصدق عليه، وثالثاً: على المؤسسات والجمعيات الدعوية والخيرية والعلمية.
ومن هنا يتبين أن الصدقة نفعها متعدي للآخرين، لما لها من مردود إيجابي في توثيق العلاقات بأشكالها المتنوعة، وزيادة المردود المادي والحسي، حتى تصبح صدقة جارية سارية إلى يوم القيامة.
وقد حث الإسلام على دفع الصدقة، في المنشط والمكره؛ في السراء والضراء؛ في الرخاء والشدة، لزرع روح التكافل والتعاون بين أفراده، ليعيشوا إخواناَ متحابين، ولمواجهة الشدائد والمصاعب التي تحدق بالأمة.
ولقد جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة؛ وفي السنة المطهرة أحاديث شريفة، تحث على الصدقة، وتبين فضل ومكانة المتصدق، وجزاء الصدقة في الدنيا والآخرة. ولكن في هذه المقالة الموجزة سوف أتأمل حول : (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).
معنى ( وَيُرْبِي):
جاء في كتب التفاسير:
• في تفسير الطبري:" فإنه جل ثناؤه يعني أنه يُضاعف أجرَها، يَرُبُّها وينمِّيها له".
• وفي تفسير ابن كثير:" قُرئ بضم الياء والتخفيف، من "ربا الشيء يربو" و "أرباه يربيه أي: كثّره ونماه ينميه. وقرئ: "ويُرَبِّي" بالضم والتشديد، من التربية".
• وفي تفسير البغوي:" أي يثمرها ويبارك فيها في الدنيا، ويضاعف بها الأجر والثواب في العقبى ".
• وفي تفسير الآلوسي:" يزيدها ويضاعف ثوابها ويكثر المال الذي أخرجت منه الصدقة".
• وفي تفسير البحر المحيط:" الإرباء حقيقة وهو أنه يزيدها وينميها في الدنيا بالبركة ، وكثرة الأرباح في المال الذي خرجت منه الصدقة ، وقيل : الزيادة معنوية ، وهي تضاعف الحسنات والأجور الحاصلة بالصدقة ".
• وفي تفسير فتح القدير:" أي : يزيد في المال الذي أخرجت صدقته ، وقيل : يبارك في ثواب الصدقة ، ويضاعفه ، ويزيد في أجر المتصدّق ، ولا مانع من حمل ذلك على الأمرين جميعاً".
• وفي تفسير نظم الدر للبقاعي:" أي يزيد الصدقات بما يسد عنها مثل ذلك ويربح في تقلباتها".
• وفي تفسير البيضاوي:" يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه".
• وفي تفسير النسفي": ينميها ويزيدها أي يزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه".
• وفي تفسير الماوردي:" فيه تأويلان : أحدهما : يثمر المال الذي خرجت منه الصدقة .
والثاني : يضاعف أجر الصدقة ويزيدها ، وتكون هذه الزيادة واجبة بالوعد لا بالعمل".
• وفي تفسير أيسر التفاسير:" يبارك في المالك ألذي أخرجت منه ، ويزيد فيه ، ويضاعف أجرها أضعافاً كثيرة".
• وفي تفسير السعدي:" أي: ينميها وينزل البركة في المال الذي أخرجت منه وينمي أجر صاحبها وهذا لأن الجزاء من جنس العمل".
معنى الصدقة:
يقول الدكتورعبدالقادر عبدالكريم جوندل:
تُستعمل كلمة «الصدقة» ومشتقاتها في نصوص الكتاب والسنة بمعانٍ أربعة وهي كالآتي:
1 ـ تُستعمل بمعنى الصدقات الواجبة المحددة المقدار، وهي التي سميت بزكاة الأموال.
2 ـ تُستعمل بمعنى إنفاق الواجب وهو يفترق عن الزكاة في أن مقدار الإنفاق لا يحدد من الشارع كما هو الحال في الزكاة.
3 ـ تُستعمل بمعنى الإنفاق التطوعي وهو تقديم المعونة المادية غير الواجبة للغير احتساباً.
4 ـ تُستعمل كلمة «الصدقة» أيضاً بمعنى تقديم الخدمات الخيرية العامة.
تعريف الصدقة:
الصدقة: هي النفقة التي يطلب بها الأجر، وتطلق على الفرض والنفل، إلا أن عرف الاستعمال في الشرع جرى في الفرض بلفظ الزكاة، وفي النفل بلفظ الصدقة. مفردات الراغب.
متوالية هندسية:
الله سبحانه واسع في عطائه، لا ينضب، ولا يضيق، ولا يكف، وله خزائن السموات والأرض، ينزّل بقدر ما يشاء، وهو عليم بالنوايا والخفايا التي تختلج الصدور، ولا تخفى عليه خافية.
والصدقات تتفاوت في نمائها وبركتها، وكذلك ثوابها ومضاعفاتها عند الله تعالى، لكن ما هي هذه الصدقة الذي ينمو ويربو ويزداد، وأي عطاء هذا الذي يضاعفه الله تعالى في الدنيا والآخرة لمن يشاء. (وسنذكر إن شاء الله تعالى الآثار الدالة على ذلك).
شروط الصدقة المضاعفة:
قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) (البقرة:261). قال رسول الله ( ):" إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربّي أحدكم مهره، حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله – عز وجل- (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات)(التوبة : 104) وقوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)(البقرة:276).رواه الترمذي، صححه الألباني. وقوله( ):" من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف". مسند الإمام احمد، صححه الألباني.
ومن هذه الشروط :
1. أن تكون خالصة لوجه الله سبحانه قال تعالى:( وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (البقرة:272).يقول النسفي في تفسير الآية:"{ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله } وليست نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله أي رضا الله ولطلب ما عنده ...، أو هذا نفي معناه النهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله".
2. أن تكون في سبيل الله تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). يقول الخازن:" قيل أراد به الإنفاق في الجهاد وقيل هو الإنفاق في جميع أبواب الخير ووجوه البر فيدخل فيه الواجب والتطوع"، قال رسول الله( ):" أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله و دينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله عز و جل ". صحيح الألباني.
3. أن لا تتبع الصدقة المن والأذى، بحيث يشعر المتصدق عليه بالدونية (ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى). يقول ابن كثير في تفسير الآية:" فلا يمنون على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل. وقوله: {وَلا أَذًى}أي: لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان". قال رسول الله ( ) :" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" رواه مسلم. .
4. أن تكون سراَ وجهراَ (حسب الموقف) قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ )(البقرة:274). يقول النسفي:" هما حالان أي مسرين ومعلنين يعني يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال". ويقول البيضاوي:" أي يعمون الأوقات والأحوال بالخير".
5. أن يكون المتصدق أحوج إلى صدقته، قال تعالى:(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر:9) وهي الحاجة والفقر. يقول أبو السعود العمادي:" أي ومن يُوقَ بتوفيقِ الله تعالى شُحَّها (بخل النفس) حتى يخالفَهَا فيما يغلبُ عليها من حُبِّ المالِ وبغضِ الإنفاقِ{ فَأُوْلَئِكَ } هم الفائزونَ بكلِّ مطلوبٍ الناجونَ عن كلِّ مكروهٍ".
6. أن تكون من أحب الأشياء إلى المتصدق، قال تعالى:( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(آل عمران:92). يقول أبو السعود:" أي لن تبلُغوا حقيقةَ البِرِّ الذي يتنافس فيه المتنافسون ولن تُدركوا شأوَه ولن تلحَقوا بزُمْرة الأبرارِ أو لن تنالوا برَّ الله تعالى وهو ثوابُه ورحمتُه ورضاه وجنتُه{ حتى تُنفِقُواْ}أي في سبيل الله عز وجل رغبةً فيما عنده ، مما يُعجبُكم من كرائمِ أموالِكم وأحبَّها إليكم كما في قوله تعالى:{ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ }بالإنفاق مطلقُ البذلِ وفيه من الإيذان بعزة منالِ البرِّ ما لا يخفى، وكان السلفُ رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله عز وجل".
7. أن تكون عن طيب قلب، قال رسول الله ( ) :" ما تصدق أحد بصدقة من طيب قلب، ولا يقبل الله إلاّ الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربوا في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربّي أحدكم فلّوة، أو فصيله". متفق عليه.
8. أن تكون بعيدة عن الرياء، والعلن بها بين الملأ، قال رسول الله( ) :" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ بعبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". رواه مسلم.
9. أن يكون المتصدق في حالة صحية وجسمية حسنة، عن أبي هريرة قال أتى رسول الله ( ) رجل فقال: يا رسول الله: أي الصدقة أعظم ؟ فقال:" أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا ألا وقد كان لفلان". رواه مسلم.
10. أن يكون غير مكره على التصدق: قال تعالى في صفات المنافقين:(وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ)(54) سورة التوبة.، يقول السعدي:" (وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ) من غير انشراح صدر وثبات نفس، ففي هذا غاية الذم لمن فعل مثل فعلهم، وأنه ينبغي للعبد أن لا يأتي الصلاة إلا وهو نشيط البدن والقلب إليها، ولا ينفق إلا وهو منشرح الصدر ثابت القلب، يرجو ذخرها وثوابها من اللّه وحده، ولا يتشبه بالمنافقين".
11. أن تكون على الدوام في المنشط والمكره قال تعالى:(الذين ينفقون في السراء والضراء). (آل عمران: 134). يقول أبو السعود العمادي:" في حالتي الرخاءِ والشدة واليُسر والعُسر، أو في الأحوال كلِّها إذ الإنسانُ لا يخلو عن مَسَرة أو مضَرَّة أي لا يخلُون في حالٍ بإنفاق ما قدَروا عليه من قليل أو كثير".
سبع سنابل:
قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) البقرة.
يقول سيد في ظلاله: " إن المعنى الذهني للتعبير ينتهي إلى عملية حسابية تضاعف الحبة الواحدة إلى سبعمائة حبة! أما المشهد الحي الذي يعرضه التعبير فهو أوسع من هذا وأجمل؛ وأكثر استجاشة للمشاعر، وتأثيراً في الضمائر. . إنه مشهد الحياة النامية. مشهد الطبيعة الحية. مشهد الزرعة الواهبة. ثم مشهد العجيبة في عالم النبات : العود الذي يحمل سبع سنابل. والسنبلة التي تحوي مائة حبة! وفي موكب الحياة النامية الواهبة يتجه بالضمير البشري إلى البذل والعطاء . إنه لا يعطي بل يأخذ؛ وإنه لا ينقص بل يزاد . . وتمضي موجة العطاء والنماء في طريقها . تضاعف المشاعر التي استجاشها مشهد الزرع والحصيلة ... إن الله يضاعف لمن يشاء . يضاعف بلا عدة ولا حساب . يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده ; ومن رحمته التي لا يعرف أحد مداها".
وقال تعالى:(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد:18). يقول البغوي:" (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) بالصدقة والنفقة في سبيل الله عز وجل (يُضَاعَفُ لَهُمُ) ذلك القرض (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) ثواب حسن وهو الجنة".
ويقول الخازن:" (وأقرضوا الله قرضاً حسناً)أي بالنفقة والصدقة في سبيل الله(يضاعف لهم) أي ذلك القرض(ولهم أجر كريم) أي ثواب حسن وهو الجنة". لباب التأويل في معاني التنزيل، ويقول سيد في ظلاله:" إن المصدقين والمتصدقات لا يتفضلون على آخذي الصدقات ، ولا يتعاملون في هذا مع الناس . إنما هم يقرضون الله ويتعاملون مباشرة معه . فأي حافز للصدقة أوقع وأعمق من شعور المعطي بأنه يقرض الغني الحميد ، وأنه يتعامل مع مالك الوجود؟ وأن ما ينفقه مخلف عليه مضاعفاً؛ وأن له بعد ذلك كله أجراً كريماً ".
فضائل الصدقة:
للصدقة فضائل كثيرة منها:
منها فضائل دنيوية، يشترك فيها المطيع والعاصي، كل حسب نيته، ومنها ما هو أخروي لا يناله إلاّ المطيع، المؤمن، وسيكون درجته حسب نيته، ومنزلة صدقته، وقربه من الله تعالى.
صحيح أن الصدقة ستكون للغير، لكن مردودها الحقيقي والعظيم هو للمتصدق، أي كأن المتصدق يتصدق على نفسه، يرجوا الثواب والمغفرة، وهذا واضح جليّ بنص الآيات القرآنية، قال تعالى:(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ)(البقرة:272)، يقول النسفي في تفسيره:" فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم ". وقال تعالى:(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)(البقرة:272) يقول النسفي:" [يعود] ثوابه أضعافاً مضاعفة فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها".
ومن أهم هذه الفضائل:
أولاً: في الدنيا:-
1. سمو شأنها وعلو منزلة صاحبها:
قال رسول الله( ) :" من أفضل العمل: إدخال السرور على المؤمن، يقضي عنه ديناً، يقضي له حاجة، ينفس له كربة". صحيح الجامع للألباني. وقوله( ):" اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة". رواه الترمذي، صححه الألباني. وقوله( ) :" أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة".صحيح الجامع للألباني. وقوله( ):"أفضل الدنانير: دينار ينفقه الرجل على عياله و دينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله و دينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله عز و جل". صحيح الألباني. ويقول عمر بن الخطاب(رض):" إن الأعمال تتباهى، فتقول الصدقة: أنا أفضلكم". صحيح ابن خزيمة.
2. وقاية المتصدق من البلايا والمصائب:
قال رسول الله ( ):" صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات". صحيح الألباني، وقوله( ):" فعل المعروف يقي مصارع السوء". صحيح الألباني.
3. التخفيف من شدة وطأة الظواهر الكونية:
قال رسول الله( ) :" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا) رواه البخاري.
4. علاج الأمراض والوقاية منها:
قال رسول الله( ):" داوو مرضاكم بالصدقة". صحيح الألباني. يقول ابن الحاج:" والمقصود من الصدقة أن المريض يشتري نفسه من ربه- عز وجل- بقدر ما تساوي نفسه عنده". كتاب المدخل. ويقول المناوي": وقد جرب ذلك الموفقون – التداوي بالصدقة- فوجدوا الأدوية الروحانية تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية". فيض القدير.
5. زيادة في الرزق:
قال تعالى:(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم:7)، يقول الماوردي في تفسير:" (لئن شكرتم لأزيدنكم) فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي.
الثاني : لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي.
الثالث : لئن وحّدتم وأطعتم لأزيدنكم.
ويحتمل تأويلاً رابعاً : لئن آمنتم لأزيدنكم من نعيم الآخرة إلى نعيم الدنيا .
وسُئِل بعض الصالحين على شكر الله تعالى، فقال: أن لا تتقوى بنِعَمِهِ على معاصيه".
وقوله عز وجل:( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39).
وقوله تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث: يقول الله تعالى:"يا ابن آدم: أنْفق أنْفق عليك" متفق عليه. وفي الحديث: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً ". متفق عليه. يقول الماوردي في تفسير(وَمآ أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُه) ثلاثة تأويلات :
أحدها : فهو يخلفه إن شاء إذا رأى ذلك صلاحاً كإجابة الدعاء.
الثاني : يخلفه بالأجر في الآخرة إذا أنفقه في طاعة.
الثالث : معناه فهو أخلفه لأنه نفقته من خلف الله ورزقه.
6. سبب لنزول الأمطار:
قال رسول الله( ) :" بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبدالله ما اسمك ؟ قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبدالله لم تسألني عن اسمي ؟ فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها ؟ قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه " رواه مسلم.
7. الزيادة في المال:
قال رسول الله( ):" ما نقصت صدقة من مال ". قال النووي:" ذكروا فيه وجهين، احدهما: معناه أنه يبارك فيه ويدفع عنه المضرات فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية وهذا مدرك بالحس والعادة. والثاني: أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المرتب عليه جبر لنقصه وزيادة إلى أضعاف كثيرة". شرح النووي لمسلم.
8. يطرد الشياطين عند البيع:
يقول رسول الله( ) منادياً التجار:" يا معشر التجار، إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة". الترمذي، صححه الألباني. وفي حديث آخر يقول رسول الله( ):" يا معشر التجار، إن البيع يحضره الحلف واللغو فشوبوه بالصدقة". ابن ماجه، صححه الألباني.
9. أجر المتصدق لا ينقطع:
قال رسول الله( ) :" إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم. وقوله( ):"أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت رجل مات مرابطا في سبيل الله ورجل علم علما فأجره يجري عليه ما عمل به ورجل أجرى صدقة فأجرها له ما جرت ورجل ترك ولدا صالحا يدعو له". صحيح الترغيب والترهيب.
10. تجارة رابحة غير كاسدة ومطهرة للمال:
قال تعالى:(وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر:29).
يقول الماوردي:" قوله عز وجل :(يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ) يعني الجنة ، وفيها وجهان: أحدهما : لن تفسد؛ الثاني : لن تكسد. ويقول السعدي:" (تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) أي:" لن تكسد وتفسد، بل تجارة، هي أجل التجارات وأعلاها وأفضلها، ألا وهي رضا ربهم، والفوز بجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه، وهذا فيه أنهم يخلصون بأعمالهم، وأنهم لا يرجون بها من المقاصد السيئة والنيات الفاسدة شيئاً ".
11. دليل على صدق إيمان وقوة يقينه وحسن ظنه برب العالمين:
قال تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (البقرة:3)، ويقول رسول الله( ):" ... والصدقة برهان....". رواه مسلم. يقول النووي:" معناه الصدقة حجة على ايمان فاعلها فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها فمن تصدق استدل بصدقته على صدق ايمانه".شرح النووي لصحيح مسلم. ويقول الدكتور جوندل:" والصدقة دليل على صدق الإيمان، لأن الإيمان حينما يتمكن من النفس البشريّة يسمو بالنفس و يعلو بالهمّة، و حينما تكون النفوس عظيمة تعلو بالإنسان على ماديّته الحيوانية إلى الروحانية الصافية التي ترقى به من الفردية إلى الشعور بالآخرين، إلى مشاركتهم آلامهم، والبذل والإنفاق، ثم الإيثار حتى تصل إلى مرحلة التضحية".
12. استجابة لأمر الله تعالى:
قال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)(الشورى:38)، يقول سيد في معنى الاستجابة :" فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم . أزالوا هذه العوائق الكامنة في النفس دون الوصول . وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها . . عوائق من شهواتها ونزواتها . عوائق من وجودها هي وتشبثها بذاتها . فأما حين تخلص من هذا كله فإنها تجد الطريق إلى ربها مفتوحاً وموصولا . وحينئذ تستجيب بلا عائق . تستجيب بكلياتها . ولا تقف أمام كل تكليف بعائق من هوى يمنعها . . وهذه هي الاستجابة في عمومها" . .و يقول أيضاً: "ولا بد للدعوة من الإنفاق . لا بد منه تطهيراً للقلب من الشح ، واستعلاء على حب الملك ، وثقة بما عند الله . وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان . ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة . فالدعوة كفاح . ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره . وأحياناً يكون هذا التكافل كاملاً بحيث لا يبقى لأحد مال متميز ... وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات" . .
ومن علامات هذه الاستجابة: الصلاة والشورى والإنفاق، لكن لماذا يربط الله عز وجل هذه الأمور الثلاثة ببعضها... الصلاة ركن من أركان الإسلام؛ لا يكتمل إسلام المرء إلاّ به... والشورى وهي مشاورة أهل الرأي والعقل في أمر أو أمور عدة، لصالح الجماعة والأمة، للاجتماع على رأي واحد، والإنفاق مما رزقهم الله تعالى، قد يكون الحكمة في ذلك: في الصلاة تتوحد الصفوف والقلوب متجهة إلى الله تعالى؛ وفي الشورى تتوحد الكلمة والآراء، لخدمة الإسلام والمسلمين؛ وفي الإنفاق تتوحد الأيادي والجيوب، لبث روح التكافل والتعاون بين الجميع. أي حتى تكتمل الاستجابة لأمر الله تعالى، لابد أن تكون هذه الأمور الثلاثة على خط واحد.
13. تزكية النفس وتطهيرها:
قال تعالى:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة:103)
يقول أبو بكر الجزائري:" أي تطهرهم من ذنوبهم، وتزكيهم أنت أيها الرسول( ) بها بدعائك لهم وثنائك عليهم". ويقول السعدي": أي: تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة.
{ وَتُزَكِّيهِمْ } أي: تنميهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي أموالهم".
14. نافذة لسائر أعمال البر:
قال تعالى: ( فأمّا من أَعْطَى واتّقَى. وصَدَّق بالحُسْنَى) سورة الليل .
يقول الماوردي:" وفي قوله « أعطى » ثلاثة أوجه :
أحدها : من بذل ماله؛ والثاني : اتقى محارم الله التي نهى عنها؛ والثالث: اتقى البخل.
(وصَدَّق بالحُسْنَى ) فيه سبعة تأويلات : أحدها : بتوحيد الله ، وهو قول لا إله إلا الله؛ والثاني : بموعود الله؛ والثالث : بالجنة؛ والرابع : بالثواب؛ والخامس : بالصلاة والزكاة والصوم؛ والسادس : بما أنعم الله عليه؛ والسابع : بالخلف من عطائه ، ومعاني أكثرها متقاربة .
(فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرىَ ) فيه تأويلان : أحدهما : للخير؛ والثاني : للجنة؛ ويحتمل ثالثاً : فسنيسر له أسباب الخير والصلاح حتى يسهل عليه فعلها .
ويقول السعدي:" (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) أي:" نسهل عليه أمره، ونجعله ميسرا له كل خير، ميسرًا له ترك كل شر، لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك".
ويقول الله تعالى:(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران :92) .
يقول السعدي في تفسيره:" هذا حث من الله لعباده على الإنفاق في طرق الخيرات، فقال:( لن تنالوا) أي: تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة، (حتى تنفقوا مما تحبون) أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر قلوبكم ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة، ودلت الآية أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره، وأنه ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك، ولما كان الإنفاق على أي: وجه كان مثابا عليه العبد، سواء كان قليلا أو كثيرا، محبوبا للنفس أم لا وكان قوله (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله (وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) فلا يضيق عليكم، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه".
15. الإنفاق بمنزلة القرآن مع القيام به، قال رسول الله :" لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار". متفق عليه.
16. الصدقة متممٌ للصفقة التي عقدها مع الله تعالى، يشير إلى ذلك قوله جل وعلا: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعداً عَلَيْهِ حَقّاً فِى التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرءَانِ وَمَنْ أَوفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللهِ فَاستَبشِرُواْ بِبَيعِكُمُ الَّذِى بَايَعتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيم) (التوبة:111).
ثانياً: في الآخرة:-
1. الأمن في ساحة المحشر:
قال رسول الله( ) :" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ بعبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". رواه مسلم. وفي البخاري:" ... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". وقوله ( ):" كل امرئٍٍ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس". ابن خزيمة، صححه الألباني على شرط مسلم.
2. تطفئ الخطايا وتكفر الذنوب:
قال تعالى:( إنّ الحَسَناتِ يُذهِبنَ السَيّئات) (هود:114)، وقوله تعالى:(إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة:271). ويقول رسول الله( ) :" تصدقوا ولو بتمرة، فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار". صحيح الألباني، وقوله( ):" والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار". صحيح الألباني. وقوله( ):" فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة". رواه البخاري. وقوله( ) يحث النساء على الصدقة:" يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقلن: ولِم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير". رواه البخاري.
3. وقاية من النار:
قال رسول الله( ):" ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بين الله وبينه ترجمان ثم ينظر فلا يرى شيئا قدامه ثم ينظر بين يديه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة". رواه البخاري. وقوله( ):" من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل". رواه مسلم، وقوله( ):" اتقوا النار ولو بشق تمرة". ابن خزيمة، حسنه الألباني.
4. سبب لدخول الجنة:
قال رسول الله( ): "أيّما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، و أيّما مؤمن سقى مؤمنا على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، و أيّما مؤمن كسا مؤمنا على عُرْي كساه الله من خضر الجنة".رواه الطبراني في الكبير.
وقوله( ):"اعبدوا الرحمن، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام". رواه احمد والترمذي.
وقال( ):"تصدّقوا، فإن الصدقة فكاككُمْ من النار". رواه احمد والترمذي.
5. لا خوف عليه ولا هم يحزنزن:
قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). يقول أبو السعود العمادي:" (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدارين من لحوق مكروهٍ من المكاره { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لفوات مطلوبٍ من المطالب قلَّ أو جلَّ ، أي لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزن أصلاً بل يستمرون على النشاط والسرور ، كيف لا واستشعارُ الخوف والخشية استعظاماً لجلال الله وهيبته واستقصاراً للجِد والسعي في إقامة حقوقِ العبودية من خواصِّ الخاصةِ والمقرَّبين". ويقول الماوردي في تفسير الآية:"{وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيه تأويلان :
أحدهما : لا خوف عليهم في فوات الأجر .
والثاني : لا خوف عليهم في أهوال الآخرة .
{وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يحزنون على ما أنفقوه .
والثاني : لا يحزنون على ما خلفوه". تفسير النكت والعيون. ويقول سيد:"( ولا خوف عليهم) من فقر ولا من حقد ولا من غبن . .( ولا هم يحزنون) على ما أنفقوا في الدنيا ، ولا على مصيرهم في الآخرة".
6. باب الصدقة: صاحبها يدعى من باب خاص من أبواب الجنة يقال له باب الصدقة قال رسول الله( ):" من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ) متفق عليه.
الحكمة في دفع الصدقة:
لا يخفى عليك أخي الكريم، أن لدفع الصدقة أسرار وحكم نفسية واجتماعية واقتصادية ودعوية....وهذه الأسرار تكون إيجابية وفعالة في حالة الإنفاق، وستكون سلبية وخاملة في حالة عدم الإنفاق والتقتير.
ومن هذه الحكم:
1. ابتغاء مرضاة الله تعالى، واستجابة لأمره.
2. زيادة الثقة بالله تعالى، لأنه هو الواهب والرزاق، بالعوض والخلف والنماء والزيادة.
3. إيجاد مؤسسات وجمعيات، تقوم بأمور جمع الصدقة وإنفاقها في الوجه المطلوب.
4. بناء مجتمع حضاري، فيه كل سبل المدنية والتحضر.
5. الحفاظ على الأموال من الإسراف والتبذير بغير حق.
6. إيجاد نظام الوقف الإسلامي.
7. وضع خطط وبرامج لتنمية أموال الصدقة.
8. إيجاد روح التسابق والمنافسة، لنيل أعلى درجات الجنان.
9. إيجاد مجتمع متكافل ومتعاون ومتراص....
10. محاربة الفقر بإيجاد طرق وسبل كفيلة تقضي على العوز المادي.
11. لفتح أبواب الرزق العديدة.
12. وقاية المجتمع من الأمراض النفسية والروحية والجسدية.
13. لدفع البلاء والآفات والمصائب.....
14. تطهير النفس والمجتمع من الأخلاق الرذيلة.
15. رفع المشاعر الإنسانية إلى أعلى مستوياتها الجياشة والرقيقة.
16. راحة للضمير الإنساني، وطمأنينة للنفس البشرية.
17. نشر الرحمة والمروءة بين المسلمين.
18. تفريج للكروب والهموم.
19. استعلاء على جاذبة النفس الشحيحة.
20. التخلص من علامات الرياء والنفاق.
21. تصفية وتصديق الإيمان من أن تشوبه شائبة.
22. كسر طمع النفس أمام شهوات الدنيا.
23. توثيق صلة الأخ بأخيه في الله وفي الإنسانية.
24. سد لاحتياجات الجماعة والأمة لتقوم على أساس من التكافل والتعاون يذكرها بوحدة قوامها ووحدة حياتها ووحدة اتجاهها ووحدة تكاليفها.
25. نصر الحق، وتقوية الداعين عليه.
26. المساهمة في نشر الدعوة إلى الله تعالى.
27. لمواجهة حملات الدعاية والتشكيك، وحملات تجفيف منابع الدعوة.
28. المشاركة بنشر الدعوة (بالجهاد المالي).
29. تعمق وترسخ روح الانتماء الإسلامي.
30. لإيجاد التوازن المالي في الكون.
قصص للعبرة
أصحاب الجنة
قال تعالى:(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)) سورة القلم.
هذا مَثَل ضَرَبه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بَعْثُهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة؛ ولهذا قال: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } أي: اختبرناهم، { كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } أي: حلفوا فيما بينهم لَيجُذَّنَ ثَمرها ليلا لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل، ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء، { وَلا يَسْتَثْنُونَ } أي: فيما حلفوا به. ولهذا حنثهم الله في أيمانهم، فقال: { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ } أي: أصابتها آفة سماوية، { فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } قال ابن عباس: أي كالليل الأسود. وقال الثوري، والسدي: مثل الزرع إذا حُصِد، أي هشيمًا يبسًا.
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إياكم والمعاصي، إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقًا قد كان هُيِّئ له"، ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم):{ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } قد حرموا خَير جَنّتهم بذنبهم.
{ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ } أي: لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجَدَاد(والجداد -بالدال بالفتح والكسر- قال ابن الأثير في النهاية (1/244) : "هي صرام النخل، وهو قطع ثمرتها).
{ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ } أي: تريدون الصرام. قال مجاهد: كان حرثهم عِنَبًا.
{ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } أي: يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم. ثم فسر الله عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به، فقال: { فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } أي: يقول بعضهم لبعض: لا تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم!
قال الله تعالى: { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي: قوة وشدة. وقال مجاهد: { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي: جد وقال عكرمة: غيظ. وقال الشعبي: { عَلَى حَرْدٍ } على المساكين. وقال السدي: { عَلَى حَرْدٍ } أي: كان اسم قريتهم حرد. فأبعد السدي في قوله هذا!
{ قَادِرِينَ } أي: عليها فيما يزعمون ويَرومون.
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ } أي: فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها، وهي على الحالة التي قال الله، عز وجل، قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مُدْلَهِمَّة، لا ينتفع بشيء منها، فاعتقدوا أنهم قد أخطئوا الطريق؛ ولهذا قالوا: { إِنَّا لَضَالُّونَ } أي: قد سلكنا إليها غير الطريق فتُهنا عنها. قاله ابن عباس وغيره. ثم رجعوا عما كانوا فيه، وتيقنوا أنها هي فقالوا: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي: بل هذه هي، ولكن نحن لا حَظّ لنا ولا نصيب.
{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ } قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضحاك، وقتادة: أي: أعدلهم وخيرهم: { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } ! قال مجاهد، والسدي، وابن جريج: { لَوْلا تُسَبِّحُونَ } أي: لولا تستثنون. قال السدي: وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحًا. وقال ابن جريج: هو قول القائل: إن شاء الله. وقيل: معناه: { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } أي: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم، { قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع؛ ولهذا قالوا: { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ } أي: يلوم بعضهم بعضًا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ، فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب، { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي: اعتدينا وبَغَينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا، { عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } قيل: رغبوا في بذلها لهم في الدنيا. وقيل: احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة، والله أعلم.
ثم قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن -قال سعيد بن جبير: كانوا من قرية يقال لها (ضروان) على ستة أميال من صنعاء. وقيل: كانوا من أهل الحبشة-وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليها ويدّخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل. فلما مات ورثه بنوه، قالوا: لقد كان أبونا أحمقَ إذ كان يصرف من هذه شيئًا للفقراء، ولو أنَّا منعناهم لتوفر ذلك علينا. فلما عزموا على ذلك عُوقِبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال الربح والصدقة، فلم يبق لهم شيء. يراجع تفسير ابن كثير.
الثلاثة أصحاب الغار
عن عبدالله بن عمر(رضي الله عنهما): عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمال عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منه فرجة نرى منه السماء ففرج الله منه فرجة فرأوا منها السماء. وقال الآخر اللهم إنه كان لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال من النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبدالله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم. وقال الآخر اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز فلما قضى عمله قال أعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعائها فجاءني فقال اتق الله ولا تظلمني حقي فقلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال اتق الله ولا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعائها فأخذه فذهب به فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقي". رواه مسلم.
[ الشرح:(غار) الغار الثقب في الجبل ( فإذا أرحت عليهم) أي إذا رددت الماشية من المرعى إليهم وإلى موضع مبيتها وهو مراحها يقال أرحت الماشية وروحتها بمعنى (نأى بي ذات يوم الشجر) وفي بعض النسخ ناء بي وهما لغتان وقراءتان ومعناه بعد والنأي البعد ( بالحلاب) الإناء الذي يحلب فيه يسع حلبة ناقة ويقال له المحلب قال القاضي وقد يريد بالحلاب اللبن المحلوب ( يتضاغون ) أي يصيحون ويستغيثون من الجوع (فلم يزل ذلك دأبي) أي حالي اللازمة ( فلما وقعت بين رجليها ) أي جلست مجلس الرجل للوقاع ( لا تفتح الخاتم إلا بحقه ) الخاتم كناية عن بكارتها وقولها بحقه أي بنكاح لا بزنى( بفرق ) بفتح الراء وإسكانها لغتان الفتح أجود وأشهر وهو إناء يتسع ثلاثة آصع ( فرغب عنه ) أي كرهه وسخطه وتركه].
صاحب البستان
عن أبي هريرة(رضي الله عنه): عن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال: بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبدالله ما اسمك ؟ قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبدالله لم تسألني عن اسمي ؟ فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها ؟ قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه". رواه مسلم.
[ الشرح:( اسق حديقة فلان ) الحديقة القطعة من النخيل وتطلق على الأرض ذات الشجر (فتنحى ذلك السحاب ) معنى تنحى قصد يقال تنحيت الشيء وانتحيته ونحوته إذا قصدته ومنه سمي علم النحو لأنه قصد كلام العرب (حرة) الحرة أرض بها حجارة سود كثيرة (شرجة) وجمعها شراج وهي مسايل الماء في الحرار (بمسحاته) قال في القاموس سحا الطين يسحيه ويسحوه ويسحاه سحوا قشره وجرفه والمسحاة ما سحي به].
المسلم في ظل صدقته
رجل يسمى ابن جدعان يقول : خرجت في فصل الربيع، وإذا بي أرى إبلي سمانا يكاد الربيع أن يفجر الحليب من أثدائها، فنظرت إلى ناقة من نياقي وكانت أحب حلالي هذه الناقة قلت في نفسي: لأتصدّقن بهذه الناقة لجاري، وكان فقير الحال وله سبع بنات، فأخذت الناقة وطرقت عليه الباب، فلما فتح لي قلت له: خذ هذه الناقة هدية مني لك. ففرح فرحا شديدا لا يدري ماذا يقول من شدة الفرح، فكان يشرب من لبنها ويحتطب على ظهرها، وجاءه منها خير كثير.
وعندما جاء فصل الصيف بحرِّه وجفافه وأخذ البدو يرتحلون طلبا للماء والكلأ، يقول ابن جدعان: شددنا الرحال ثم أخذنا نبحث عن الماء في الدحول(حفر من الأرض توصل إلى أماكن يتجمع فيها الماء)، فدخلت في دحل من الدحول لأحضر الماء، وكان أولادي الثلاثة ينتظرون خارج الدحل، فتاه أبوهم ولم يعرف الخروج، وانتظر أبناؤه ثلاثة أيام، ثم قالوا: لعله تاه تحت الأرض وهلك، وكانوا ينتظرون موته طمعا في المال، فعادوا إلى البيت مسرعين وقسموا المال بينهم، ثم تذكروا أن أباهم قد أعطى جارهم ناقة فذهبوا إليه وقالوا له: أعد لنا الناقة وخذ بدلها هذا الجمل وإلا سنأخذها بالقوة ولن نعطيك شيئا بدلا عنها.
قال الجار الفقير: أشتكيكم إلى أبيكم.
قالوا: إنه مات .
قال: مات ..! كيف؟ وأين مات؟!
قالوا: دخل دحلاً في الصحراء ولم يخرج منه.
قال: خذوا الناقة ولا أريد جملكم، ولكن دلوني إلى مكان الدحل.
فأخذوه إلى مكان الدحل وتركوه وانصرفوا عنه.
فأخذ حبلا، ثم ربطه خارج الدحل وأخذ بيديه شعلة ونزل يزحف على قفاه حتى وصل إلى أماكن فيها يحبوا وأماكن فيها يزحف، ثم شم رائحة رطوبة الماء تقترب، وفجأة سمع صوت أنين، فأخذ يقترب من مصدر الصوت وأخذ يتلمس بيده، فوقعت يده على الطين ثم وقعت على الرجل، فوضع يده على أنفاسه فإذا هو حي يتنفس، فقام وجرَّه بعد أن ربط عينيه حتى لا يتأثر بضوء الشمس، ثم أخرجه خارج الدحل وأطعمه تمرا، ثم حمله على ظهره، وجاء به إلى داره ودبَّت الحياة في الرجل.
فقال له الجار الفقير: أخبرني كيف مكثت أسبوعا كاملا تحت الأرض ولم تمت؟
قال ابن جدعان: سأخبرك، لما دخلت داخل الدحل ضعت ولا أدري أين أتجه، فأويت إلى الماء وأخذت أشرب منه، إلا أن الماء وحده لا يكفي، فبعد ثلاثة أيام أهلكني الجوع، ولكن ما الحيلة؟ فاستلقيت على ظهري وفوضت أمري إلى الله، وإذا بي أشعر بدفء اللبن يتدفق على فمي، فاعتدلت في جلستي، ولكن من شدة الظلام لا أرى شيئا إلاَّ أني أشعر بإناء فيه لبن يقترب من فمي فأشرب حتى أشبع، ثم يختفي، فأخذ يأتيني ثلاث مرات في اليوم، إلا أنه انقطع منذ يومين ولست أدري ما السبب؟.
قال الجار: أنا أقول لك سبب انقطاعه، لقد ظن أولادك أنك مت وجاءوا إليَّ وأخذوا الناقة التي كان الله عز وجل يسقيك منها، والمسلم في ظلِّ صدقته.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة". رواه الحاكم.
ثمرة الصدقة
محبٌّ لفعل الخير يسعى لمعاونة الآخرين فكان يوزع وارده الشهري على حاجيات أسرته ويتصدق بالباقي على المحتاجين، وكان يتفقد الأسر الفقيرة فيعطيهم مما رزقه الله تعالى ويرشد أهل الخير إليهم كي يتصدقوا عليهم ويساعدوهم على العيش الكريم.
ومع أنه لا دخل لديه سوى راتبه الشهري إلا أنه كان يعيش في بحبوحة من العيش مرتاح البال هادئ النفس مطمئن القلب، ووفقه الله عز وجل بزوجة طيبة تعينه على عمله وتحثه على فعل الخيرات وتشد من أزره فكانت له خير معين على العمل الصالح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير متاع الدنيا المرأة الصالحة".
وفي يوم من الأيام كان يستعد للذهاب إلى المسجد لأداء صلاة العصر فقالت له زوجته: بعد أن تؤدي صلاة العصر اشتر حفَّاظات للأطفال.
أخرج الزوج محفظة نقوده ونظر فيها فلم يجد إلا دينارا واحدا فقال لزوجته: لعل الله يفرجها بعد الصلاة المهم الصلاة الآن.
وذهب يسعى إلى المسجد وهناك وقف أمام يدي الخالق عز وجل يؤدي سنة العصر وكان في سجوده يدعو الله أن يرزقه ويوسع عليه ثم جلس بعد أن صلى ورفع كفيه يدعو الله ويرجوه ويتوسل إليه، يدعوه من قلب خاشع ونفس مطمئنة فالله عز وجل قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه، وبعد أن أدى صلاة العصر جماعة خرج من المسجد وقلبه منشرح مؤمن متيقن بأن الله عز وجل سيفرج كربته، ودخل بيته فقابلته زوجته الطيبة بوجه بشوش وابتسامة مشرقة وفرحة قد ملأت عينيها وقالت له: تفضل.
قال: ما هذا؟! قالت: مائتا دينار.
قال: مائتا دينار؟ من أين أتيت بها؟!
قالت: كنت قد أرسلت ملابسك الشتوية كي نرسلها إلى المصبغة فالشتاء على الأبواب كما ترى.
قال: نعم ولكن كيف حصلت على هذه النقود؟
قالت: أخذت أفتش جيوب ملابسك حتى أتأكد من خلوها وإذا بي أجد هذا المبلغ في أحد جيوب ملابسك، مائتا دينار.
هنا قال الرجل الحمد لله وخرَّ ساجدا شاكرا لله على كرمه وجوده ورحمته بعباده.
لقد كان هذا الرحل يتحسس أحوال الفقراء ويتفقد المحتاجين وكان ينفق إنفاق من لا يخش الفقر، وكان واثقا بأن الله هو الرزاق، فلما ضاقت حالته فرجها الله عز وجل ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
قال الله تعالى: " وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا".(الطلاق:2،3).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد المقل وابدأ بمن تعول".(رواه أبو داود).
الصدقة شفاء
أصيب رجل بمرض في صدره، فذهب إلى الطبيب، وبعد الفحوصات اخبره بأنه مصاب بمرض في القلب، ولكي يتأكد ذهب إلى لندن للعلاج، وهناك أخبره الدكتور بأن عليه أن يجري عملية جراحية لقلبه، وان نسبة النجاح سيقل بمرور الوقت، لذا عليك اجراه في أسرع وقت. وما كان عليه إلى أن يحجز الموعد عند الدكتور، ثم يعود إلى بلده لأجل إخبار الأهل وتوديع الأصحاب والأقارب. وفي يوم من الأيام بينما كان عائداً إلى البيت، وكعادته مرّ على سوق الحي ليشتري بعض الحاجيات، فمر على القصاب ليشتري بعض اللحم، فإذا به يرى امرأة عجوزة تفتش بين مخلفات القصاب تنظف العظام وتضعها في كيس لها، قال صاحبنا تعجبت من هذا الأمر: فسألت القصاب ما بال هذه المرأة؛ قال: هذه حالها إذ تأتي بعض الأيام تفعل هذا الشيء ثم تذهب. قال الرجل تقربت منها وسألتها مالك تجمعين العظام. قالت: ليَ أيتام وأنا فقيرة لا أستطيع أن أشتري لهم اللحم، لذا أجمع هذه العظام لكي اطبخها لهم ويأكلوا من مرقها. قال الرجل: أخذتني دهشة وأنا أسمع ما تقول، قلت للقصاب زن بضع كيلوات من اللحم للمرأة، ولك عندي ثمن سنة مقدمة من اللحم لهذه المرأة، كلما أتتك. فقال الرجل وأنا أنظر إلى الفرح والسرور قد دبّ في جسد المرأة وهي تدعوا الله تعالى لي، وعندها شعرت بارتياح يسري في جسدي من أخمص قدمي إلى أعلى رأسي، لم أشعر به من قبل أبداً، وعند رجوعي إلى البيت قال الأولاد مالك يا أبانا قد تغير وجهك وأصبح يضئ، لم نألفه من قبل، هل شفيت من مرضك؟ فأخبرتهم القصة، فدعوا الله لي.
جاء موعد الذهاب إلى لندن لإجراء العملية، ذهبت إلى الدكتور فقال: علينا أن نأخذ الفحوصات النهائية، وعند رؤيته الفحوصات فحصها بدقة وتمعّن، ثم قام مغضباً في وجهي، وهو يصيح: ألست أنا المشرف على مرضك، والطبيب المعالج لك؟ قلت: بلى، قال: فلماذ ذهب إلى طبيب غيري ليعالجك. قلت: ما ذهبت لأحد أبداً، قال الطبيب: إذاً كيف شفيت ولا تحتاج إلى عملية، هذا ما تؤكده الفحوصات. قال: أخبرته قصتي مع تلك العجوزة. فهزّ رأسه وقال: صحيح هذا ما يفعله الإحسان إلى المحتاجين.
===
المصادر:
1. سيد قطب: في ظلال القرآن.
2. الماوردي: تفسير النكت والعيون.
3. ابن كثير: تفسير القرآن العظيم.
4. السعدي: تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.
5. الآلوسي: تفسير روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.
6. البغوي: تفيسر معالم التنزيل.
7. أبو السعود العمادي: تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم.
8. الشوكاني: تفسير فتح القدير.
9. ابن حبان: تفسير البحر المحيط.
10. البقاعي: تفسير نظم الدر.
11. البيضاوي: تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
12. النسفي: تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل.
13. الخازن: تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل.
14. أبو بكر الجزائري: أيسر التفاسير.
15. صحيح البخاري.
16. صحيح مسلم.
17. صحيح الجامع للألباني.
18. صحيح الترغيب والترهيب للألباني.
19. شرح النووي لصحيح مسلم.
20. المناوي: فيض القدير.
21. فيصل بن علي البعداني: كتاب (كيف تنمي أموالك) من الانترنيت.
22. مجلة الجندي المسلم، العدد (125) في: 1/9/2006 من الانترنيت
7- شعبان- 1428هـ
20- آب- 2007م