ملصق دعائي لأحد مرشحي جماعة الإخوان
حتى وقت قريب كانت قضية الدعاة والعمل السياسي مدغومة بشكل مطلق ضمن الإشكالية الرئيسية والرائجة المتعلقة بشكل ومستوى العلاقة الناظمة لجدلية الدين والدولة أو الدين والسياسية.
وبما أن السجالات والجدالات كانت تجري وفق السياق السالف، فلم يكن هناك سانحة موضوعية قادرة على إبراز التمايزات والتنويعات بين الكتل والاتجاهات الفكرية والسياسية وامتداداتها الحركية؛ بل كان هناك ما يشبه التوحد والتماثل والاصطفاف نظرا لما كان يحدثه الاستقطاب الحاصل حول الموقف المبدئي العام من هذه القضية.
فقد كان هناك اتجاه غالب يقترب من مستوى الإجماع داخل الإسلاميين يرى في مشروعية ومعقولية -بل ومصلحية- ارتباط الدعاة بالعمل السياسي في إطاره المباشر والكثيف نوعا من التأكيد على صوابية الفكرة الإسلامية في ملمح شمولية الفكرة الإسلامية ووثوقية الصلة بين الإسلام والسياسة.
وقد ارتبطت بذلك حالة من الاهتجاس الشديد بأن يكون هذا الطرح الخاص بالدعاة والسياسة مدخلا لإخفاء تسويغات تجعل للعلمانية المتجملة موطئ قدم في واقع المجتمعات الإسلامية من خلال لافتات براقة.
البحث عن منطقة وسطى
في الاتجاه المعاكس كانت النخب العلمانية تجاهر بمواقفها الداعية إلى الفصل التام بين الدين كمعطى إلهي لا يمكن لأحد أن يعارضه، وبين فضاء السياسة الذي تعتمل بداخله قضايا حياتية تثور بشأنها الخلافات والاختلافات، وتتباين القناعات والاجتهادات إلى حد التناقض والصراع. ولم يكن بوسع الكثرة الكاثرة في هذه النخب أن تتخيل إمكانية وجود مشروعات ذات صبغة إسلامية وممارسين إسلاميين للعمل السياسي من دون أن تحل معهم فكرة \"المقدَّس\"، واستثمار الرأسمال الوجداني الجمعي للدين لجذب القناعات الجماهيرية تحت وطأة الانجذاب نحو مسعى الخلاص الديني ووخز الضمير لدى القاعدة الجماهيرية من أن تكون معاكستها للخيارات المطروحة من قبل الإسلاميين نوعا من اقتراف الإثم الذي يرهق الضمير ويثقل الكاهل بتبعاته.
الجدل والسجال الذي كان دائرًا وفق النمطية السالفة شهد في الآونة الأخيرة حالة من التنشيط والحراك، بحيث أصبح بالإمكان إلى حد ما ملاحظة التنوع في الرؤى والمواقف داخل الاتجاهات الفكرية بل والحركية أيضا إزاء ممارسة الدعاة للسياسة.
وإذا كان من تفسير لهذا المستجد وذلك التحول، فإن التفسير الأكثر قدرة على كشف حجم تأثير المتغيرات التي أحاطت بالظاهرة يعود إلى زيادة مستوى الاحتكاك الحاصل بين الإسلاميين والعمل السياسي، وما خلقه للإسلاميين من فرص، وما طرحه عليهم من تحديات، وما ترافق مع ذلك من إعادة النظر من لدن بعض المفكرين والناشطين والمحسوبين بشكل أو آخر على معسكر العلمانية.
فالأولون -الإسلاميون- ومن خلال المحكات العملية الكاشفة اتضح لفريق منهم أن القول بقدرة حركة إسلامية ما مهما بلغت قوتها وحجم اتساعها على الوفاء بمقتضيات العمل الدعوي والسياسي والاجتماعي... إلخ ما هو إلا ضرب من العبث، وأن الادعاء بالقدرة على إنجاز ذلك وضرورة الانخراط في المسلكيات المرتبطة بهذه الأنشطة تماهيا مع القول بشمول الفكرة الإسلامية ما هي إلا فكرة طوباوية كان مجال صدقيتها وصوابيتها عالم القناعات المجردة والذهنيات المسبقة، فلما تنزلت هذه القناعات على صفحة الواقع وغاصت في جوف إشكالياته وصعوباته كان لزاما عليها أن تعيد تقييم وتقويم ذاتها دون أن يعني ذلك السيولة والوقوع في شرَك الضبابية والارتباك.
داخل هذا الفريق من الإسلاميين وُجِدت تنويعات أخرى؛ إذ ثمة مَن طالب بضرورة معالجة موضوع الدعوة والسياسة على قاعدة ضبط الأوزان وتقدير الحجوم، ووضع حد للأسقف من دون أن يطرح أية دعوات لفصم العُرَى بين الدعاة والعمل السياسي. وباختصار يمكن إجمال موقف هؤلاء في دعوتهم لفكرة ترشيد العمل الإسلامي.
إلى جوار هؤلاء ثمة من دعا إلى ضرورة التخصص وتركيز الجهد، سواء بين الحركات الإسلامية ذاتها بحيث تتنوع أدوارها وتتكامل بدلا من أن يكون كل منها خصما من رصيد الآخر. وإن تعذر ذلك فإن تطبيقه داخل كل كيان يبدو من زاوية النظر المنطقي المجرد أمرا سهل المنال، بحيث تتم صناعة الكوادر وتأهيلها، ويتم تحديد المسئوليات والمهام وفق القدرات والاستعدادات. فلا يستساغ عقلا أن يخوض شخص ما أو حركة ما في كل القضايا ويطأ كل الساحات إلا إذا صاحب ذلك تهافت في الأداء وضعف في المردود؛ فثمة صعوبة تقارِب الاستحالة في ادعاء القدرة على صوغ سياسات ووضع برامج تأهيل وتكوين لشخصية لها القدرة على الالتحاق بكل المناشط بشكل ناجع دون اكتساب وصف يجعل من شخص ما أو حركة أقرب لهذا المجال أو ذاك في إطار المواقف والرؤى المتصاعدة داخل أروقة الاتجاهات العلمانية والقومية.
يمكن ملاحظة تيار آخذ في التصاعد يدعو إلى ضرورة المراجعة بشأن \"الإسلاميين\" بعدما أثبتت الشواهد أنهم يمثلون قوة حية ورقما لا يمكن تجاهله، إضافة إلى إعادة صياغة \"العلمانية\" في ضوء النظر إلى قناعات الشعوب الإسلامية ومكون الخبرة في التجربة الحضارية الإسلامية.
بهذا المعنى لم يعد لدى هؤلاء ما يعوق ولوج المشاريع والرؤى الإسلامية داخل مضمار التنافس السياسي، إلا أن هؤلاء يرون عوائق كثيرة من وجهة نظرهم تحول دون مقبولية الاحتكاك المتزايدة للدعاة بالسياسة، مطالبين بضرورة التمييز بين فضاء العمل السياسي الذي يتطلب اتخاذ مواقف وتقديم رؤى تتواءم وتتناسب ولوازم التنافسية والخصوصية، وهو ما يتعارض مع السمت الجمعي والروحية العامة التي ينبغي على الداعية أن يتحلى بها. وبهذا المعيار كان هؤلاء لا يرون في الأمر تكريسا لمفهوم العلمانية السائد، فالمطلب ليس إقصاء الطروحات والمشاريع ولا السياسيين الإسلاميين، بقدر ما هو ضبط مستوى العلاقة بين الدعاة والعمل السياسي أو الدعوة والعمل السياسي، باعتبار أن المقتضى العقدي هو فضاء واشتراط الأولى، وأن فضاء المواطنة هو مجال واشتراط الثانية.
الجردة السالفة لا تعني أن المواقف والرؤى السالفة هي القضايا الحصرية محل التداول، فهناك اتجاهات ورؤى حول تخريج التعاطي الأمثل مع هذه الإشكالية، وهل يتم تداولها من منطلق الترشيد والتحاور المحض، أم يتعدى الأمر ذلك إلى الدعوة إلى كيفية رسم حدود العلاقة في الواقع الإجرائي، وهل يتصادم ذلك مع قاعدة المواطنة ذاتها أم يتواءم مع منطقة الصالح المجتمعي العام؟.
أسئلة مطروحة
هناك أيضا اختلافات قد تصل إلى أشياء قد يعتبرها البعض بدهية، مثل تعريف \"الداعية\" وتعريف \"العمل السياسي\" أو \"السياسي\"، وهو أمر لا يبدو من البساطة بمكان، خاصةً لدى أولئك المعنيين بربط قناعاتهم بنوعية المنابر الدعوية وتأثيراتها، وما هو العمل السياسي الذي يرى البعض مجافاته مع مقتضيات الدعوة وعمل الداعية؟.
وهل يكفي ما يطرحه البعض من انضباط الداعية في خطابه من فوق منبره الدعوي بالإطار العام، وألا يدعو لطروحاته الشخصية ومدرسته الفكرية والحركية؟ وهل بالإمكان تحقق ذلك فعلا؟
القضية برمتها وبكل تفريعاتها إشكالية مفتاحية بامتياز، تستحوذ على جدارة التعرض لها وطرحها، وجمع مختلف الرؤى والاجتهادات بشأنها