كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
جاءت مبادرة الدكتور سيد إمام "وثيقة ترشيد العمل الجهادي بمصر والعالم" بعد طول انتظار تحمل روحاً جديدة غير الروح التي حملتها مؤلفاته السابقة "العمدة في إعداد العدة" و"الجامع في طلب العلم الشريف"؛ إما فكراً مخالفاً لما سبق أو إبرازاً لمسائل لم تأخذ حظها من الوضوح في الكتب السابقة؛ لتفتح أبواباً ظلت مغلقة لسنوات عديدة أمام طوائف عديدة من المنتسبين لجماعات الجهاد المختلفة -بل في الحقيقة أمام العمل الإسلامي كله- وذلك نحو علاقة جديدة بين طوائف المجتمع، ونحو نظرة مختلفة لطبيعة العمل من أجل الإسلام، ونحو محاولة جادة لإزالة التشويه الذي علق بصورة الجهاد بل بمجرد كلمة الجهاد، تلك الكلمة الشريفة التي لم تزل تثير في نفوس أبناء أمة الإسلام أغلى معاني البذل والتضحية والشجاعة والإقدام والعزة والكرامة والصبر والاحتساب، وذلك كلما ذكرت في الكتاب والسنة. وجاءت هذه المبادرة لتعطي أملا جديداً لآلاف الشباب بل والشيوخ الذين قضوا سنوات طويلة من حياتهم إما بين جدران السجون وإما مطاردين في أرجاء الأرض لا يجدون مأوى في دول العالم. جاءت بروح جديدة تضبط ما سبق أن اختل، وتعدل ما سبق أن مال في ميزان العمل الجهادي:-
* فبدلاً من القول بأن أهم فروض الأعيان وأولى الأولويات في العمل الإسلامي هو إعداد العدة العسكرية لقتال الكفار المرتدين المسيطرين على بلاد المسلمين - كما ذكر كتاب العمدة-، جاءت الوثيقة بأن القتال ليس هو الوسيلة الوحيدة لتغيير الواقع غير الشرعي بل هناك خيارات أخرى كالدعوة إلى الله، والهجرة والعزلة والصفح والعفو والإعراض والصبر على الأذى وكتمان الإيمان. وقد كانت الرؤية السابقة هي التي تدفع الشباب إلى مسالك الصدام المدمر المؤدي إلى أنواع الضرر وهلاك النفوس والأموال وضياع الأمن من مجتمعات المسلمين. وأول من يتضرر بذلك هم هؤلاء الشباب وأسرهم وجميع أبناء الصحوة الإسلامية، بل المجتمع كله بلا شك.
* وبدلاً من القول بأن العجز المعتبر في سقوط واجب الجهاد هو العجز الحسي فقط، كالعرج والعمى والمرض فمن لم يكن كذلك فهو مضيع لواجب الجهاد العيني؛ جاءت الوثيقة بأن العجز المعنوي معتبر كذلك كانعدام دار الهجرة والنصرة كالمدينة، أو دار الأمن كالحبشة، أو القاعدة الآمنة كأبي بصير، والنفقة اللازمة للجهاد وتأمين ذراري المسلمين -نسائهم وعيالهم-، والتكافؤ في العدد والعدة بين طرفي الصدام، والفئة التي يمكن التحيز إليها، وتمييز الصفوف حتى لا يُـقتل المعصومون وتنتهك حرمتهم، فهذه كلها من معاني العجز. وقد كانت كل هذه المعاني مهجورة في الماضي يُـتهم من يقول بها بالجبن وتضييع الجهاد؛ فيندفع المئات بل الآلاف إلى صدامات غير محسوبة العاقبة، بل يغلب على الظن فشلها ومفسدتها، تُـسفك فيها الدماء المعصومة وتنتهك فيها حرمات المعصومين وأكثرهم من المسلمين. فالحمد لله على هذه النظرة السديدة لما يلزم المسلمين ولا أدري لماذا يعترض البعض على مثل هذا الكلام وهو الذي عضدته الأدلة، وأثبته الواقع المحسوس.
* وبدلا من إهمال قضية المصلحة والمفسدة، والموازنة بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد، وبدلا من غض النظر عن ما يؤول إليه الصدام المسلح؛ جاءت الوثيقة بلزوم اعتبار المصالح والمفاسد، ومراعاة أعظم المصلحتين ودفع أعظم الضررين، وأن مالا يؤدي إلى المقصود من الجهاد من إظهار الدين وتحكيم الشريعة وحفظ المسلمين ليس بجهاد شرعي، ولا يؤمر به بل يُنهى عنه لما فيه من الضرر والفساد وقتل المعصومين.
* وبدلا من التكفير بالعموم لطوائف بأكملها في بلاد المسلمين بمجرد ارتدائها زيا عسكرياً -والتكفير بالعموم هو تكفير للأعيان الداخلة في هذا العموم- وبدلاً من اعتبار أن هذا الزي العسكري والانتماء لهذه الأجهزة العسكرية أو الأمنية كافٍ في تمييز الصفوف بين المسلمين المجاهدين وأعدائهم، جاءت الوثيقة بوضع ضوابط للتكفير والتفريق بين النوع والعين -وكما سبق فهناك فرق كبير بين التكفير بالنوع والتكفير بالعموم الذي هو تكفير للأعيان جميعاً-.
* وجاءت الوثيقة بإبراز أن عذر التأويل والجهل المعتبر - دون الإسراف فيه- من موانع التكفير. وإن كنا نود أن نقرأ له تفصيلاً حول معنى الإسراف في العذر بالجهل، ومن هم الذين يقصدهم بالمسرفين في العذر بالجهل الذين هم عنده شر من قطاع الطرق وتجار المخدرات حتى لا تُفَرَّغ القضية من معناها.
* وكذلك نصت الوثيقة على عدم تمايز الصفوف بما يؤدي إلى قتل من لا يحل قتله من المعصومين والمسلمين.
* وجاءت الوثيقة كذلك باعتبار السياح القادمين إلى بلاد المسلمين مستأمنين لا يجوز سفك دمائهم ولا أخذ أموالهم أو تدميرها، بل ذلك غدر ونقض للعهد. ولطالما كانت هذه الحوادث من قتل السياح سبباً لمفاسد جمة على ساحة العمل الإسلامي بسبب هذا الغدر ونقض الأمان الذي أعطاه مسلمون لهؤلاء السياح حتى ولو كانت لهم منكرات لكن ليست عقوبتها القتل.
* وكذلك جاءت الوثيقة بأن من دخل بلاد الكفار بتأشيرة دخول فهو في عهد معهم، عليه أن يؤمِّـنهم كما أمَّـنوه؛ فلا يحل له سفك دمائهم ولا أخذ أموالهم ولا تدمير منشآتهم. وكم أدت مخالفة هذه الأحكام إلى مفاسد هائلة على المجتمعات والدول الإسلامية كلها، وعلى أبناء الصحوة الإسلامية في أرجاء العالم، فضلا عن هذه البلاد التي كانت تشهد تقدماً ملحوظاً في إقبال الناس على الإسلام.
* و جاءت الوثيقة كذلك لفتح الاحتمال الذي كان مغلقاً تماماً في كتاب "الجامع" بأن في ترك الحكم بما أنزل الله ما يمكن أن يكون كفراً أصغر أو معصية حيث يقول في الوثيقة: "وسواء كان ترك الحكم بما أنزل الله كفراً أكبر أو كفراً دون كفر أو معصية فإنا لا نرى أن الصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين باسم الجهاد هو الخيار المناسب". وهذه فائدة عزيزة تمنع من الاتهام بالإرجاء لعلماء أفاضل تكلموا في هذه المسألة وبينوا أن الحكم بغير ما أنزل الله يشمل القسمين، الكفر الأكبر - بما فيه تبديل الشريعة-، والأصغر -وهو مخالفة الشرع في التطبيق لرشوة أو هوى- كما بينه الشيخ محمد بن إبراهيم في فتواه المعروفة. وكان هؤلاء العلماء يعَدّون عند من يقرأ المؤلفات السابقة إما غلاة في الإرجاء أو من علماء السلطان الذين شربوا من ماله حتى الثمالة. ومما تجدر الإشارة إليه أنه حتى في حالة الكفر الأكبر فإنه لا يطبق الحكم على المعين إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع وهو معنى أشارت إليه الوثيقة في مواطن متعددة وأسندت تطبيقه إلى القضاء الشرعي لا إلى العوام.
فنود أن نقرأ في الطبعات الجديدة من هذه المؤلفات حذف هذه الأوصاف المؤلمة لعلمائنا الأجلاء كالشيخ الألباني والشيخ ابن باز والعثيمين رحمهم الله تعالى، وكذلك حذف وصف التكفير عن فصائل في الصحوة الإسلامية كـ"الجماعة الإسلامية" في مصر، و"الإخوان المسلمين"، و"جبهة الإنقاذ" في الجزائر تطبيقا لهذه القواعد التي بينها. ونود أن تـُفتح صفحة جديدة في الحوار بين أهل الإسلام عموما وأهل العلم خصوصا في أدب الحوار حتى مع الاختلاف، وحسن الظن بأهل العلم وحمل كلامهم على أحسن المحامل، وحتى لو ثبت الخطأ بل البدعة فلابد من إعمال قواعد التفرقة بين النوع والعين في مسائل التبديع والتفسيق أيضا، خاصة مع الاجتهاد في الوصول إلى الحق، ونكل السرائر إلى الله تعالى، وخصوصاً بعد اتساع دائرة الاتفاق إلى حدود عظيمة بفضل الله، فالقارئ لمراجعات "الجماعة الإسلامية" ممثلة في كتبها الأربع، ووثيقة د.فضل، ومقالات صوت الدعوة التي كانت تصدرها الدعوة السلفية في "فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، و"فقه الجهاد في سبيل الله"، و"مناهج التغيير" التي طبعت سنة1993م وما قبلها؛ يجد - بحمد الله- اتفاقاً كبيراً في الخطوط العريضة لسلوكيات الحركة الإسلامية، فعسى أن يكون ذلك سبباً لقطع داء الترامي بالتهم، وانتهاك الأعراض، والسباب والشتم.
وبعد هذه القراءة المختصرة لبعض ما جاء في الوثيقة نود أن نوجه نصيحة إلى الرافضين لهذه الوثيقة في الداخل والخارج أن يقرؤوها قراءة متأملة فلن يجدوا فيها ما يكرهون من تنازل عن العهد والمبادئ الإسلامية بل نزولا على مقتضى الأدلة من الكتاب والسنة. وألا تمنعهم حدة الدكتور سيد إمام على رفقاء الماضي في بعض المواطن من قبول ما قاله من الحق، ولعله رأى لنفسه من المكانة الأدبية لديهم ما يسمح له بذلك.
* وفي الجملة جاءت الوثيقة بروح جديدة حقاً، تفتح أبواباً لتغيير النظرة تجاه أبناء الحركات الجهادية بل وأبناء الصحوة الإسلامية عموماً. فهم ليسوا أعداء أمتهم ولا أنهم الإرهابيون الذين يخشى على أمن البلاد والعباد منهم، بل هم من أحرص الناس على مصلحة الأمة ومن أعظمهم رغبة في أمن المسلمين والمعصومين وحفظ دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ومن أعظم الناس نصيحة للأمة وسعياً في عزها وكرامتها، وهم بالالتزام بما حوته هذه الوثيقة وما سبقها من مراجعات وكتابات لطوائف أخرى من أبناء الصحوة تحمل نفس المضمون يضعون أنفسهم وإخوانهم على طريق جديد لإصلاح المجتمع والأمة وحفظ دينها وحرمتها، وإغلاق باب التحفز والتحيز ضد مظاهر الالتزام بالدين أو الاستعداء لكل من يظهر شيئا من علامات هذا الالتزام أو الاضطهاد والمطاردة بمجرد الانتماء لأي فصيل من فصائل الصحوة بتهمة التطرف والإرهاب.
وهذه الآفاق الجديدة التي نرجوها في علاقة سوية بين طوائف المجتمع والأمة من أعظم أسباب قوة البلاد وعزها وصلاحها، ومنع أعداء الإسلام من استغلال التفرق والتمزق في تحقيق أغراضهم من حصار الدين وكسر المتدينين والتسلط على بلاد المسلمين. نسأل الله تعالى أن يحفظ الأمة الإسلامية وينصرها على من عاداها وأن يعيد لها أمنها وعزها وكرامتها وأن يجعلنا من عباده الصالحين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه،وأن يجمع على الحق كلمتنا وأن يؤلف بين قلوبنا ويصلح ذات بيننا وأن ينصرنا على عدوه وعدونا إنه هو العزيز الحكيم.