حققت الصحافة الاقتصادية العربية قفزات لافتة وواعدة، في السنوات الأربع الماضية، وأخذت - ولا تزال - تؤسس لنفسها قاعدة في كل الآليات الإعلامية (المطبوعات بأنواعها، التلفزيون، الإذاعة، الإنترنت، وحتى الرسائل الهاتفية القصيرة المعروفة اختصارا SMS). واستفاد هذا النوع من الإعلام في السنوات الماضية، من حمى الأسهم، التي نالت من غالبية الشرائح في المجتمعات العربية - لاسيما الخليجية منها - فكانت المادة الإعلامية متوافرة بصورة واسعة في هذا النطاق، والأهم أن أعداد المتلقين كانت متوافرة إلى حد كبير. فالغالبية انغمست في "هذه التجارة"، وغالبية الغالبية - إن جاز التعبير - دخلت نطاق الاتجار في الأسهم ارتجاليا - وليس احترافيا- أملا بتحقيق أكبر أرباح ممكنة، بأسهل طريقة متاحة
ونحن هنا لن نناقش هذه القضية التي تحولت في بعض المناطق إلى مأساة. فقد حفلت - قضية الأسهم - في السابق بكثير من النقاشات المرتبطة بواقع أسواق المال، وطبيعة "الجيوش" التي دخلت وخرجت من هذه الأسواق، بسرعة البرق. إننا نطرح حال الصحافة الاقتصادية، ما بعد "حمى الأسهم"، ومستقبل هذه الصحافة في ظل الاحتياجات لها بالفعل على الأرض. ولعل السؤال الأبرز هنا هو: هل يطرح الإعلام الاقتصادي نفسه وفق رؤية مستدامة؟ أم أنه ينتظر موجة أو موجات أخرى من تلك المرتبطة بالأسهم - أو غيرها - لتحقيق مزيد من الحضور على الساحة الإعلامية؟. ولنطرح التساؤل بصورة أخرى. هل يستطيع الإعلام الاقتصادي الاستمرار واستقطاب مزيد من المريدين، وإثبات وجوده بالتركيز فقط على الأسواق المالية والاستثمار وتصريحات المسؤولين الاقتصاديين الحكوميين؟
أقول جازما: إن الجواب متاح، وهو: أن هذا الإعلام يستطيع الاستمرار - بلا شك - خصوصا مع وجود مؤسسات كبرى ومتوسطة تقف وراءه، لكنه سيظل قاصرا على شرائح ليست عريضة، ولا تشكل النسيج الكامل للمجتمع، لعل في مقدمتها، تلك التي استطاعت الاستمرار في أسواق المال، بعدما خرج الارتجاليون منها، وكذلك هناك شريحة المستثمرين في القطاعات الاقتصادية المختلفة. لكن أين الشرائح الشعبية التي تشكل الحجر الأساس للاستهلاك، الذي بدوره يشكل عماد الاقتصادات الوطنية؟ وأين هذه الشرائح التي يحسب لها ألف حساب في المجتمعات الأكثر نضوجا؟
ببساطة .. يمكن القول إنها متوارية - وإن حضرت فهي حاضرة بتواضع - في الإعلام الاقتصادي العربي. بل إن الغالبية العظمى من وسائل هذا الإعلام لا تضع ضمن خططها تطوير المادة التي تقدمها للمستهلك. وهذه الغالبية عادة ما تطرح قضايا المستهلك وفق المفهوم الحكومي، لا وفق حقائق السوق الملتصقة مباشرة بالمواطن العادي. ومع الاعتراف بأن الموقف الحكومي يؤثر مباشرة في هذا المستهلك - من خلال القرارات واللوائح والقيود - إلا أنه - أي الموقف الحكومي - يظل ضمن قوالب يصعب في كثير من الأحيان على المتلقي العادي - وليس الاقتصادي- فهمها
ماذا يعني - على سبيل المثال - ارتفاع أسعار الحبوب على مستوى العالم بالنسبة لمحدودي الدخل؟ وما انعكاسات ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية على ميزانية الأسرة؟ وكيف يؤثر تقاضي محال السوبر ماركت رسوما على الأكياس البلاستيكية التي تمنح عادة مجانا، على إنفاق الأسرة الأسبوعي؟ إلى أي مدى يمكن للأسرة الاستفادة من عمليات التدوير الخاصة بالحفاظ على البيئة؟ ماذا يعني ارتفاع أسعار الفائدة بالنسبة لساكني المنازل التي يملكونها عبر الرهن العقاري؟ كيف تتأثر المحفظة المالية المنزلية من تراجع قيمة صرف الدولار الأمريكي؟ كيف يمكن إدارة هذه المحفظة بصورة تمكن رب الأسرة من الاستمرار في توفير متطلبات منزله؟ وما انعكاسات التضخم - سواء المستورد أو المحلي - على القيام بالإجازة السنوية العادية لمحدودي الدخل؟ وإذا كنا نتحدث عن التضخم، هل يضرب في الصميم لفترة طويلة؟ أم أنه حالة استثنائية؟ ما فوائد تعويم العملة على الراتب الشهري؟
هذه نماذج قليلة جدا من أسئلة كثيرة توجه بصورة يومية من المستهلك في العالم العربي، إلى نفسه أولا، وإلى المحيطين به، بل إن هذه الأسئلة باتت تصبغ النقاشات الاجتماعية داخل الأسرة وخارجها. ومن هنا ينبغي للإعلام الاقتصادي العربي اغتنام الفرصة، ليس فقط لتوفير الأجوبة المسًيرة للأسئلة الاقتصادية الصعبة، بل لاستقطاب القاعدة الشعبية له. فأية وسيلة إعلامية لا بد أن تتفاخر بعدد المتوجهين إليها، وتجعل من هؤلاء عاملا مهما لإغراء المعلن - بكسر العين - للحصول على مزيد من الدخل المالي. فهي إذن.. بالتوجه إلى المستهلك تسدي لنفسها خدمة، وتكفل استمراريتها. وتستطيع - دون مبالغة - أن تتجمل بمادتها لتكون أكثر جاذبية للقارئ والمشاهد والمستمع ومتلقي الرسائل القصيرة عبر هاتفه النقال. فهي تقدم مادة - ليست ترفيهية - لكنها ضرورية ومطلوبة.
إذا وضعت هذه المعايير ضمن رؤية الإعلام الاقتصادي العربي، سأجد صعوبة كبيرة في الاتفاق مع من يقول: إن الناس لا يقبلون على الصحافة الاقتصادية بأنواعها، لأنها مملة أولا، ولكونها حكرا على نخبة معينة. فالمادة الرياضية والحوادث والفنون والسياسة وغيرها لن تتسيد المشهد الإعلامي، إذا ما عرف الصحافيون الاقتصاديون ومؤسساتهم كيف يستجلبون اهتمام القاعدة الشعبية العريضة للمادة التي يقدمونها. نحن نعلم أن المواد الصحافية الأخرى ستظل ضمن نطاق جاذبيتها، لكن الذي نعرفه أيضا أنه بالإمكان فعلا وضع الاقتصاد ضمن النطاق نفسه، إذا كان واضحا وسلسا ومرشدا للمستهلك. وقبل هذا وذاك إذا قدم بصورة مبسطة.
فلا يمكن الاستمتاع المطلق بمباراة رياضية حماسية، ولا بمسرحية كوميدية، ولا بفيلم مثير، ولا مسلسل آسر، من قبل شخص يفكر فيما إذا كان ما تبقى من مرتبه يكفي حتى نهاية الشهر؟!
الإقتصادية السعودية