أسهمت الثورتان الصناعية والتقنية في إحداث نمو مهم في المستويات المادية للمجتمعات الحديثة ولكنهما كانتا في الوقت ذاته مصدراً لأخطار داهمت البيئة المحيطة بالإنسان. لم يعد أحد يجادل اليوم في أن التصنيع المتسارع والاستغلال المفرط للتربة والاستهلاك السلعي المتنامي وتزايد السكان وتركزهم في المناطق الحضرية قد أضر بالبيئة ضررا جسيما. وإن تعذر حتى الآن تقدير هذا الضرر تقديرا كميا دقيقا. ولكن من أبرز الأضرار التي أصبحت واقعا ملموسا في أجزاء واسعة من العالم استنزاف الموارد الطبيعية، والتصحر، والأمطار الحمضية، وتجريف وتآكل التربة، واستنزاف الأوزون، ونفاد المياه الجوفية، وفقد أنواع من الكائنات الحية، والتغيرات المناخية الناجمة عن صعود مركزات ثاني أكسيد الكربون إلى طبقات الجو السفلى، فضلا عن انعكاسات ذلك كله على صحة الإنسان وسكينته. ولا شك في أن خطورة المشاكل البيئية تختلف من بلد لآخر لأنها تتوقف على عدة عوامل مثل الظروف الإيكولوجية والاقتصادية والاجتماعية والديموجرافية وعلى الأخص درجة التصنيع وأسلوبه.
الإخلال بموازين الطبيعة :
والواقع أن خطورة ما حدث في القرن الحالي ترجع إلى أن الاستغلال الكثيف للموارد الطبيعية قد أخل بقدرتها على التجدد التلقائي مما قاد- بالإضافة بلى التلوث الناجم عن الصناعات الحديثة- إلى خلل في الموازين الدقيقة للكرة الأرضية. وقد انعكس ذلك على الإنسان الذي أخذ تدريجيا يفقد جانبا من قدرته الواسعة على التكيف مع المتغيرات التي تحيط بحياته. فالحياة المعاصرة تعرضه الآن لمواقف لم يعرفها قط من قبل خلال تطوره. ولما كانت خواص الإنسان الوراثية لا يمكن أن تتعدل إلا قليلا وببطء شديد فإنه لن يتمكن في الأغلب من التكيف مع الآثار السامة لبعض الملوثات الصناعية أو مع المصاعب النفسية والعقلية التي تولدها بعض أنماط الحياة الحديثة.
ولقد كان من الصعب على الدولة في المجتمعات المعاصرة أن تظل ساكنة في ظل هذه المتغيرات خاصة. مع تزايد الوعي البيئي لدى جماعات واسعة من المواطنين. ولذا اعترفت الدول الصناعية منذ نهاية الستينيات بأن وضع سياسات جدية لحماية البيئة قد أضحى ضرورة حيوية. وأيقنت هذه الدول أن اهتمامها يجب أن يوجه نحو تحسين نوعية الحياة للمواطنين وليس فقط العمل على تشجيع النمو في إنتاج السلع والخدمات. وقد أثمرت هذه السياسات تحسينات بيئية عديدة فانخفضت إصدارات أكسيد الكبريت رغم نمو النشاط الاقتصادي !زيادة استهلاك الطاقة، وانخفض تلوث العديد من الأنهار والبحيرات، وتحسنت نوعية الهواء لا سيما في المدن الكبرى كطوكيو ولندن وباريس.
تساؤلات معلقة :
ورغم أن مشكلة البيئة بحسب تعريفها مشكلة اقتصادية، لأن التلوث يعتبر في جوهره نتيجة مباشرة للنشاط الاقتصادي، كما ترتب طرق معالجته آثارا مهمة على الأنشطة الاقتصادية، فإن الأسس الاقتصادية التي تقوم عليها سياسات حماية البيئة لاتزال هشة وغير متناسقة، ويبقى على الباحثين أن يقدموا إجابات أكثر دقة عن العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها ضمن الإطار الواسع لمسألة تخصيص الموارد في علم الاقتصاد ومن بينها: ما هي مظاهر الأذى البيئي؟ ومن هم المسئولون عنه ومن هم ضحاياه؟، وكيف يتم القضاء على هذا الأذى أو إلى أي مستوى يمكن تخفيضه آخذين في الاعتبار نفقة الإجراءات المصححة وتفضيلات الأطراف المتصلة به؟ وما هي انعكاسات سياسة حماية البيئة على الإنتاج والاستثمار والعمالة وتوزيع الدخول وميزان المدفوعات؟.
وتنقسم مواقف الباحثين بشأن أدوات السياسة البيئية إلى ثلاثة أقسام رئيسية: القسم الأول: يرى أن آليات السوق تستطيع بعد تطوير بسيط أن تحول دون تفاقم المشاكل البيئية وأن تحافظ على كفاءة الاقتصاد ومرونته، بينما يرى القسم الثاني أن أفضل استراتيجية لحماية البيئة وتحسينها هي استراتيجية التنظيم المباشر التي تتمثل في قيام الدولة بفرض قوانين ولوائح تحدد معايير إلزامية يجب ألا تتعداها إصدارات التلوث أو الأذى البيئي، وأخيرا يوجد بصورة متزايدة المدافعون عن الخيار الضريبي الذين يعتقدون أن فرض الضرائب على التلوث ومظاهر الأذى البيئي الأخرى كفيل بأن يدفع الأفراد والمنشآت الملوثة والمجتمع كله لأن يدركوا أن للضرر البيئي ثمنا؛ وأن يدخلوا هذا الثمن في حساباتهم وخططهم الإنتاجية والاستهلاكية، وبالتالي تحفزهم الضريبة إلى تخفيض الأضرار البيئية لأدنى حد ممكن.
غير أنه ينبغي أن نلاحظ منذ البداية أن الاقتصاديين على اختلاف مواقفهم لا يتناولون المشاكل التي تهدد البيئة بهدف استئصالها أو منعها تماما؛ ولكن بغرض التوصل إلى "الحجم الأمثل" من الأذى البيئي الذي يمكن قبوله في ضوء حساب النفقات- المنافع لسياسة حماية البيئة ، وهو ما قد يبدو متناقضا مع طموحات الباحثين في العلوم الطبيعية ومخيبا لآمال أنصار حماية البيئة .
أعباء الناتج غير المرغوب فيه :
ويعترف الاقتصاديون على اختلاف مشاربهم بأن النظام الإنتاجي في أشكاله المعاصرة يتسبب في آثار متعدية غير مرغوب فيها بالنسبة للبيئة التي يحيا فيها الإنسان. ومن أكثر تلك الآثار انتشارا تلويث المصانع للهواء والماء وإلقاء المخلفات في الطبيعة وتشويه المناظر الطبيعية. ومن الواضح أن هذه الآثار هي في جوهرها عبارة عن ناتج ثانوي للعملية الإنتاجية متميز عن المنتج التسويقي النهائي الذي تستهدفه الوحدات الإنتاجية. فهو ناتج لا ترغبه هذه الوحدات ولا يمكنها تسويقه.
ويطلق على هذه الآثار المتعدية أو الجانبية في الأدب الاقتصادي الحديث تعبير النفقات الخارجية External Costs . وبشكل أعم فإن كل ظاهرة تمس رفاه المواطنين ولا يمكن ترجمتها فى شكل تبادل نقدي سوقي يطلق عليها اليوم "نفقة خارجية" أو "أثر خارجي". فالواقع أن هذه الظواهر لا تدخل تلقائيا في المجال الاقتصادي بسبب "خارجيتها" أو "غربتها" عن نظام السوق. ولهذا فإنها بقيت حتى عهد قريب مهملة تماما من جانب الاقتصاديين. والملاحظ أن النفقات الخارجية لا تدخل في حسابات الوحدات المسببة لها لأن هذه الحسابات تهمل بطبيعتها حصر الظواهر غير النقدية رغم أنه قد يترتب عليها أضرار جسيمة تمس أشخاصا أو منشآت أخرى أو البيئة بوجه عام. فالنفقات الخارجية لا تتحملها الوحدات الإنتاجية ولكنها تؤذي المجتمع كله أو مجموعات كبيرة من السكان. فهذه النفقات تظل خارجية مادامت فاقدة التأثير على المستويات النسبية للأثمان في ظل نظام السوق، لأن هذا النظام ليس مهيئا بطبيعة نشأته وتكوينه لاستيعابها. فالتلوث البيئي يعد أثرا خارجيا سلبيا لأن الأضرار التي تنتج عنه لا تدخل في حسابات السوق حيث لا يوجد إلى جانب بند "الأجور" أو بند "المواد الأولية بند محاسبي آخر عنوانه "الأضرار الناجمة عن التلوث"أو "تعويضات عن الأضرار الناجمة عن التلوث".
ويرجع إهمال دراسة الآثار الاقتصادية المترتبة على النفقات الخارجية إلى أن التحليل الاقتصادي التقليدي قد اقتصر منذ آدم سميث على تناول الظواهر المتعلقة بالسوق حيث تتم مقايضة السلع والخدمات مقابل النقود، وأهمل ما عدا ذلك من ظواهر اقتصادية. فلقد فرق آدم سميث منذ القرن الثامن عشر بين قيمة الاستعمال Use value وقيمة التبادل Exchange value . فالماس عظيم القيمة عند التبادل قليلها في الاستعمال. في حين أن الهواء عديم القيمة عند التبادل ولكن لا غنى عنه للحياة الإنسانية. ويترتب على ذلك أن الأثمان تتحدد في نظام السوق كمحصلة لتفاعل مجموعة من العوامل منها كمية المعروض من السلع والخدمات وكمية النقود المتداولة في المجتمع ومرونة الطلب وطبيعة علاقات القوى بين المنتجين والمستهلكين وفيما بين المنتجين. وتمثل الأثمان القيمة الاقتصادية Economic value للسلع والخدمات ومن ثم فإنها تشكل المحور الآساسي والمؤشر الرئيسي للقيمة في مجمل النشاط الاقتصادي.
الندرة أساس القيمة :
وحيث إن الإشكالية الأساسية للاقتصاد هي معالجة الصراع الدائم بين الحاجات غير المحدودة للبشر والموارد المحدودة للطبيعة، فإن الأثمان تشكل التعبير المميز عن الندرة النسبية للموارد. فما هو نادر يكون غاليا، لأن ارتفاع الثمن مؤشر على الندرة. ويتضح من ثم أن قياس القيمة من خلال زاوية قيمة التبادل وحدها لا يحقق بالضرورة إضفاء القيمة على كل ما هو نافع ومفيد، ولكنه يكفل ذلك فقط لكل ما له ثمن في نظام قائم على النقود. ويقود المفهوم السابق إلى التأثير على سلوك المستهلكين حيث يزيد استهلاك الموارد ذات الثمن الخفيض ويقل استخدام الموارد ذات الثمن المرتفع. أما الموارد المجانية فإن استخدامها يكون غير مقيد، مما يدعو للإسراف الشديد في استهلاكها. فتعبير "مجاني" في الاقتصاد يعني بدون قيمة، بالرغم من أن المنفعة المترتبة على هذا المورد قد تكون عظيمة للغاية.
وقد نتج عن الفهم السابق لفكرة القيمة أن اعتبرت الموارد الطبيعية خاصة الهواء والماء سلعا مجانية يمكن لكل من شاء الإسراف في استخدامها وتلويثها. فالأهمية الجوهرية للموارد البيئية كقيمة استعمال لم تكن كافية لجذب اهتمام الاقتصاديين الذين انصرفوا - في إطار النظام الاقتصادي القائم على المقايضة- لدراسة السلع ذات القيمة في مجال التبادل وحده. ومن المآخذ الأخرى على علم الاقتصاد المعاصر قصره الاهتمام على ظاهرتي الإنتاج والاستهلاك دون ظاهرة المخلفات. فالسلع تنتج ثم تستهلك، ولم يستشعر أحد أهمية التساؤل عن مصير السلع المستهلكة . لقد أثبت أيريس وكنيس . A .Kneese R Ayres أن سبب فشل النظرية الاقتصادية في تقدير الأهمية الحقيقية للآثار الخارجية يعود بالدرجة الأولى إلى النظر لعمليتي الإنتاج والاستهلاك بصورة مختلفة عن القانون الأساسي لحفظ الكتل. فمن الأخطاء الشائعة القول بإمكان تحويل كل المدخلات Inputs إلى مخرجات Outpost بدون بقايا مادية غير مرغوب فيها، وإن جميع المخرجات تفنى كلية في عملية الاستهلاك.
فالحقيقة أن الطبيعة لا تسمح بتدمير المادة فيما عدا إفناءها بواسطة مادة مضادة، وأن طرق التخلص من المخلفات غير المرغوب فيها تتجه أساسا إلى البيئة وبصفة خاصة مجاري المياه والطبقات السفلى للهواء. وإذا سلمنا بأن المادة بحسب الأصل لا تفنى فإن أي اقتصاد سوف يتعين عليه على الأرجح أن يحتفظ بكمية المادة نفسها التي شكلت فيما سبق العناصر الداخلة في الإنتاج. فإذا كان هذا الاقتصاد مغلقا حيث لا تصدير ولا استيراد، وإذا كان لا يوجد تراكم صاف في المخزون (المصانع، التجهيزات، المخترعات، السلع الاستهلاكية المعمرة، المباني) فإن كمية المخلفات المبثوثة في البيئة الطبيعية يجب أن تعادل تقريبا وزن ما دخل النظام الإنتاجي من وقود ومواد غذائية ومواد أولية مضافا إليها الأكسجين المأخوذ من الجو.
فالمدخلات لا تتحول كلية إلى سلع نهائية ولكن يتبقى جزء منها في شكل مخلفات ناتجة عن عملية الإنتاج. وكذلك تنضم السلع النهائية في مرحلة لاحقة إلى تيار المخلفات. فالسلع الاقتصادية لا تستهلك بالمعنى المادي للكلمة ولا تختفي بالاستعمال، بل يظل جوهرها المادي موجودا ويتعين إما إعادة استخدامه وإما التخلص منه في البيئة المحيطة. فمن الناحية الواقعية تكون السلع التي "استهلكت" قد قدمت فقط بعض الخدمات دون أن تفنى نهائيا. فمالك السيارة على سبيل المثال لا يستهلكها بالمعنى المادي للكلمة، ولكنه فقط يستغل خدماتها كوسيله للنقل، حيث إن الهيكل المادي للسيارة يبقى على حاله بعد انتهاء فترة منفعتها. وتظل هذه الحقيقة قائمة كذلك في حالة السلع التي تتحول- بعد فترة الاستعمال - من المادة الصلبة إلى سوائل أو غازات. فجميع صور مخلفات السلع المادية تسبب مشكلات ضخمة للاقتصادات المعاصرة. فمع زيادة مستويات إنتاج السلع المادية في هذه الاقتصادات فإنه يكون هناك- وفقا لقانون حفظ المواد- زيادة مماثلة في المخلفات التي تصرف أو تبث في الوسط البيئي المتلقي. وحيث إن هذه الزيادات في الإنتاج- وبالتالي في المخلفات- تصطدم بالطاقة الامتصاصية المحدودة للبيئة فإن المجتمعات الصناعية خاصة سوف تبدأ في تحمل نفقات مهمة خارجية ناجمة عن التلوث البيئي. وتعد هذه النفقات "خارجية" لأن المنشآت والأفراد الذين يستغلون (يستعملون) الطاقات الامتصاصية للبيئة في مرحلة الإنتاج أو في مرحلة الاستهلاك لا يتحملون عبء هذا الاستغلال. فمادام الماء والهواء يعدان المثالين الشائعين للسلع المجانية في النظرية الاقتصادية فإن المنشآت والأفراد سوف يستخدمون سلعا نادرة (الموارد والطاقات الطبيعية) بثمن يعادل صفرا مما يضر بقية المجتمع.
وهكذا تنتهي نظرية توازن المواد إلى أن الواقع الاقتصادي لا يقتصر على التقسيم الثنائي البسيط: الإنتاج- الاستهلاك، ولكنه يندرج في منظومة أكثر تعقيدا تربط بين الإنتاج والاستهلاك والمخلفات. فمن الأهمية بمكان أن نلاحظ أننا لا ننشئ شيئا من العدم ولكن فقط نحول الموارد المادية والطبيعية إلى سلع اقتصادية ومخلفات في وقت واحد. ولا يعد الاستهلاك إفناء للسلع بل تحويلا لها إلى بواق وفضلات وتلوث.
المفيد على حساب الجميل :
وجدير بالملاحظة أن الخسائر التي يسببها النظام الإنتاجي للبيئة التي يحيا فيها الإنسان تكون في أحيان كثيرة معنوية ولكنها مستحيلة التعويض. فضلا عن التدمير الذي قد يصيب بعض الأنظمة البيئية وزوال بعض الكائنات، فإن مجرد الانسياق تحت ضغط حوافز الإنتاج في نظام السوق قد يقود إلى التقليل المستمر من مدى البهجة والسكينة التي يشعر بها الإنسان في علاقته مع الطبيعة. فاستخراج الموارد الطبيعية من باطن الأرض قد يفيد اقتصاديا الأفراد أو المنشآت أو الدولة، ولكنه سوف يقلل بالتأكيد من البهجة التي تحصل عليها الأجيال المتعاقبة من روية المناظر الطبيعية الخلابة في حالتها الفطرية، وقد تكون بعض تلك المناظر غير قابلة للتكرار. فإقامة السد العالي في أسوان مفيد اقتصاديا من وجهه عديدة، ولكن كيف نعوض البهجة التي فقدها الإنسان بسبب غمر جزيرة فيلة النيلية وانتقال معبدها إلى موقع آخر غريب عن البيئة الأصلية التي أقام فيها الإنسان المصري القديم صرحه المعماري وأجرى فيها طقوسه الدينية ونزف فيها عرقه ودمه وتجلت فيها عبقريته؟ فالإبداع والتاريخ يتوحدان مع المكان ولا ينفصمان عن البيئة .
ويعود أول تحليل اقتصادي للتلوث كظاهرة خارجية إلى Pigou بيجو الذي طرح على الفكر الاقتصادي للمرة الأولى مسألة التفرقة بين النفقة الخاصة Private cost والنفقة الاجتماعية Social cost وإن لم يستخدم هو نفسه هذين التعبيرين الحديثين. فالواقع أن كل نشاط اقتصادي يرتب نفقة اجتماعية. ويتم تغطية جزء من هذه النفقة بواسطة المتسبب فيها فتصبح نفقة خاصة لهذا الشخص (أو المشروع) بينما يتبقى جزء آخر من هذه النفقة بدون تغطية أو تعويض. فتنشأ من ثم فجوة بين النفقة الاجتماعية الكلية ومجموع النفقات الخاصة.
ولنعط مثالا على ذلك مشروعا لإنتاج الأسمدة أو الكيماويات. فمثل هذا المشروع يستخدم مواد أولية وخدمات تشكل نفقات Costs على المشروع يتم تعويضها عن طريق بيع المنتج النهائي والحصول على ثمنه. وهكذا فإن هذا المشروع يتحمل- وفقا لآليات نظام السوق- عبء النفقات المرتبطة بنشاطه حيث لا يتصور امتناعه عن دفع أثمان المواد الأولية التي يستخدمها أو أجور العاملين لديه. غير أن هذا المشروع يتسبب في نفقات اجتماعية أخرى لا يتحمل عبئها ولا يعوض عنها مثل تلويث المياه والهواء وما ينتج عنه من أضرار تصيب الإنسان والكائنات الحية الأخرى.
ويمكن القول من ثم إن مشروع إنتاج الأسمدة يتحمل نفقة المواد والخدمات التي يستخدمها فيما عدا تلك التي تتصل بالبيئة لأنه يستخدم مجانا في العملية الإنتاجية مياه النهر والهواء الخارجي ولا يكتفي بذلك بل يلوثهما أيضا وبدون تعويض. ولذلك فإن النفقة الاجتماعية الكلية لإنتاج الأسمدة تكون أعلى من النفقة الاجتماعية التي تم التعويض عنها، وتبرز بالتالي فجوة بين النفقة الاجتماعية والنفقة الخاصة للمشروع تعادل نفقة الخسائر الناجمة عن التلوث. فمنشأ هذه الفجوة يرجع بوضوح إلى أن بعض الموارد يتم تبادله في السوق وتدرج في الحسابات الخاصة والقومية، والبعض الآخر لا تتبادل ويتم تجاهله تماما في نظام السوق.
وهكذا نصل إلى أن النفقات الخارجية تعكس في جوهرها نزاعا بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة. فسعي الأشخاص الخاص لتضخيم أرباحهم قد يتعارض مع الصالح العام. أو بتعبير آخر، فإن تضخيم الأرباح الخاصة لا يتوافق بالضرورة مع الرفاه الاجتماعي الأقصى.
ومن ثم ينتهي الفكر المعاصر في مجمله إلى قناعة مؤداها عدم كفاية السوق في صورته التقليدية لتحقيق الرفاه الاجتماعي الأقصى، ذلك أن إهمال مسألة الآثار الخارجية الناتجة عن- الصناعات الملوثة يؤدي- عن طريق اليد الخفية للحوافز الربحية- إلى تلوث ظاهر وتحميل البلاد بأعباء اجتماعية مهمة. وتتحقق تلك النتيجة حتى مع افتراض سيادة نظام مثالي للسوق الخاصة، فلا يمكن كما رأينا الوصول للرفاه الاجتماعي الأقصى أو للوضع الجماعي الأمثل دون أخذ الآثار الخارجية في الاعتبار وإعادة تضمينها الحساب الاقتصادي. ولتحقيق ذلك ينادي بعض الاقتصاديين - كما أشرنا- بالأخذ بنظام جديد للضرائب البيئية بينما يكتفي البعض الآخر بالمناداة بتطوير نظام السوق لاستيعاب الآثار الخارجية، ويطالب فريق ثالث. بدعم التنظيم القانوني واللائحي للحماية البيئية.