الماء المتنجس:
هو نوعان عند الفقهاء:
(الأول): ما كان طهوراً في الأصل وحلّت فيه نجاسات أو لا قته فغيرت أحد أوصافه الثلاثة (اللون والطعم والرائحة) قليلاً كان أو كثيراً.
إن تغير أحد الأوصاف دليل حسِّي على كثرة التلوث من الناحية الصحية.
(الثاني) : ما كان طهوراً في الأصل قليلاً وحلت به نجاسات لم تغير أحد أوصافه . وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
أما المالكية فقد قالوا : إن القليل من الماء الطهور، إذا حلت فيه نجاسة لم تغير أحد أوصافه، باق على طهوريته، إلا أنه يكره استعماله إن وجد غيره مراعاة للخلاف[21].
يؤيد الدليل الشرعي والاعتبار الصحي المذاهب الثلاثة فيما ذهبت إليه من أن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة ولو لم تتغير أحد أوصافه.
أما الدليل الشرعي فهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن إدخال المستيقظ يده في الإناء قبل أن يغسلها، وعن الاغتسال في الماء الواقف الدائم، وعن التبول في الماء الدائم، وعن الوضوء والغسل من ذلك الماء الذي بال فيه. وقد مرت معنا أحاديث ذلك النهي، وسيأتي حديث القلّتين مؤيداً الاستنباط منها بان الماء القليل ينجس بالنجاسة القليلة . وذلك حكم يؤيده أيضاً الذوق السليم والمنطق الصحيح وفن الصحة القديم والحديث.
ولقد أوضحت في طبيعة البحث فعل المياه الملوثة في نقل الجراثيم والطفيليات وأمراضها. وأشير هنا إلى أن العدوى وشدتها لهما علاقة بكثرة الجراثيم الواردة . فالماء القليل أسرع تلوثاً، وإن تلوث يصبح أكثر نقلاً للأمراض.
لذلك كله يجب أن يؤول حديث بئر بضاعة من " أن الماء لا ينجس شيء" بما يتلاءم مع أحاديث النهي السابق وحديث القلتين، لا أن نؤولها كلها من أجل الأخذ بظاهر حديث بئر بضاعة. وفي تأويل بئر بضاعة كلام طويل للإمام النووي في كتابه المجموع، فمن أحب فليرجع إليه.
اختلفت الحنفية والشافعية والحنابلة في الحد بين الماء القليل والماء الكثير.
أخذ الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل بحديث القلتين الذي صح عندهما وعند الكثيرين من أئمة الحديث، والذي يفيد أن الماء الذي هو دون قلتين يتنجس بحلول النجاسة فيه ويحمل الخبث دن نظر إلى تغيير أوصافه.
ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع ؟ فقال : إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث "[22].
قال الترمذي بعد ذكره حديث القلتين : وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا : إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء ما لم يتغير ريحه أو طعمه، وقالوا : يكون نحواً من خمس قريب.
وقال الخطابي في معالم السنن: ورد من غير طريق أبي داود " إذا كان الماء قلتين بقلال هَجَر.."[23] وهي أكبر ما يكون من القلال وأشهرها. وقد قدر العلماء القلتين بخمس قرب ومنهم من قدرها بخمسمائة رطل.
وقال الإمام ابن الأثير الجزري في جامع الأصول : القلة إناء للعرب كالجرة الكبيرة أو الحب وهي معروفة بالحجاز وهجر، تسع القلة مزادة من الماء، وقد قدرها الفقهاء مئتين وخمسين رطلاً إلى ثلاثمائة .
وفي كتاب نيل المآرب (في المذهب الحنبيلي) تقدر القلتان بخمسائمة رطل عراقي أو بمئة وسبعة أرطال دمشقية.
وفي الفقه على المذاهب الأربعة، تقدر القلتان وزناً بالرطل المصري بأربعمائة وستة وأربعين رطلاً وثلاثة أسباع الرطل.
أقوال : مما لا شك أن الرطل الشامي كان يختلف عن الرطل العراقي والبغدادي والرطل المصري، وأن القلال الهجرية ليست متساوي تماماً، وإنما هي متقاربة في السعة. وعليه فإن تحديد سعة القلة من الماء إنما هو تقريبي ولذلك جرى اختلاف يسير بين العلماء في تقدير سعة أو وزن القلتين .
إن صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز عيون السود: أمين الفتوى في حمص قدر القلتين في رسالة له بـ 162 كيلو غراماً[24].
وتقدر القلتان حجماً في إناء أو مكان مربع بسعة مكعب طول كل ضلع منه ذراع وربع ذراع، بذراع الآدمي المتوسط . ومقدارها في مكان مستدير سعة أسطوانة : قطر كل من قاعدتيها ذراع، وارتفاعها ذراعان ونصف ذراع[25].
ب ـ أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه لم يثبت عنده حديث القلتين . وبما أن كثيراً من الأحاديث الشريفة تشير إلى أن الماء القليل ينجس بقليل النجاسة فلا بد من تعيين حد تقريبي بين الماء القليل والماء الكثير فعينه من جهة القياس وذلك إنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر[26].
وعبر عن ذلك فقهاء الحنفية بقولهم : كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، وقولهم : كل ما لا يتحرك أحد طرفيه، بتحرك الطرف الآخر لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم تغير أحد أوصافه.
وامتحن الفقهاء بعدئذ الخلوص بالمساحة فوجدوه عشراً في عشر فقدروه بذلك تيسيراً . والمختار في العمق ما لا ينحسر أسفله بالغرف[27]. وعلى هذا فكل ماء لا ينحسر أسفله بالغرف، وكانت سطحه مئة ذراع مربع بالذراع المتوسط فهو ماء كثير عند الحنفية.
هذا وأعيد ما نبهت علهي في بحث الماء الشريب بأن الحكم بطهورية الماء أو بطهارته أو بعدم تنجسه لا يعني أنه صالح للشرب من الوجهتين الدينية والصحية . فإذا ثبت صحياً أن الماء ملوث ينقل الأمراض فإنه يجب التقيد بالتعاليم الصحية المتعلقة به. وإذا أضطر إليه فيجب إصلاحه كما مر أما الحكم الشرعي بعدم تنجسه فإنما هو تيسير من الدين ودفع للحرج في استعمال ذلك الماء في المقاصد الأخرى غير الشرب، ولأن الغالب في الماء الكثير الملوث والذي لم يتغير أحد أوصافه أن يكون تلوثه زهيداً أو أن لا يؤثر سوءً إذا استعمل لغرض غير الشرب، على أنه إذا علم المسلم أن ذلك الماء يؤدي إلى مرض أو ضر ولو استعمل للنظافة وغير الشرب وجب عليه تجنبه ابتعاداً عن إلقاء النفس إلى التهلكة وحرصاً على ما ينفع وذلك من الدين .
سؤر الحيوان :
السؤر هو فضلة الماء القليل الذي شُرب منه.
اتفق الأئمة الأربعة على طهارة أسآر بهيمة الأنعام، واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافاً كبيراً. والمسألة في كثير مما اختلفوا فيه اجتهادية محضة، يعسر أن يوجد فيها ترجيح جازم كما قال صاحب بداية المجتهد.
1. ذهب الحنفية إلى أن سؤر كل حيوان مأكول اللحم طاهر، وأن سؤر سباع البهائم نجسن، وأن سؤر الهرة والدجاجة المخلاّة وسباع الطير وسواكن البيوت مكروه، وأن سؤر الحمار والبغل مشكوك بطهارته لا يجوز الوضوء به [28].
2. وذهب الشافعية إلى أن كل حيوان طاهر السؤر ما عدا الخنزير والكلب[29].
3. وذهب الحنابلة إلى أن سؤر كل حيوان طاهر في الحياة طاهر ولو لم يؤكل لحمه كالهرة، والفأرة. وكل حيوان مأكول كالغنم والماعز والخيل والبقر والإبل وبعض الطيور، فسؤره وبوله وروثه ومنيه ولبنه طاهر إن كان أكثر علفه الطاهر، وإن كان أكثر علفه النجاسة فلحمه وجميع ما ذكر نجس حتى يحبس ويطعم الطاهرات ثلاثة أيام، عندها يعود لطهارته[30].
4. وعن الإمام مالك روايتان، إحداهما : أن كل حيوان طاهر السؤر، وثانيهما : تستثنى الخنزير فقط [31]
أما من الوجهة الصحية فإن الطب وفن الصحة يدعمان بقوة الحكم بنجاسة سؤر الكلب والخنزير. أما بقية الأسآر التي فيها حكم بالنجاسة أو الكراهة في أحد المذاهب فلا تعدم ملحظاً صحياً أقل ما يقال فيه: إنها لا تصلح للشرب لعدم ملحظاً صحياً أقل ما يقال فيه : إنها لا تصلح للشرب لعدم التأكد من تجافي فمها الأقذار والنجاسات ومن خلو لعابها من الجراثيم . وقد فرق سابقاً بين الماء الشريب فليذكر ذلك .
نجاسة سؤر السباع:
سأبين قريباً أن الكلاب هي السبب الغالب في إصابة الإنسان وحيواناته المجترة بداء الكيسة المائية، وأن الذئاب وبنات آوى من السباع يمكن أيضاً أن تكون سبب هذا الداء في الإنسان والحيوانات اللبونة الأخرى .
وبما أن السباع تأكل الجيف أيضاً، فإن فمها يتلوث من جراثيم تلك الجيف كما يتلوث من تنظيف استها بلسانها. وعلى ذلك فإن حديث القلتين السابق والنظرة الطبية يؤيد أن نجاسة سؤر السباع كما هو مذهب ابن القاسم والإمام أبي حنيفة. قال الإمام ابن الأثير الجزري في كتابه جامع الأصول في أحاديث الرسول بعد ذكره حديث القلتين: قال الخطابي [32] : وقد استدل بهذا الحديث من يرى سؤر السباع نجساً لقوله وما ينوبه من السباع، أي يطرقه ويرده، إذ لولا أن شرب السباع منه ينجسه لما كان لسؤالهم عنه ولا لجوابه صلى الله عليه وسلم إياهم بتقدير القلتين معنى . أ هـ .
وروى مالك في موطئه : " أن عمر وعمرو بن العاص وردا حوضاً، فقال عمرو بن العاص : يا صاحب الحوض أترد السباع ماءك هذا ؟ فقال عمر : يا صاحب الحوض لا تخبرنا " . فولا أنه كان إذا أخبر بورود السباع يتعذر عليهما استعماله لما نهاه عن ذلك[33].
وتأويل الأحاديث التي تفيد طهارة سؤر السباع أنه كان في الابتداء قبل تحريم لحوم السباع، أو وقع السؤال في الحياض الكبار[34].
نجاسة سؤر الخنزير:
الخنزير حيوان قذر شره يلتهم الأقذار والنجاسة أيضاً. يقول تعالى في حقه : " .. أو لحم خنزير فإنه رجس.. " [35] وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه. ويزداد فمه ولعابه نجاسة بالتهام الأقذار والنجاسات، فسؤره كسؤر الكلب أحق بحكم النجاسة من الأسآر الأخرى .
وسأفصل إن شاء الله تعالى في بحث المطعومات المحرمة ما ينقله الخنزير من أمراض.
نجاسة سؤر الكلب :
إن الأدلة الشرعية والنظرية الطبية الصحية تدل بقوة على نجاسة سؤر الكلب والتشديد في تطهير ما يلغ فيه الكلب.
أ- الدليل الشرعي:
روى الإمام مسلم في صحيحه في باب حكم ولوغ الكلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات [36] " ثم روى عنه بلفظ " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب [37] " ثم روى عن ابن المغفل مرفوعاً بلفظ " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفّروه الثامنة في التراب " .
روى الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً : " يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات، أولاهن أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة [38] " .
قال الإمام النووي [39] : وقد روى البيهقي وغيره هذه الروايات كلها، وفيها دليل على أن التقيد بـ " الأولى" وغيرها ليس على الاشتراط بل المراد إحداهن . وأما رواية " وعفروه الثامنة بالتراب" فمذهبنا ومذهب الجماهير أن المراد اغسلوه سبعاً، واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكأن التراب قائم غسله فسميت ثامنة لهذا أ. هـ .
قال في المهذب : " فإذا ولغ الكلب في إناء أو أدخل عضواً منه فيه وهو رطب لم يطهر الإناء حتى يغسل سبع مرات إحداهن بالتربة، والأفضل أن يجعل التراب في غير السابعة ليرد عليه ما ينظفه وفي أيهما جعل جاز لعموم الخبر.
وقال الإمام النووي في شرحه : وقد اختلف العلماء في ولوغ الكلب، فمذهبنا أن ينجس ما ولغ فيه، ويجب غسل إنائه سبع مرات إحداهن بالتراب، وبهذا قال أكثر العلماء . حكى ابن المنذر وجوب الغسل سبعاً عن أبي هريرة ابن عباس وعروة بن الزبير وطاوس وعمرو بن دينار ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيدة وأبي ثور . قال ابن المنذر : وبه أقول .
وقال النووي أيضاً: يستحب جعل التراب في الأولى فإن لم يفعل ففي غير السابعة أولى فأن جعله في السابعة جاز . أ . هـ .
إن وجوب غسل ما ولغ فيه الكلب سبع مرات هو مذهب الشافعية كما وضحه الإمام النووي .
أما الحنفية فقد أوجبوا غسله ثلاث مرات لأنه فعل الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه الذي رويت عنه أيضاً أحاديث(سبع مرات) . وجعلوا إبلاغ الغسل سبعاً مندوباً للروايات الأخرى .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه : " أنه كان إذا ولغ الكلب في الإناء اهراقه ثم غسله ثلاث مرات [40] " فتعارض عمله مع حديث السبع، وهناك دلالة على تقدم حديث السبع للعلم بما كان من التشديد في أمر الكلاب أو الأمر حتى أمر بقتلها فيتبعه حكم ما كان معه وفي عمل أبي هريرة على خلاف كمية ما روى دلالة ظاهرة على نسخ الغسل سبع مرات، لأنه تركه العمل به بمنزلة روايته للناسخ[41].
ب- المقصد الصحي :
تعيش في أمعاء الكلاب والذئاب وبنات آوى ديدان تعرف باسم (الشريطية المكورة المشوكة ) فيكون برازها مفعماً ببعوض هذه الديدان .
وقد يتلوث فمها بتلك البيوض من برازها، لأنها تنظف شرجها بلسانها.
وقد يتلوث فمها بتلك البيوض من برازها، لأنها تنظف شرجها بلسانها.
فإذا تلوث طعام الإنسان أو ماء شربه ببراز أو فم تلك الكلاب أصبحا خطراً عليه إذا تناولهما، لأن قشرة تلك البيوض تهضم ويخرج منها الجنين المسدس الشصوص فيخترق جدار المعدة أو الأمعاء، ويسلك أحد طريقين الطريق الدموي أو الطريق اللنفاوي أو الاثنين معاً. وفي أي عضو يستقر هذا الجنين يأخذ بالنمو رويداً حتى يشكل الكيس المائي(أو الكيس الكلبي ) الذي يصبح خطراً على العضو المؤوف به أو على حياة الإنسان.
قد يصاب الإنسان بالكيس المائي ، وكذلك قد تصاب الحيوانات اللبونة وخاصة آكلة اللحم والخنازير والحيوانات المجترة والقاضمة. فإذا أكل الكلب أو الذئب مثلاً من اللحم المؤوف بالكيسة المائية فإن الرؤوس الكامنة أو الأجنة المختبئة في الكيس تبدو بعد الإنحلال غشائها، وتصير بعد شهر تقريباً دودة كهلة في معي الكلب أو الذئب ويصبح برازه محتوياً على بيوضها. وقد يصاب الحيوان بعوارض مميتة إذا كان عدد هذه الأجنة كثيراً.
الوقاية : بما أن داء الكيس المائي وخيم ينتقل إلى ا لبشر بواسطة الكلاب غالباً، فخير واسطة في الوقاية إذن هي اجتناب التعرض للتلوث بهذا الحيوان النجس مطلقاً كما هو في تعاليم الدين الإسلامي، وتحديد اختلاطها بالبشر ما أمكن وذلك بما يلي :
1. بإتلاف الكلاب الضالة، وتحديد ما يقتنى منها.
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة من الزمن بقتل الكلاب ثم أباح استبقاءها حية ولكنه حدد ما يقتنى منها.
قد تكون تلك الفترة تشديد تجاه تساهل العرب في جاهليتهم في أمر الكلاب. وقد تكون تلك الفترة ظهر فيها مرض الكلب (السُّعار) بين الكلاب فيخشى أن تعرض إنساناً أو حيواناً فتعديه بمرضها، إضافة إلى أنها سبب الإصابة بالكيسة المائية كما بينت. وتذكر كتب الطب الحديث أنه لا يمكن الاكتفاء بقتل الكلاب المسعورة وحدها، لأنه الاختبارات الصحية أثبتت أن لعاب الكلب يصبح مؤذياً بعضه قبل ظهور الأعراض الكلبية عليه بثلاثة أيام.
ويحتمل أن يكون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب بسبب كثرة إصابتها بالشريطة المكورة المشوكة مما يؤدي إلى كثرة إصابة الإنسان وحيواناته المجترة بالكيسة المائية بتناول طعام أو شراب ملوث بلعابها أو برازها.
وأياً كان السبب في أمر الرسول بقتل الكلاب فإنما هو بوحي من الله تعالى الذي وسع علمه كل شيء.
فعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال : ما بالهم وبال الكلاب؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفّروه الثامنة في التراب[42] " .
وقال عليه الصلاة والسلام : " من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم[43]".
2. بوضع الضرائب على الكلاب الأهلية التي تقتنى لضرورة ماسة .
3. بالعناية بالكلاب اللازمة منها في الحراسة أو الصيد أو أعمال الشرطة بحمايتها من أكل تلك الأكياس المائية في المجازر أو خارجها، وإتلاف كل عضو توجد فيه هذه الأكياس بالحرق، وتفهيم أصحاب الكلاب ما ينشأ عن إطعام كلابهم تلك الأعضاء المؤوفة ليجتنبوا ذلك .
جـ ـ حكمة التطهير بالتراب والماء:
إن تنظيف وتطهير الإناء الذي ولغ فيه الكلاب بالتراب مع قليل من الماء أقوى في إزالة ما يلتصق به من دسم وأقذار وبيوض الدودة المسببة للكيس المائي.
وبما أن شرعة الإسلام هي لكل زمان ومكان، والتراب متيسر في كل مكان، فاقتضت الحكمة أن يكون التراب في الغسلة الأولى كما هو مفضل وإلا ففي إحدى الغسلات الأجر قبل الأخيرة. وقد يأتي زمان تكتشف فيه فوائد لتطهير ما يلغ فيه الكلاب بالتراب أيضاً.
أما إراقة الماء والطعام الذي ولغ فيه الكلاب فإنها مستحبة شرعاً وواجبة صحياً ولو لم يرد استعمال الإناء. ولفظ الحديث المتقدم يوجبها بقوله صلى الله عليه وسلم :
" فليرقه ثم ليغسله سبع مرات " والحكمة في ذلك سلوك سبيل الوقاية فقد يتلوث الإناء أو الشراب أو الطعام ببيوض تلك الدودة الشريطية فيأتي حيوان أهلي أو إنسان لا علم له بولوغ الكلب أو طفل غافل فيبتلع منه فيتعرض للإصابة بالكيسة المائية. ولو أن هذه الحكمة مكتشفة قديماً لما اختلف العلماء في وجوب الإراقة لعينها، وأجمع الشافعية على ذلك . قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم : هل الإراقة واجبة لعينها أم لا تجب إلا إذا أراد استعمال الإناء أراقه ؟ فيه خلاف، ذكر أكثر أصحابنا: الإراقة لا تجب لعينها، بل هي مستحبة، فإن أراد استعمال الإناء أراقه . أ هـ .
ولا يخفى أن تطهير الإناء باحدى وسائل التطهير التي تذكرها كتب الصحة، زيادة على التطهير بالتراب والماء من جملة سنة الوقاية والحرص على ما ينفع .
د ـ سبق الإسلام :
وهكذا تبين لنا أن الإسلام سبق أيضاً بأحكامه المتعلقة بالكلاب ما توصل إليه الطب الحديث بقرون عديدة، فحذر من اقتناء الكلاب لغير ضرورة، وشدد في تطهير ما تنجسه.
أعطى تلك الأحكام في زمان لم يكن يعرف فيه طبياً أنها السبب الغالب في إصابة الإنسان بداء الكيسة المائية . ثم توالت قرون حتى تم اكتشاف ذلك، فسجل التاريخ معجزة جديدة لخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم دالة على صدق نبوته وأنه رسول الله حقاً إلى الناس كافة على توالي الأزمان.
وفي ذلك درس للمسلم بألا يتوقف أبداً عن تنفيذ تعاليم الإسلام(في الأمر والنهي ) لأنه لم يدرك حكمتها طالما أنه يؤمن بأن الإسلام شرع العليم الأعلى الحكيم الخبير، وصدق الله العظيم : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" .
والخلاصة : إن التقيد بأحكام الإسلام في تجنب الكلاب وتطهير ماتنجسه يقي من الإصابة بداء الكيسات المائية (الكلبية ) ذالك الداء الوخيم الذي قد يودي بحياة الإنسان إذا استقر في أماكن خطرة كالدماغ مثلاً . هو دائماً يتطلب مداخلة جراحية لاستئصاله . أعاذنا الله تعالى من كل داء وبلاء، وجعلنا جميعاً من التوابين والمتطهرين والمتمسكين بشرعته المتبعين لهدي نبيه .
نجاسة جسم الكلب :
الكلب وما تولد منه نجس العين في المذهب الشافعي والحنبلي .
وقال الحنفية : إنه طاهر العين إلا أن لعابه نجس حال حياته تبعاً لنجاسة لحمه، فلو وقع في بئر وخرج حياً ولم يصب فمه الماء لم يفسد الماء، وكذا لو انتفض من بلله فأصابه شيئاً لم ينجسه .
وقال المالكية : كل حي طاهر العين ولو كان كلباً أو خنزيراً[44].
أقول والله أعلم : يظهر أن الحق في هذه المسألة مع الشافعية، لأن معظم الحيوانات اللبونة تنظف جسمها بلسانها ولعابها كما تنظف بهما شرجها.
وإضافة إلى ذلك فإن براز الكلب ولعابه أثبت الطب خطرهما في نقل بيوض الديدان الشريطية المكورة المشوكة التي تسبب للإنسان ولحيواناته الأهلية الإصابة بالكيسة المائية (الكلبية ) كما أوضحت. فمذهب المالكية وتفريع الحنفية في هذه المسألة لا ينسجمان مع الطب .
من آراء ابن حزم في أحكام المياه :
كثير الاستشهاد بآراء ابن حزم[45] وأقواله في عصرنا هذا وخاصة في السنين الأخيرة. والداعي إلى ذلك غايات متعددة تستأنس من كتابات المستشهدين وسلوكهم وواقع حياتهم. وهاكم أهم تلك الغايات:
1. الاستفادة من رأي سديد أو تعليل صادر عن ابن حزم رحمه الله تعالى . وهذه الغاية لا غبار عليها، لأن الحكمة ضالة المؤمن الفطن.
2. استكمال البحث العلمي وعرض كل ما قيل فيه ليشارك القارئ الكاتب في البحث ومطالعة الأدلة والوصول إلى النتيجة سواء أخذ الباحث برأي ابن حزم أو رد عليه . وهذه الغاية مقبولة أيضاً في البحث العلمي .
3. تبني الكاتب الأخذ بظاهر النصوص الشرعية القريب المنال (مع فصله عن روح الشريعة ومقاصدها) . وسنرى كيف أن تقيد ابن حزم بحرفية ظاهر النص أوقعه في أخطاء لا يؤيدها المنطق العقلي ولا مقاصد الشريعة ولا تعاليم الطب والصحة.
4. التفتيش عن آراء السابقين ولو شاذة لسبغ اسم الموافقة للشريعة على أعمال المسلمين اليوم، لئلا نرى كثرة مخالفاتهم . وهذا عمل ساذج لا يحول العاصين إلى التمسك، بيد أنه يعطي حجة للمنافقين أن يبرروا أعمالهم تجاه المسلمين الصادقين ويثبوا سموهم بين الغافلين والجاهلين.
5. عمل نفاقي لستر الزيغ والعصيان وتبرز المخالفات وتشويه تعاليم الإسلام في أذهان المطلعين بالاستدلال على مشروعية أعمالهم بأن رأي ابن حزم أو غيره
يجيزها ويحكم بعد مخالفتها الشريعة . وشتان بين غايتهم هذه وغاية ابن حزم ولو أخطأ في بعض اجتهاداته رحمه الله تعالى .
وكل إنسان يؤخذ من كلامه، ويترك إلا صاحب العصمة. وإني في ذكر الآراء التي أخطأ فيها ابن حزم لا أقصد تجريحه وإنما أقصد إيضاح خطر الغايات الثلاثة الأخيرة في الاستشهاد بآراء ابن حزم، وخاصة إذا عرضت مع أدلتها دون ذكر أدلة الأئمة الأربعة في بحث استشهاد.
لقد أمتاز ابن حزم بسعة الإطلاع والاشتغال بعلوم عديدة. فكتب في الحديث والفقه والأصول والتاريخ والفرق والأدب والمنطق والنفس، وحفظ لنا في كتبه كثيراً من آراء السلف الفقهية فصارت مرجعاً في هذا الباب على قلة المصادر لمن أراد التعرف على آرائهم.
ولكنه لم يحقق في علم من العلوم التي كتب فيها، وذلك لعدم تخصصه في بعض تلك العلوم أي أنه زاد ثقافته على حساب حرمان نفسه من التخصص، فلم يتفرغ للتحقيق فيما أراده. فظن أن غزارة ثقافته تجيز له الإعجاب بآرائه في العلوم المختلفة وتسفيه آراء مخالفيه فتهجم على أئمة الإسلام والعلم. ومع أنه محدث فقد أقدم على الحكم بالجهالة على كثير من الرواة مع شهرتهم عند أئمة العلم بالرجال.
وبعض من أسند إلى أسمائهم الجهالة أبو عيسى الترمذي الإمام المشهور صاحب السنن[46]. وضعف ابن حزم كثيراً من الأحاديث الثابتة نتيجة حكمه على أحد رجال السنة بالجهالة. وإن كثيراً من الأحاديث التي ضعفها تخالف آراءه التي أقتنع بها.
لقد كان رحمه الله تعالى يأخذ بظاهر النصوص وإن أدى ذلك إلى نتائج تتنافى مع مقاصد الشريعة ومع المنطق العقلي. ولذلك وقع في أخطاء فاحشة لم يقع في مثلها غيره من المجتهدين والفقهاء، وهو الذي يقيم النكير عليهم وينقدهم نقداً لاذعاً أو ساخراً فيما يظن أنه خطأ اجتهادي منهم.
ولقد أشار إلى أخطائه في كتابه المحلى الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي في تعليقاته على ذلك الكتاب [47]تغمدهما الله بالرحمة .
أ. يجيز ابن حزم لمن بال في الماء الراكد ولغيره أن يشرب منه إن لم يتغير أحد أوصافه، مع أن ذلك يتنافى مع الذوق السليم ومع روح النظافة والطهارة الشرعية، ومع أدلة نجاسة الماء القليل بقليل النجاسة، ومع سنية استعذاب الماء وطلب السقيا من المياه الطيبة، ومع الحكم بعدم صلاحية ذلك الماء لوضوء البائل فيه، كما يتنافى مع الطب الذي يقرر أن بعض الأبوال تحوي جراثيم وبعضها يحتوي بيوض البلهارزيا أو غيرها من الطفيليات.
ب. ويفرق ابن حزم بين البول مباشرة في الماء الراكد وبين البول في جواره فجرى البول إليه. فالبول مباشرة يمنع البائل الوضوء والغسل من ذلك الماء، بينما يجيز له في الحالة الثانية إن لم يتغير أحد أوصاف الماء.
ت. ويجيز ابن حزم لغير البائل أن يتوضأ ويغتسل من ذلك الماء، لأن النهي ورد بخصوص البائل.
ان تلك الأحكام التي أخطأ فيها ابن حزم خطأ فاحشاً مذكورة في كتابه المحلى في المسألة (136) حيث يقول : إن البائل في الماء الراكد الذي لا يجري حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره، وحكمه التيمم إن لم يجد غيره. وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره إن لم يغير البول شيئاً من أوصافه .وحلال الوضوء به والغسل به لغيره . فلو أحدث في الماء أو بال خارجاً منه، ثم جرى البول فيه فهو طاهر، يجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره إلا أن يغير ذلك البول أو الحدث شيئاً من أوصاف الماء فلا يجزي حينئذ استعماله أصلاً، لا له ولا لغيره . أ هـ.
لقد سق داود بن علي الظاهري [48] ابن حزم في تلك الأحكام المتجافية عن الصواب. قال الإمام النووي في شرحه على مسلم في باب النهي عن البول في الماء الراكد: لم يخالف في هذا أحد من العلماء إلا ما حكي عن داود بن علي الظاهري: أن النهي مختص ببول الإنسان بنفسه، وأن الغائط ليس كالبول، وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء أو بال بقرب الماء. وهذا الذي ذهب إليه خلاف إجماع العلماء، وهو أقبح ما نقل عنه في الجمود على الظاهر. أ هـ .
ث. يحكم ابن حزم بنجاسة لعاب الكلب ثم يحكم بطهارة ما أكل منه الكلب من طعام، مع أن خطم الكلب بتماس غالب مع لسانه ولعابه.
ج. ويحكم بنجاسة عرق الكلب ثم يحكم بطهارة ما وقع فيه الكلب من شراب وطعام أو ما دخل فيه بعض أعضائه.. مع أن جلد الكلب أول ما يمسه عرقه،كما أن الكلب ينظف جلده وشعره بلسانه ولعابه.
ح. ولا يوجب ابن حزم غسل يد الإنسان إذا ولغ فيها الكلب لأنها ليست بإناء، والأمر بالغسل جاء للإناء..
أراد ابن حزم أن يبتعد عن القياس الذي لا يتعرف به فوقع في مثل هذه الأحكام اللامنطقية.
إن الأحكام الثلاثة الأخيرة لابن حزم مسجلة في المسألة (127) من كتابه المحلى حيث يقول : فإن أكل الكلب في الإناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء و لا هرق ما فيه البتة، وهو حلال طاهر كله كما كان، وكذلك لو ولغ الكلب في بقعة من الأرض أو في يد إنسان أوفي ما لا يسمى إناء فلا يلزم غسل شيء من ذلك ولا هرق ما فيه . أ هـ.
قال المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على هذه الفقرة : كل هذا تغال ومبالغة في التمسك بالظاهر دون نظر إلى معاني الشريعة وما يتفق مع المعقول.
فما حرّم الله شيئاً إلا وهو قذر مؤذ، ولا حكم النجاسة شيء إلا وكان مما تتجنبه الطباع النقية، وإزالة النجاسات واجب معقول المعنى، فمن العجيب أن يفرق ابن حزم بين أكل الكلب من الإناء وبين شربه.
بل الأعجب أن يفرق بين الشرب وبين وقوع الكلب كله في الإناء..
أقول : إن الطب أيضاً يعجب من آراء ابن جزم في أحكام المياه تلك الآراء التي تتنافى مع مبادئ مع الصحة، ويؤدي الأخذ بها إلى انتشار الأمراض والأوبئة. وقد بينت فعل المياه الملوثة في نقل الأمراض، وأن الكلاب هي السبب الغالب في إصابة الإنسان بالكيسات المائية .
كلمة الختام :
لقد أوضحت فعل المياه في نشر الأمراض، وبينت هدي النبوة في وقاية المياه من التلوث، كما أوضحت المقاصد الصحية في أحكام المياه وبينت الأحكام التي هي أقرب إلى الأدلة الشرعية والاعتبارات الطبية، ليراعيها المسلم في التطبيق وخاصة في مياه شربه ثم في مياه طهوره ونظافة جسمه، ولو تساهل في مذهبه الفقهي مراعاة للصحة والمذاهب الأخرى.
فإن الأخذ بأسباب الوقاية الصحية مستحب. وإن مراعاة المذاهب مستحبة أيضاً، نص على ذلك فقهاؤها.
والله تعالى أعلم .