بلسان أطفال غزة ..
في مستشفي النصر.. صغيري درجة حرارته عالية.. تركت جباليا ولجأت به مريضا إلى مستشفي الأطفال، لكني لم أكن أقصد المكان.. لقد فزعت هاربة به وبأخويه من تحت الدبابات.. تاه مني الآخرون.. أين سأجدهم الآن.. من يبحث لي عنهم.. زوجي استشهد قبل يومين.. تلف حول السرير وكأنها من عالم آخر تبحث عن فلذات الأكباد.
أنا محمود السموني.. ابن الثامنة من العمر.. وحيد في مستشفي القدس بحي " تل الهوى" المنكوب هل أجد من عائلتي من يضع لي كمدات الماء لتبريد جسدي.. استشهد ثلاثون من عائلتي ولم يبق أحد يقف بجوار سريري، عفوا .. الآن تغير مكاني .. الاحتلال حرق المستشفي وأمرنا بالخروج إلى مكان آخر مع باقي الجرحى..
أنا محمد واحد من أربعة أخوة عشت مع أمي الشهيدة أربعة أيام تحت الأنقاض في جباليا أرض العائلات الشهيدة.. فاكتب حكايتي يا تاريخ: يا أمي مهلا لا تخطبي لي الآن.. فأنا أريد الزواج من الحور العين وأنا حققت أمنيتي.. لماذا رفضت لي الدعاء بأن يتفتت جسدي في سبيل الله.. صعب على لسانك لكن الله الكريم استجاب لي.. سامحيني يا أمي أن تسببت لك بحزن..
يالله.. قصفوا الدار بطوابقها الأربعة.. لا تفاصيل للخبر تأتينا بها الإذاعات ولا اتصالات تنجح والأسئلة التي تدور في رأسنا من أخذه الركام ومن كان خارجه البيت المقصوف.. هل من أحد يخبرني عن حال أهل الدار بعد سقوط صاروخ الأف 16 ..
هل استشهد أحد من الصغار، يعود أبو إيهاب ليروي ما رآه في ثلاجات الموتى فيقول إياد وزوجته سعيد وابنه وأبو أيوب وجمعا من الجيران .. هم الشهداء
يا ابنتي لماذا استعجلت الخروج من رحمي .. سقطتي على أسفلت الشوارع.. لماذا لم تنتظري حتى أصل بقدمي الحافيتين إلى المستشفى كي أضعك على سرير إن وجدت متسعا من الأرض أو الأسر هناك؟ يا صغيرتي هل قتلت خشونة الإسفلت أم برد الشتاء في ليل غزة المنكوبة .. أم حرب "إسرائيل" علينا؟
آه يا أبو عبد الله لماذا خرجت من تحت الفراش في عتمة الشجاعية.. يا زوجتي هذا أنين جريح تحت الدار فاصمتي . لا لا مجال للصمت . ها هو بزقاق الدار. انتظر أخي سأجهز السيارة بسرعة لاصطحابه إلى المستشفي .. أبي .. عمي .. أنا معك .. كلنا معك لكن إلى أين.. أشلاء بقذيفة جديدة لن تسنح لهم بنقل صاحب الأنين..
الشجاعية.. الشرق الصامد لغزة.. الآن تجتاح الدبابات وقذيفة واحدة تأخذ العزيز عمار.. أنا زوجته أسأل كل ذي ضمير.. كيف أودعك زوجي؟ كيف أودعك أبا طفلنا القادم بعد شهور .. كيف أودعك أبا أبنائي أيتام أخيك الشهيد ؟ كان أبا لأيتام يا ناس والآن أنا زوجة لشهيدين..
أيها القادمون إلى ركامي لا تبحثوا عن حاجاتي .. أنا التي هربت وتركتها لتداس وتقذف .. لا تخرجوها من بين الحجارة .. لا تحسروا قلبي عليها .. أرجوكم اتركوها تذهب كما ذهب كل شيء .. لا تخرجوا " عروستي " مقطوعة الرأس ومحروقة القطن ... أنا لا أريد أن تنقذوا منها شيئا لي .. كفى بالله .. اطمسوا ذكرياتي.
الفسفور الأبيض.. أخذ بصري يا أمي.. لماذا تركت الطائرات تقذفه علي بيتنا.. كيف سأقر درس "القدس" وهل ستبقى في رأسي صورة الأقصى.. أرجوك يا أمي خذي من عيني الفسفور الأبيض ودعيني أراك من جديد.. لا تسمعيني صوت نحيبك.. أريد أن أرى يا أمي .. هل ما زالت دجاجتي تري .. أما أخذ منها الفسفور الأبيض عينها الصغيرة..
أنا في مدرستي وأجلس تحت مقعد أخي.. أين أنا يا أبي.. لماذا جئت بنا إلى هنا.. ولماذا لا أري رفاقي ولا مدرسي.. ولماذا فرشتي في فصلي .. أبي أخبرني .. أنا نمت في المساء في غرفتي وأصمتني صوت الطائرات عن الشجار مع محمد .. هذا ما أذكره .. أين حقيبتي المدرسية وكراسة الرسم .. أين أمي .. أين أمي .. أين أمي ؟؟
يا صغاري.. هل أنتم جياع.. من أي باب أخرج لأجلب الخبز لكم .. تعالوا إلى هنا ولا تتركوا الغرفة ..نريد أن تأخذنا قذيفة واحدة ولا نشرب حسرة أحد ..
مرحبا بك ياركام مسجدي على جسدي.. يحملك جسدي وجسد أختي وشقيقي وأبي وأمي وجيراني انزل علينا ولا تخف..
ماذا نقول عن غزة.. هل بقي كلام يهم العالم عنك يا غزة.. يا جراحي توقفي عن النزيف كي أحصيك فأنا إنسان بذاكرة.. أريد أرشيفا للعالم الظالم كي يسجل.. ماذا نقول عن غزة..
يا نكبتي امحي ما شئت من ألمك وتناسى يا تاريخ السطور فأنا أسجل الدم الكثير والكثير