بسم الله الرحمن الرحيم
قال - تعالى -: ((إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء* فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً)) (الواقعة: 35، 36).
وقد جاء تفسير ذلك في قوله - تعالى -: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)) (الرحمن: 56).
ومعنى ((يَطْمِثْهُنَّ)) أي يفتضضهنّ.
قال الفراء: لا يقال (طمث) إلا إذا افتضّ [1].
وأصل معنى الطمث: دم الفرج [2].
وذكر ابن جرير - رحمه الله -: عن بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين، أن الطمث هو النكاح بالتدمية، وطمثها: إذا أدماها بالنكاح [3].
والمقصود: نفي القرب منهنّ على جهة الوطء، وأنهنّ أبكار لم يخالط موضع الطمث منهنّ إنس ولا جانّ.
وقيل: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ)): لم يمسسهنّ، أي: مطلق المسّ، يقال: ما طمث هذه الناقة حَبْل؛ أي ما مسّها عِقال [4].
قاله المبرّد [5]: الطمث: التذليل؛ أي لم يذللهنّ إنس قبلهم ولا جانّ.
وجميع هذه المعاني متقاربة، والأوّل هو الأشهر، والثاني والثالث أبلـغ، والله - تعالى -أعلم.
والبكارة: صفة كمال في المرأة المطلوبة للزواج، وهو أمر محبب لدى الرجال، بل إن الشارع الحكيم رغّب في نكاح البكر وحثّ عليه، لما فيه من المصالح، فقد أخرج البخاري في صحيحه.
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: هلك أبي وترك سبع أو تسع بنات، فتزوجتُ امرأة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: ((تزوجت يا جابر))، قلت: نعم، قال: بكراً أم ثيّباً؟ قلت: ثيّباً، قال: هلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك)) [6].
وقد ورد بأصرح من ذلك عند ابن ماجه، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عليكم بالأبكار؛ فإنهنّ أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير)) [7].
وقد ضربت عائشة - رضي الله عنها - لذلك مثلاً، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟، قال: في التي لم يرتع منها.
تعني أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكراً غيرها [8].
فإذا كانت هذه هي منزلة الأبكار في هذه الدار التي لم يخلق أهلها إلا للعبادة، فكيف بدار الآخرة التي هي دار اللذة والنعيم المقيم؟!.
ولم يرد لفظ (الأبكار) في القرآن إلا في موضعين فقط.
الأوّل: قوله - تعالى -في سورة الواقعة: ((إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء* فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً)) (الواقعة: 36، 35) وقد سبق ذكره.
والموضع الثاني: قوله - تعالى - في سورة التحريم: ((عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً)) (التحريم: 5).
وقد جاء هذا الوصف في آية الواقعة مقدّماً على غيره من الأوصاف، بينما جاء في آية التحريم متأخراً.
وإنما قُدّم في آية الواقعة لأنّ الحديث فيها عن نساء الجنّة ونعيمها، وما فيها من اللذة والسرور، وغاية ما يطلبه أهل الجنة من نسائها لتحصيل كمال اللذة، أن يكن أبكاراً، ولذا ورد في الحديث أنّ أهل الجنّة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكاراً [9].
أما آية التحريم فإنّ الحديث فيها عن نساء الدنيا، وما ينبغي أن يتصفن به من الصفات الفاضلة، فناسب البدء بالصفات الإيمانية؛ القلبية والعملية، إذ هي أوّل ما يطلبه المؤمن فيمن يختارها شريكة لحياته في الدنيا.
ويذكر كثير من المفسرين عند تفسير قوله - تعالى -: ((ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً)) أن ذلك في الآخرة، لما أخرجه الطبراني وغيره أنّ الله وعد نبيه- صلى الله عليه وسلم - في هذه أن يزوجه بالثيب: آسية امرأة فرعون، وبالبكر: مريم بنت عمران، وأحاديث أخرى لا تخلو من ضعف، وسياق الآية يأبى ذلك من وجوه:
الوجه الأوّل: أنّ الله جمع ولم يفرد، ولو كان المراد آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران، لقال: (وثيباً وبكراً).
الوجه الثاني: أنّ آسية امرأة فرعون وإن كانت ثيباً في الدنيا؛ إلا أنها في الآخرة تكون بكراً كما صح ذلك في الأحاديث من أن الله يعيد نساء الدنيا المؤمنات أبكاراً
الوجه الثالث: أن ما ذكره قبل ذلك من الصفات؛ من الإسلام والإيمان والقنوت الخ إنما ينطبق على نساء الدنيا دون نساء الآخرة، فيكون قوله ((ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً)) كذلك وصفاً لنساء الدنيا.
الوجه الرابع: أن قوله: ((عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ)) شرط، والشرط لا يلزم تحققه. وإن صح ما وعد الله به نبيه من تزويجه بآسية ومريم في الجنة، فإن ذلك حاصل سواء طلّق النبي أزواجه أم لم يطلقهن، فلا فائدة من تهديد أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم - بذلك.
وفي تقديم الثيبات على الأبكار مع استحقاق الأبكار للتقديم: بيان أن الخيرية فيهنّ بحسب العشرة ومحاسن الأخلاق [10].
فإن قيل: وهل ثمة نساء على وجه الأرض خير من أمهات المؤمنين ليُستبدل بهن؟ أجاب عن ذلك الزمخشري بقوله: ((إذا طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إياه؛ لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنزول على هواه ورضاه، خيراً منهن)) [11].
وذكر الجانّ في قوله: ((إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)) يحتمل ثلاثة معان:
الأوّل: إمكان غشيان الجني للإنسية في الدنيا، ولذا جاء نفيه في الآية.
وله ثلاث صور:
الأولى: عند إتيان الرجل أهله دون أن يسمي، فقد أخرج ابن جرير الطبري بسنده إلى مجاهد أنه قال: إذا جامع الرجل ولم يسمّ؛ انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه، فذلك قوله: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)) [12].
والثانية: بالتراضي بين الطرفين نكاحاً أو سفاحاً، وقد ذكر ذلك جمع من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -، فقال: وقد يتناكح الإنس والجنّ، ويولد بينهما ولد، وهذا كثير معروف، وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه [13]
وممن ذكر ذلك: الحسن وقتادة والحكم وإسحاق وغيرهم [14].
والثالثة: عن طريق الاعتداء والإكراه، إما عبثاً كما يفعل سفهاء الإنس، وإما بغضاً ومجازاة بسبب أذى لحق بهم من الإنس[15]، وربما وقع ذلك بتسليط من شياطين الإنس من السحرة وأضرابهم إذا استعصت عليهم الإنسية، وكل ذلك كثير ومعروف كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
المعنى الثاني: أنّ الإنسيات لم يمسسهن أحد من الإنس، والجنيات لم يمسسهن أحد من الجن، وفي هذا دليل على دخول مؤمني الجن الجنة.
المعنى الثالث: أن المراد المبالغة والتأكيد، كأنه - تعالى -قال: لم يطمثهن شيء على سبيل الإطلاق، وصرّح بذكر الإنس والجن لأنهما من يُعقل منهما طمث[16]، والله - تعالى -أعلم.
----------------------------------------
[1] انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 14/213.
[2] انظر: جامع البيان في تأويل القرآن: 11/606.
[3] المصدر السابق.
[4] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 17/181.
[5] انظر: المصدر السابق.
[6] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات، باب: الدعاء للمتزوج: 5/2347، برقم: 6024.
[7] أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب تزويج الأبكار: 1/343، برقم: 1866. وحسّنه الألباني كما في صحيح الجامع الصغير برقم: 3932، وسلسلة الأحاديث الصحيحة برقـم: 623.
[8] أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب نكاح الأبكار: 5/1953، برقم: 4789
[9] أخرجه الطبراني.
[10] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي: 8/378.
[11] الكشاف: 4/115.
[12] جامع البيان: 11/607.
[13] مجموع الفتاوى: 19/39.
[14] انظر: أطيب الكلام في معرفة الملائكة والجان لبدر الناصر: ص20.
[15] انظر: مجموع الفتاوى: 19/ 40.
[16] انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 14/213