قال عبدالله بن المبارك: خرجتُ حاجّاً إلى بيت الله الحرام وزيارة نبيه صلّى الله عليه وسلّم بينما أنا بسواد فتميزت ذاك فإذا بعجوز عليها درع (أي ثياب) من صوف وخمار (ما غطّى البدن إلاّ الوجه والكفين)، فقلت السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقالت:{سلامٌ قَوْلاً مِّن رَبٍّ رَّحِيم}(يس:58).
فقلت: رحمكِ الله ما تصنعين في هذا المكان؟
قالت:{َوَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هِادٍ}(الزمر:36).
فعلمت انها ضالة عن الطريق، فقلت لها: أين تريدين؟
قالت: {سُبْحَان الَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصِا}(الإسراء:1).
فعلمت أنها قضت حجها وهي تريد بيت المقدس.
فقلت لها: أنتِ منذ كم في هذا الموضع؟
قالت: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيِّاً}(مريم:10).
فقلت لها: ما أرى معكِ طعاماً تأكلين؟
قالت: {هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقيِنِ}(الشعراء:79).
فقلت: فبأي شيء تتوضئين؟
فقالت: {َفَلَم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّموُا صَعِيِدَاً طَيِّباً}(المائدة:6).
فقلت لها: إن معي طعاماً فهل لكِ في الأكل؟
قالت: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ}(البقرة:184).
فقلت: قد أبيح لكِ الإفطار في السفر.
قالت: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }(ق:18).
قلت: فمن أيِّ النّاس أنتِ؟
قالت: {وِلاِ تَقْفُ مَا لَيْس لَكَ بِهِ عِلِمُ إِِِنَّ السَّمِْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤَادَ كُلٌّ أٌوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(الإسراء:36).
فقلت: قد أخطأت فاّجعليني في حل.
قالت: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِِمِينَ}(يوسف:92).
فقلت: فهل لكِ أن أحملكِ على ناقتي، فتدركي القافلة؟
قالت: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ}(البقرة:197).قال: فأنخت الناقة.
فقالت: {قُل لِلْمُؤمِنيِنَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصِارِهِمْ}(النور:30).
فغضضت بصري عنها وقلت لها: اركبي فلما همَّت بالركوب نفرت الناقة فمزقت ثيابها.
فقالت: {وَ مَا أَصِابِكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}(الشورى:30).
فأمسكت الناقة وقلت لها: اركبي.
قالت: {سُبْحَانَ الَّذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كنَّا لَهُ مُقْرِنِيِن<13> وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}(الزخرف:13،14).
فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح.
فقالت: {واقْصِدْ في مَشْيِكَ واغضُضْ مِن صَوْتِكَ}(لقمان:19).
فجعلت أمشي رويداً (بتمهل) رويداً رويداً وأترنم بالشعر.
فقالت: {فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن}(المزمل:20).
فقلت لها: لقد أوتيت خيراً كثيراً.
فقالت: {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاّ أُوْلوا الأَلْبَابِ}(آل عمران:7).
فلما مشيت بها قليلاً قلت لها: ألكِ زوج؟
قالت: {يَا أَيُّيها الَّذِيِن آمَنُوا لا تَسْألُوا عَنْ أَشَيْاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(المائدة:101).
فسكتُّ ولم اكلمها حتى أدركت بها القافلة.
فقلت لها: هذه القافلة، فمن لكِ فيها؟
فقالت : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الْدُّنْيا}(الكهف:46).
فعلمت أن لها أولاداً.
فقلت: وما شأنهم في الحج؟
قالت: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}(النحل:16).فعلمت أنهم أدلاء ( جمع دليل: دليل الطريق) الركب فقصدت القباب والعمارات.
فقلت لها: هذه القباب فمن لكِ فيها؟
قالت: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}(النساء:125) و {وَكَلَّمّ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً}(النساء:164) و {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}(مريم:12) فناديت: يا إيراهيم يا موسى يا يحيى، فإذا بشبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما استقر بهم الجلوس.
قالت: {فابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَديِنَةِ فّليَنْظُرْ أَيُّها أَزْكَى طَعَامَاً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِنْهُ}(الكهف:19) فمضى أحدهم فاشترى طعاما فقدموه بين يدي.
فقالت: {كُلُوا واشْرَبُوا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة}(الحاقة:24).
فقلت: الآن طعامكم عليَّ حرام حتى تخبروني بأمرها.
فقالوا: هذه أمنا، وهي منذ اربعين سنة لا تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزلَّ فيسخط عليها الرحمن.
فقلت: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(الجمعة:4).
الطريقة التي سلكتها هذه العابدة التقية طريقة خاصة لم يأمرنا الشرع بها، ولم يفعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا صحابته ولا تبعهم.
لكن هذه القصة تَؤينا مدى محافظة المسلمة على لسانها وطهارة كلامها ومدى علمها ووعيها للقرآن المجيد.
فعليكِ أختي المسلمة أن تملكي عليكِ لسانكِ، وألاّ تتكلمي إلاّ بخير، واتركي الكلام في الباطل والفحش والبذاء.
المصدر: كتاب قصص التابعيات
المؤلف: د.مصطفى مراد