لفضيلة الشيخ : سلطان العيد
أما بعد : فإن شأن الأخلاق عظيم، وإن منـزلتها لعالية في شرع رب العالمين، فالخلق من الدين، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وأحسنهم أخلاقاً : أقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً. ولقد تظاهرت نصوص الشرع في الحديث عن الأخلاق فحثت وحضت ورغبت في محاسنها، وحذرت ونفرت ورهبت من سيئها، بل إن الرسول بيّن أن الغاية من بعثته: إنما هي إتمام صالح الأخلاق، فقال : «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»أخرجه أحمد والحاكم وصحة ووافقه الذهبي. والناس على اختلاف مشاربهم يحبون محاسن الأخلاق ويألفون أهلها ويبغضون مساوئ الأخلاق وينفرون من أهلها. وحسن الخلق له فضائل عظيمة في الدنيا والآخرة، فمن ذلك:
1- أنه امتثال لأمر الله عز وجل، قال تعالى [خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ]، وهو طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي: «وخالق الناس بخلق حسن»
2- وهو رفعة في الدرجات، قال صلى الله عليه وسلم:«إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم». رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وقال صلى الله عليه وسلم :«أعظم ما يُدخل الناس الجنة : تقوى الله وحسن الخلق» أخرجه الترمذي وصححه. . وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم:«ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق» أخرجه الترمذي وصححه.
3- ومن فوائد حسن الخلق: كسب القلوب: فهو يحبب صاحبه للبعيد والقريب، وبه ينقلب العدو صديقاً، ويصبح البغيض حبيباً، ويصير البعيد قريباً، وبحسن الخلق يتقرب المرء للناس، وبه يتمكن من إرضائهم على اختلاف مشاربهم وطبقاتهم. وحسن الخلق مدعاة للذكر الحسن، فإن الألسنة تلهج بذكر أهل الخلق الحسن، والتاريخ يسطر مآثرهم، والركبان تسير بأخبارهم.
4- السلامة من شر الخلق: لأن صاحب الخلق الحسن لا يقابل الإساءة بالإساءة، بل يعفو يصفح ويعرض، بل ربما قابل الإساءة بالإحسان، ولو جارى الناس في سفههم لما كان له فضل عليهم، ولما سلم من أذاهم فلو لم يأت من حسن الخلق إلا هذه الفائدة لكان حرياً بالعاقل أن يتحلى به.
5- صاحب الخلق الحسن في راحة بال، وطيب عيش، ونعيم عاجل، فإن قلبه مطمئن ونفسه زاكية، كما أن صاحب الخلق السيء في شقاء حاضر وعذاب مستمر ونزاع ظاهري وباطني مع نفسه وأولاده ومخالطيه، مما يشوش عليه حياته ويكدر أوقاته، مع ما يترتب على ذلك من فوات الآثار الطيبة والتعرض لضدها. وإليك شيئاً من كلام الحكماء في فضل الأدب وحسن الخلق: يقولون : من قعد به حسبه نهض به أدبه. ويقولون: من كثر أدبه شرف وإن كان وضيعاً، وساد وإن كان غريباً، وكثرت الحاجة إليه وإن كان فقيراً ومن أقوالهم : من لم يعرف الخير من الشر فالحقه بالبهائم. وقال بعضهم : ما ورثت الآباء الأبناء شيئاً أفضل من الأدب، إنها إذا ورثتها الآداب: كسبت بالآداب الأموال والجاه والإخوان، والدين والدنيا والآخرة، وإذا ورثتها الأموال: تلفت الأموال، وقعدت عدماً من الأموال والأدب. أما سوء الخلق فهو عمل مرذول ، ومسلك دنيء يمقته الله عز وجل، ويبغضه الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث :«وإن أبغضكم إليّ، وأبعدكم مني في الآخرة أسؤوكم أخلاقا» أخرجه أحمد وابن حبان. وسوء الخلق يأخذ مظاهر عديدة، ويبرز في صور شتى، اكتفي بذكر عشر منها:
1- الغلظة والفظاظة: فنجد من الناس من هو فظ غليظ، لا يتراخى ولا يتألف لا يتكلم إلا بالعبارات النابية القاسية التي تحمل في طياتها الخشونة والشدة، والغلظة والقسوة، وصدق الله إذ يقول: [ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك]. وقد يصاحب ذلك عبوس الوجه وتقطيب الجبين، فبعضهم لا تراه إلا عابس الوجه مقطب الجبين ، لا يعرف التبسم واللباقة، ولا يوفق للبشر والطلاقة، بل إنه ينظر الى الناس شزراً، ويرمقهم غيظاً وحنقاً، لا لذنب ارتكبوه ، ولا لخطأ فعلوه، وإنما هكذا يوحي إليه طبعه، وتدعوه إليه نفسه ، يظن أنه بذلك يحترم وهذا الخلق مركب من الكبر وغلظ الطبع، فإن قلة البشاشة استهانة بالناس، وذلك إنما ينشأ من الإعجاب والكبر.
2- مقابلة الناس بوجهين: فتجد من الناس من يظهر لجليسه الموافقة والمودة، ويلقاه بالبشر والترحاب، فإذا ما توارى عنه سلقه بلسان حاد، وشتمه وأقذع في سبه،.......، هذه الصفة من أخس الصفات ، وصاحبها من شر الناس وأوضعهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«تجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» متفق عليه.
3- التهاجر والتدابر بين المسلمين، فبمجرد اختلاف يسير حول عرض من الدنيا لا يترتب عليه فساد في الدين عند ذلك تجد من يعطي ظهره لأخيه، ويهجره ويقطع أواصر المحبة والأخوة والقرابة قال النبي صلى الله عليه وسلم :«لا تباغضوا ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» متفق عليه. وإذا كان هذا الأمر مرفوضاً وقوعه بين عامة الناس، فإن المصيبة تعظم، والخطب يجل إذا وقع ذلك بين أهل العقل (والعبادة)، فما يدمي الفؤاد، ويدل على استحكام الغفلة وتمكن الشيطان أن تجد اثنين من أهل الفضل، وممن يتسابق للمجيء إلى المسجد، وقد يكونان ممن بلغ من الكبر عتياً، ومع ذلك كله: تجدهما متهاجرين متقاطعين، لا يكلم أحدهما الآخر، ولا يسلم عليه بلا سبب يذكر، أو بسبب يسير جداً.
4- المن بالعطيه ونحوها: فمن الناس من إذا أعطى عطاء أو شفع في أمر ما، أو بذل نصيحة أو أسدى معروفاً: أتبعه بالمن والأذى ، والإذلال على من أحسن إليه وذلك الصنيع خلق ساقط، لا يليق بأولي الفضل، قال تعالى :[يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى] قال رجل لبنيه :إذا اتخذتم عن درجل يداً فانسوها. وقال ابن عباس : لا يتم المعروف إلا بثلاث : بتعجيله ، وتصغيره، وستره ، فإنه : إذا أعجله هنّأه، وإذا صغره عظمه، وإذا ستره تممه. ومع أن المن وتعداد الأيادي ليس من صفات الكرام، إلا أن ذلك يحسن ويسوغ في حال المعاتبة والاعتذار.
5- سوء العشرة مع الزوجة: فهناك من يتعامل مع سائر الناس بأدب ورقة وأريحية، فتراه في المجالس بشوشاً، حسن الخلق ، ينتقي من الكلام أطايبه ، ومن الحديث أعذبه ، فإذا ما دخل المنزل تبدلت الحال، وذهبت وداعته، وتولت سماحاته، وحلت غلظته وبذاءته وفظاظته، فانقلب أسداً هصوراً على زوجه الضعيفة المسكينة فتراه يسيء الأدب معها ، وتصدر منه العبارات القاسية المؤلمة يحملها مسؤولية كل شيء، ويغلظ في عتابها عند أدنى خطأ، يهددها بالطلاق عند كل صغيرة وكبيرة، وربما قصر عليها في النفقة. ولا ريب أن هذا الصنيع دليل على ضعة النفس وحقارة الشأن وضعف الإيمان، وإلا فإن الحازم العاقل ذا الدين والمروءة يتودد لأهله، ويرحمهم، ويحسن معاشرتهم، قال عليه الصلاة والسلام (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي وصححه. وفي المقابل : تجد أن بعض الزوجات لا تحسن التودد لزوجها، ولا تقوم بحقوقه كما أراد الله منها، بل تراها تسيء الأدب معه، وترفع صوتها عليه، وتثقل كاهله بكثرة الطلبات، وتستنزف ماله بالإغراق في الكماليات، تراها كثيرة الشكوى والتأفف، تنسي معروفه وتذكر إساءته، لا يروق لها ما يفعله زوجها، وأما ما عند الناس فقد بلغ الغاية في الحسن، بل ربما عوقته وخذلته عن بره بوالديه، وأعانته على قطيعة الرحم، تفرق الأسر ولا تجمع ، فاللهم إنا نسألك العافية والسلامة. (فالحمد لله على كل حال ، وإنا لله وإنا إليه راجعون).
6- التقصير في حقوق الإخوان: فإن لهم حقوقاً كثيرة يحسن بالمرء مراعاتها والقيام بها، ويقبح به التفريط فيها والتهاون في أدائها، فمن مظاهر التقصير في حقوق الإخوان: - قلة تعاهدهم: فترى بعضهم لا يسأل عن إخوانه ورفقائه، ولا يحرص على زيارتهم وصلتهم, لا يسعى في تجديد المودة، قال ابن حبان رحمه الله: (الواجب على العاقل إذا رزقه الله ود امرئ مسلم صحيح الوداد، فحافظ عليه، أن يتمسك به، ثم يوطن نفسه على صلته إن حرمه ، وعلى الإقبال عليه إن صد عنه، وعلى البذل له إن حرمه ، وعلى الدنو منه إن باعده . - ومن التقصير في حق الأخوان التنكر وقلة الوفاء فمن الناس من لا يعرف إخوانه إلا في الرخاء، فإذا ما وقع أخ له في شدة وضائقة، واحتاج لمعروفه ومساعدته : تنكر له وخذله ، ونسي ما كان بينهما من مودة ومن التنكر وقلة الوفاء ما تجده عند بعض الناس، فما أن ينال عرضاً من أعراض الدنيا: كمال أو جاه أو منصب : إلا ويتنكر لأصحابه القدامى ، وينساهم أو يتناسهم ، وما هذا من أخلاق الكرام، قال بعضهم : (إن الكرام إذا ما ايسروا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن - ومن ذلك إيذائهم في السفر: فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال فبعض الناس إذا سافر مع أصحابه آذاهم، وأكثر الخلاف معهم، وسعى فيما يكدر عليهم ويعكر صفوهم، ومن الناس من لا يتكلم ولا يقترح وربما إذا استشير لم يشر، بل يترك الأمر لصحبه، فإذا أصابوا سكت ولم يثن عليهم ، وإذا اجتهدوا في أمر فأخطئوا، كأن يضلوا الطريق مثلاً أمطر عليهم وابلاً من اللوم والتقريع، وأصبح يكرر من أمثال قوله: لو فعلتم كذا وكذا لكان أنفع وأجدى ، ولو أنكم سلكتم الطريق الفلاني لما حصل ما حصل ، وهكذا.
7- إساءة الظن: وهي من الأخلاق الذميمة، التي تجلب الضغائن ، وتفسد المودة وتورث الهم والحزن، ولهذا نهى الله عنها فقال : [يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعد الظن إثم ] وفي الحديث المتفق عليه : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». فتجد من الناس من هو سيء الظن، يحسب كل صيحة عليه ، وكل مكروه قاصداً إليه، وأن الناس لا هم لهم إلا هو، وأنهم يكيدون له كيداً ويتربصون به الدوائر ومن صور سوء الظن عند بعضهم : - إذا رأى اثنين
المصدر/ شبكة المسلمات