بتـــــاريخ : 11/22/2008 9:06:33 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1063 0


    الليلة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : غسان حنا | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الليلة غسان حنا

    التي سبقت الانتحار‏

    قرّرتُ أن أضع حدّاً لحياتي.. قرار مذهل.. أليس كذلك.. فالانتحارات تحدث عادة حين يفشل الإنسان في التمسّك بآخر خيط يربطه بالحياة، وتكون المعاناة قاهرة ولحظة الحسم صاعقة لاتترك مجالاً للتردّد.. نعم.. قرّرتُ أن أضع حدّاً لحياتي.. هذه الحياة التي رغبت يوماً أن تستمرّ طويلاً.. بل كدت أنسى أنَّ لها نهاية.. لا أشك أبداً أنَّ هذا الانتحار سيخلّف وراءه ضباباً كثيفاً وتفسيراتٍ وتأويلاتٍ متباينة: خلل عقليّ/ خيبة عاطفية مريرة/ فضيحة تجاوزت قدرة الامتصاص/ جريمة متقنة الإخراج بصيغة انتحار.. و.. و.. / والمهم أنَّ هذا وغيره سيُقال وأنا في العالم الآخر..‏

    كم كنت أتمنى أن يُعطى الإنسان مايجعله شاهداً على موته.. فيختبر بعمق ووضوح مشاعر البشر المعنّيين بهذا الموت.. ويقيس حجم الفراغ أو الارتياح الذي سيتركه وراءه.. وإذا ماقُدّر له أن يعود إلى الحياة مرّة أخرى فسينقضُّ بعراء الحقيقة على هؤلاء البشر... ثم يتعرّض بدوره لانقضاض مماثل، وهكذا يُصفي البشر حساب الدنيوية فيما بينهم ويريحون الله ولن تكون إلاَّ مجزرةً تفوق بهولها وجحيمها نيران جهنم.‏

    سأكون واحداً ممّن يثيرون الجدل بعد انتحارهم..: رجال الدين يعتبرون الانتحار اعتداءً على النفس الإنسانية التي حرّم الله قتلها.. حتى على يد من يعتقد أنه مسؤول عنها.. وقد يرفضون إجراء مراسيم الجنازة عليَّ.. وأدفن ككلِّ المشردين..المنبوذين.. ولا تُوضع على قبري أيّة شاهدةٍ تدلُ على هوّيتي ومعتقدي.. المفكرون وعلماء المجتمع سيثيرون قضية الانتحار من جديد.. وربّما أفادهم علم النفس بتحليل مستحدث لها، كأنَّ يُقال على سبيل المثال: في انتحارٍ بهذا التصميم والتخطيط والهدوء لا يستبعد الأمرُ أن يكون اتفاقاً ضمنيّاً بين الله والإنسان.. أو حنينٌ روحيٌّ جاوز طاقة العقل على الرفض.. أو توازنٌ بين المعادلات الحيويّة ألغاها جميعاً.. وقد يستأنسون بالتفسيرات التقليديّة فيُريحون ويرتاحون..‏

    كثير من أصحاب المبادئ والثورات عرفوا مسبقاً أنَّ صدقهم بما يؤمنون ويعملون سيدفعهم إلى الموت لا محالة.. أليس هذا انتحاراً؟.. إن الاستمرار في الحياة مع الشعور الطاغي بالعبث والمرارة مستنقعٌ لأفدح الأخطاء والحماقات.. والنتيجة دفع الآخرين للانتحار.. أليس الأجدى موت واحد إنقاذاً للمجتمع..‏

    لمتعة عابرة، أو هدف مرسوم، تتعانقُ نطفةٌ وبويضة.. فيتوّرط كائن بمأساة الوجود دون إرادته الذاتيّة.. ولا يلبث أن يجد هذه الذات محاصرة بمواقف وقرارات مرهونةً بفعل الإرادة المعطّل أو تترك هذه الذات تتلقّى الكوارث والصدمات دون إرادةٍ إقراراً بعجزها أو امتثالها للقدرْ..لا..هذا غير مقبول.. أنْ يتحمّل المخلوق الإنسانيّ تبعات المبادئ والتعاليم والعقائديّات المتناقضة التي تستهلك تفاصيل حياته..وترميه في حفرة من تراب الإهمال والنسيان لتوقظه بعد دهور ودهور فتحاسبه على نقائص ومخازٍ لا إرادة لـه في ارتكابها..إنَّ الأمر يشبه رجلاً ترك زوجته في شرخ صباها وغاب ثلاثين سنة يفعل مايشاء، وحين عاد أنزل عليها غضب الأرض والسماء لأنَّها شاخت في غيابه..أو أحبّتْ غيرَهُ ولعلَّ البلاد التي طوّف فيها تفتقد إلى المرايا..ولاشيخوخة فيها ولا نساء‏

    لا أنكر أنَّ للحياة جاذبيّة سريّة غامضة تجعلنا كالغرقى نتشبّثُّ بأهدابها مهما كانت واهية، ونستغيث بالأطباء والأولياء لإضافة ساعاتٍ بل دقائق على الأجل المحتوم... طمعاً في مزيد من الحياة قد يجرّ مزيداً آخر.. على أنَّ هذا لا يعني أنْ نعيش بلا ثمن أو بأيّ ثمن.. وأن نكون وقود الحروب والمنازعات، كلاب الحراسة، ديدان المختبرات، خيول المغامرين، جلاّدي الأقبية والمعتقلات، بضاعة النخّاسين، رقماً يضاف أو يحذف في سيول الحشود والمظاهرات.. ما أكثر المخلوقات التي تتمنى الراحة بالموت.. ولا تتجرّأ عليه... وما أكثر المخلوقات التي تموت شيئاً فشيئاً وتجهل مايحدث لها.. قد تقولون.. وهل الحياة إلاّ عمرٌ يتزايد حتى يتلاشى.. أقول لكم.. الإنسان يختلف في هذا الأمر عن الكائنات الأخرى، الماء يتبخّر دون ألم، والشمس تغيب دون نحيب، والصوت يتوارى فلا يحزن عليه الصدى..‏

    كيف لا أقدم على الانتحار وقد تجرعت كآبة الإصغاء لتوسّلات الأبناء باستعجال موت أهلهم خلاصاً من أعباء الإعالة والتمريض.. مايمنع أن أصير واحداً من هؤلاء الآباء والأمهات الذين تفانوا في تربية أولئك الابناء؟ كيف لا أقدم على الانتحار وقد فجعت بدموع المسنّين المشلوحين في مآوي العجزة.. يتلمّسون الموت وهو عنيدٌ مكابر.. إنَّ الشعور بما سأقدم عليه قد أضرم في ذاتي تفاعلاً كيانيّاً خارقاً.. وغدت نفسي مسرحاً للساعات الأخيرة من حيوات بشرٍ كثيرين: الذين ينتظرون تنفيذ أحكام الإعدام/ المخلوعون عن عروشهم إلى ظلمة الأقبية والدهاليز/ المحاصرون إبَّان المعارك في موقع معزول متقدّم وبرودة الموت أخذت تتفشّى في أطرافهم وهم من الآباء والإخوة والمحبيّن/ الرهائن الأبرياء الذين ستدفع حياتهم ثمناً لابتزاز رخيص/ المريض الذي رماه الطبيب بنعوة أيّامه المتبقيّة/ الفتاة الشّفافة الحالمة التي افتُرِسَت ليلة زفافها/ القائد العسكريّ الذي اكتشف بعد فوات الأوان أنهم دفعوه إلى هذه المهمة الخطيرة ليتخلصوا منه/ الكاهن الذي عرف بعد عشرين سنة أن قراراً متسرّعاً أفضى به إلى هذا الكهنوت..‏

    هؤلاء جميعاً كانوا يرقصون رقصة العدم في مسارب الأعصاب، ثم ينسحبون منّي جميعاً لتعربد في كياني الأصداء.. ملامح.. أشباه، تفاصيل، مواقف، حوادث.. تتداعى في مركز البّث الإشعاعي في الدماغ.. الدماغ مقذوف بتيارات متناوبة.. لعلَّ الإقبال الطوعي على الموت مسؤول عن هذا التوهج الفريد، لا شيء أخشاه الآن.. ولا شيء أساوم عليه.. إنّها ساعة الحرية والحقيقة.. المهددة دوماً بخوفنا وحرصنا ومطامعنا.. وشهواتنا.. لكن عقاربها الآن تتحرك بفيض تلقائي.. وهاهي الصور تتلاحق.. كاتب الشيخ والبحر أطلق النار على عجزه وموته البطيء.. داليدا انتحرت لأنها لم تجد حباً لذاتها بحجم شهرتها، وجمال صوتها أو لأنها فقدت مع الشهرة اعتباط الحب وطفولته... بوشكين دافع عن كبرياء الرجولة بمبارزة ليست في الحقيقة إلاّ انتحاراً اختيارياً...‏

    المسيح وضع نفسه على صليب الانتحار حين تحدى الشريعة الموسوّية، وهدّد بهدم الهيكل وبنائه في ثلاثة أيام.. الحكمة منطق الضعفاء، العدالة والمساواة شعارات برّاقة مع وقف التنفيذ، الفقراء مفلسون يسعون إلى الغنى، شهر العسل هو المسافة مابين السقوط والارتطام.. أليس نحراً للضمير.. قتل العشرات لإنقاذ حياة إنسان واحد.. يكذب الشعراء ليرفعوك إلى مباهج الأحلام، ويرفعك السّاسة ليضعوا تحتك خازوقاً لذيذاً، يُفرغ الشاعر كيانه في قصيدة، ليكفّنها البعض بمقالة شاتمة لائقة.. ماذا في هذا العالم غير الانتحار؟!...‏

    سأتجرّأ على القول: الضعفاء يُنْحَرون.. والأقوياء ينتحرون.. الأقوياء ينتحرون.. هذه العبارة تنطوي على تداعٍ جديد.. لم أهتدِ إليه إلاَّ بعد التداعيات السابقة.. صدّقوني فأنا لست ذكياً دائماً.. لكنَّ بديهتي.. وأنا أعترف لكم.. في أفضل حالاتها.. تسألونني.. كيف ينتحر الأقوياء وهم مصدر المال والسلطة والاستعباد في هذا العالم؟ قد أجيبكم بما تعرفون...ولكن اصبروا عليَّ قليلاً.. ربّما أفدتكم بمفهوم آخر.. ينتحر الأقوياء بقوّتهم حينما تصبح مقدّسة.. ويضطرون للدفاع عن قدسيتها حتى الموت.. وينتحرون بمالهم حينما يصبحون مجرّد حرّاس لخزائنهم يتصدّون للطامعين بها، فتصبح حياتهم سلسلة من الانتحارات المتواصلة، سامحوني.. لا أقسو عليكم بل على ذاتي.. وهل بعد الانتحار من جريمة تفوقها؟! سامحوي مرّة ثانية.. كدت أنسى ولو مؤقتاً كيفية انتحاري الذي صمّمت عليه.. وعليَّ الآن تحديد الطريقة التي سأنفّذه بها.. الشنق مثلاً.. أنا أكره الأجساد المتدلية، والأعناق المشدودة، والعيون الجاحظة، والألسن المعضوضة بالأسنان.. فهذه الطريقة مرفوضة سلفاً.. إطلاق النار على الرأس؟ من العار بمكان تمزيق هذا الدماغ الذي اختصر الغرائب والمعارف والأسرار واقترب من النبوءات، وانتهى إلى هذا القرار التاريخيّ الحاسم بالانتحار.. أمّا إطلاق النار على القلب، فتحطيم لأنبل عضوٍ في العائلة الجسدية.. والرصاصة إذا اخترقت بقيّة الجسد قد لا تميت.. بل تؤدي إلى الانتحار المرضي البطيء الذي استنكرته منذ البداية.. وربما كانت رصاصات المسدس مخزّنة منذ وقت طويل مما أبطل مفعولها.. السقوط من مكان عالٍ؟! ربما أدركني قبل الخطوة الأخيرة أحد المنقذين..إذاً ما الحل.. الحل أن أمامي بضعة ساعات تكفي لتقرير الأسلوب الأجدى في الانتحار.. وحتى ذلك الحسم.. هناك أشياء يجب القيام بها قبل مغادرة العالم. من هذه الأشياء التنازل عن حصّتي في الإرث لإخوتي قبل أن يقتتلوا عليها، وتضع الدولة يدها على بعضٍ منه.. ولابد أيضاً من إقناع أصدقائي بصوابية قرار الانتحار فيما يخصّني فقط قبل أن تلوكني ألسنتهم بألف اتهامٍ وإدانة ولوالدتي حق في التخفيف عنها حتى لا يقتلها الحزن عليّ أو ينحرها على وجه التحديد.. وهناك من أسأتُ إليهم ولم أعتذرْ.. ومن لهم عليَّ ديونٌ.. يجب وفاؤها.. وأخيراً لن أغادر الأرض قبل إلقاء نظرة على الطبيعة التي أحببت: غابات السنديان والصنوبر والبلوط، السفوح المطلّة على البحر.. البراري الآمنة من عجلات الآلة.. ونفايات المصانع، وبنادق الصيادين، وحرائق المشبوهين.. حتّى الحفافي والمنحدرات الخطرة تتجاوز العين خطورتها وتودعها في سياق التجانس الهارموني لسمفونية الألوان والأشكال.. سأعرّج على القرية التي ولدت فيها.. وأفتش عن شيخ بعمر جدّي، ليقصَّ علي حكايا الأيام الماضية بحلوها ومرّها.. لكني أخشى إذا انتهى منها كلّها أن يموت بين يدي فأتّهم بقتله وأبقى بقية العمر.. أقنعهم بنهايته الطبيعية.. سأمرُّ على اللواتي أحببتهنَّ.. وفي يدي لكل منهنَّ وردة وإسوارة شعر.. من ستقبل الوردة؟ ومن ستقبل الإسوارة؟.. ومن سترفضهما معاً.. أعرف أنهن سيغالبن الدموع مع الرفض.. وبعد انصرافي سيبكين بمرارة.. سأعود إلى المدينة.. مختتماً إفراغ مشاعري برفاق الدراسة، ومطارحات البحر.. رفاق الدراسة منتشرون في أحياء متعدّدة وفي الضواحي المحيطة.. وبعضهم بلا هاتف.. ولابُدَّ من الاستدلال على بيته.. وقد أستعين بأكثر من دليل لهذه الغاية وقد يستبقيني أحدهم على كأسٍ.. ومن غير المستبعد أن يتحوّل الكأسُ إلى زورقٍ أو طوّافة.. وننداح في الإبحار والتطواف الوجداني بعيداً.. إلى طقوس وتداعيات وذكريات شجيّة.. وقد يُستدعى على شرفي أصدقاء وأصدقاؤهم.. فتّتسع الدائرة.. ويُسود الجدل، وتتدخل النساءُ.. ومنهن جميلات يفرضن بلاهتهنَّ ببلاغة الفتنة والإغواء، ورُبَّ واحدة رمتني بضربة سحرٍ على رأسي فأصبت بدوار شامل وأصبحت قوس قُزحٍ تنحل ألوانه المتناغمة فأرى أسراباً من الأطفال يُلهبون غربة الصحارى بعبق الغابات، تتحوّل نزواتهم إلى أراجيح تعلو فيلامسون القمر.. وتهبط فتقبّل أصابع أقدامهم خدود الوديان.. أتوسّلهم أن يأخذوني معهم فيقبلون بشرط أن أرسم لهم شجراً وارفاً فيتفيّؤون وأشجاراً مثمرة فيأكلون، وساقية فيغتسلون وناقة ثلجٍ فيرضعون.. وفجأةً يحيطون بي لإجراء اختبار أخير يترتب عليه قبولي بينهم أو رفضي... والاختبار هو أن أجري كالنهر، وأقفز كالماعز وأزقزق كالعصافير، وأغفو كالزّهر، وأستيقظ كالنواطير، وألهو كالنسائم، وأغضب كالأمطار، وأضرب كالبرق، وأحنو كالتراب، وأقسو كالصخور، وأرحل كالفصول، وأنجب كالبحار، وأشيخ كالخمر، وأسلم روحي كالضياء..‏

    بدأ الاختبار بتمثيلي طباع الأنهار.. ولم أشأ التسلسل إلاّ من الينابيع.. وستكون نهاية الاختبار في الغيوم.. وحتى لا أخفق في التجربة ويشمت بي الأطفال..‏

    قررت تأجيل الانتحار إلى وقت لاحق.‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الليلة غسان حنا

    تعليقات الزوار ()