بتـــــاريخ : 11/22/2008 8:08:24 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1145 0


    شجرة جوز الهند

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : علي عبد الأمير صالح | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    تطلعت سهير عبر الزجاج. كانت السماء تنث مطراً ناعماً كالعشب. توقف أمام الحديقة طفل يرتدي قميصاً له لون الرماد. في داخل الحديقة مدفع وخيمة للجنود. صاح الطفل بصوت عال متطلعاً بيأس إلى كتبه.. إنه يطلب منهم إيواءه تحت خيمتهم. ربما تحدث إليهم عن معلمه وربما حدثوه عن عملهم وعن الحرب. من المحتمل إنهم تذكروا بأن لهم أخوة صغار مثله يذهبون صباحاً إلى المدرسة.‏

    ***‏

    قبالة المستشفى، على الجانب الآخر من الشارع، حديقة جميلة مضاءة بالأنوار الملونة. في الحديقة أشجار صفصاف ويوكالبتس وشوك البحر. هناك أيضاً مصاطب مطلية بدهان أبيض. تطل الحديقة على نهر واسع يتقافز فيه السمك وهو يمر عبر بوابات السدة الحديدية.‏

    الحديقة، الآن، خالية تماماً حيث تنبعث ريح خريفية باردة تلعب بأوراق الشجر وتحكي لها قصصاً جميلةً عن الصيف المنصرم. في هواء الحديقة النقي ضحكات وجمل عذبة وغزل دافئ لما تزل معلقةً فيه، ومنذ أن بلغ الناس ديارهم ودخلوها فرحين، أصبحتْ الضحكات والجمل والغزل طيوراً بيض تخفق أجنحتها مثل خطابات الحب وهي تركب خيول الريح. تظل هذه الطيور معلقةً حتى مساء اليوم التالي عندما يقدم الأطفال بثيابهم الزاهية كالحدائق فتصنع في أكفهم أعواد القش، عندئذٍ تعبر سماء الحديقة وتصبح نوارس تحلق فوق الأسماك.‏

    المدفع رفع منذ فترة قريبة، والجنود ربما رحلوا الى حبيباتهم وزوجاتهم بينما طارت الخيمة وأضحتْ خطاب حب مرسل لمحبوبة تقرأ الشعر في حديقة المنزل.‏

    في رواق المستشفى، فتاة ذات بشرة بيضاء كالثلج وشعر أسود كالليل، يدق كعب حذائها فوق البلاط بأصوات متناغمة. لمحت سهير امرأةً في الأربعين تجلس القرفصاء في غرفةٍ إلى اليمين، على وجهها وشم أخضر.‏

    وصلت سهير إلى الباب وجاس بصرها في الخارج. عبر الحديقة وسورها الحديدي، حيث يخطر الناس فوق الرصيف. في كل مسار يمر حميد، يتوقف ويمسك بالقضبان الحديدية ثم يصبح دافعاً ذراعه في الهواء. "هيه، أنتِ، أيتها البنت، أعرف أنك تذوبين حباً، تحبينني حتى الموت، لكنني لن أتزوجك قط.. قط".‏

    تطلق سهير ضحكةً عريضةً وتتأمل عيني سناء.‏

    [قالت امرأة في الأربعين موشومة الرسغين: "مرةً لقي زوجي حميداً في حمام رجالي، كان حميد يغني بصوت عال والرجال العراة يستمعون إليه ويطلقون صيحات الإعجاب.. عندما انتهى حميد من الغناء قدم زوجي له قطعة من الصابون لكنه رفضها وفجأةً نهض وتناول قشر برتقال مرمي على الأرض وأخذ يمرره فوق فروة رأسه."].‏

    ترن الجملة في رأسها مثل دقات ساعة جدارية في منزل خال "لكنني لن أتزوجك قط.. قط.."، في هذا المساء لم يأتِ حميد ولم يطلق صيحته المعتادة.‏

    على جري عادتها، تفكر سهير الآنَ، هل يتزوج حميد، ومن تلك التي ستشاركه الفراش المغطى بشرشف وردي؟ وربما سيتزوج مجنونةً مثله أو على الأقل امرأةً ذات عاهة.‏

    [في بعقوبة كانت ثمة مجنوتة اسمها (فطومة). كانت متزوجة ولها طفلان يرتديان ثياباً ممزقة تجرجرهما وراءها وهي تعبر الأسواق والأزقة الضيقة مطلقةً كلماتٍ بذيئةً كلما ناداها المرء. لكنها اختفت في السنوات الأخيرة، ويقال: إنها في بغداد الآن].‏

    جاءت أم حامد وتوقفت جنبها. تطلعت إليها في عطف.‏

    قالت سهير:‏

    ـ حميد لم يأتِ اليوم.‏

    ـ أوه، هذا مجنون.. مجنون...‏

    كانت أم حامد ترتدي ثوباً رمادياً. اندفعت في الرواق وغابتْ في جوف غرفةٍ إلى اليمين. من جديد وجدت سهير نفسها متوحدةً مغتمةً مثل شجرة جوز الهند العقيمة. وقع بصرها على جذع الشجرة وراحت عيناها تنسلقان الجذع حتى عانقتا السعفات الخضر الشبيهة بالمظلات. فكرت سهير في سرها بأن هذه الشجرة العقيمة تنتصب منذ عامين أمام بصرها مثل شاهدة قبر.‏

    **‏

    سهير تجلس الآن على كرسي بشرائط صفر، وسناء على كرسي بشرائط زرق، على مقربة منها تجلس امرأة في الأربعين فوق الحشائش. في مواجهتهن جميعاً تنتصب شجرة الجوز مثل سكين ذي نصل مسموم.‏

    أشارت سهير بيدها إلى الخارج.‏

    ـ خلف هذا السور كان الأطفال يلعبون وفي عيونهم فرح غامر.. في حين..‏

    سألت المرأة:‏

    ـ أين المدفع؟ هل رحل الجنود؟‏

    قالت سناء:‏

    ـ الحالة انتهت. زال التوتر.‏

    في هذه الأثناء مر شابان فوق الرصيف وحدقا إليهن عبر القضبان الحديدية. قالت سهير بحزن:‏

    ـ إنهما مثلنا تماماً، وفي عيونهما شوق عارم..‏

    قالت سناء بفرح:‏

    ـ في مساء صيفي رائع، كانت أصابعه تلعب في شعري تارةً وتارةً يمررها فوق زندي قائلاً بأني أمتلك ذراعاً ناعمةً كالحرير.‏

    قالت المرأة وهي تتذكر بمرارة:‏

    ـ لم أرَ زوجي إلا في ليلة العرس. كان يحب الوشم كثيراً، ويقول بأنه يتذكر الحقل عندما يراه منقوشاً على جسدي. لكنه، للأسف، ترك الحقل وجاء إلى المدينة.‏

    لفت سهير ساقاً فوق أخرى، في حين راحت سناء تلف خصلة شعر بلون الغرين بأصبعها، خصلة رقصت على خدها المورَّد. أسندتْ المرأة ذقنها إلى راحة اليد.‏

    قالت سهير:‏

    ـ حميد لم يأتِ هذا المساء.‏

    قالت سناء:‏

    ـ حوادث الدهس كثيرة هذه الأيام.‏

    قالت المرأة:‏

    ـ والده تاجر حبوب ذائع الصيت.‏

    كان الليل طائراً أسود يبعث أصواتاً محزونةً كالصحراء، يهبط فوق صدر سهير. وحديقة المستشفى لما تزل مضاءةً والناس بدؤوا يندسون تحت الأغطية أو يتأملون القمر وهو يمر عبر الغيوم الداكنة.‏

    راحت سهير تزرع نظراتها في الشجرة. أومأت برأسها. وقالت:‏

    ـ بدأت أضجر منها على نحو جلي تماماً.‏

    لم ينهمر الصوت. عاد الصوت حزيناً. كالقبر.‏

    ـ أنا يا أم حامد مثلها تماماً. أنا متوحدة ومهمومة.‏

    قالت سناء:‏

    ـ لكنك تؤدين هنا واجباً إنسانياً.‏

    ـ أعرف.‏

    قالت سهير باقتضاب وسرح بصرها إلى البعيد. نظرتْ سناء إلى الساعة الصغيرة في معصمها وانهمر الصوت.‏

    ـ في مثل هذه الساعة، قبل أسبوع، كنا في الكازينو المطلة على النهر.‏

    حركت سناء الخاتم في إصبعها الأيمن وبدت كالحالمة.‏

    -لا أدري هل أخبر الفلاح بأني بدأت امقتها.‏

    -هل تريدين إقتلاعها من المدينة؟‏

    هزت رأسها بالإيجاب، فجأة ، سألت سهير:‏

    -آه، لاأدري كيف نسيت، أين هي الطفلة ذات العينين الخضراوين؟‏

    -ماتت بالدفتيريا في يوم الخميس.. عندما سافرت إلى بعقوبة.‏

    قامت سهير وودت أن تستدير ولكنها قالت:‏

    -آه كم ستكون إمرأة جميلة لو أنها إتمت!‏

    قالت سناء متضاحكةً:‏

    -ربما تأتي إلى هنا فترى شجرة الجوز وتشق بالوحدة.‏

    عندما قامتْ سناء وأم حامد. حدقت سهير بحزن إلى الشجرة، دق كعب حذائها فوق البلاط ثم أحست بألم مفاجئ في ظهرها فتأكدت بأن الشجرة أخذتْ تفرز خناجرها المسمومة في حنق وإن مسألة إنتزاع الشجرة من حديقة المستشفى باتت ضروريةً تماماً‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()