بتـــــاريخ : 11/15/2008 9:40:58 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 919 0


    مشهد

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حسن حميد | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة مشهد حسن حميد

    كان الوقت قبيل الغروب بقليل؛ حين كنتُ معهم في حافلة الركوب المنفلتة كالريح حيناً، والحرون كبغل شموس حيناً آخر. لا أدري بالضبط ما الذي لفت انتباهي إلى مشهدهم العفوي تماماً.‏

    كانت المرأة الملتفّة بثوبها البنفسجي تلاعب طفلها الصغير على صدرها، والطفل لاهٍ، ناشط بالحركة والمناغاة كطير حمام. وقبالتها جلس الشاب الملتحي ذو القيافة اللافتة للانتباه غير عابىء بها في أول الأمر، فنظرته الهادئة تسرح خارج زجاج النافذة.‏

    كنت على الرغم من تعبي وقد هدّني النهار، أراقبُ ما حولي، أتطلع هنا وهناك، فأرى شرود الناس، واحمرار مقلهم، وشحوب وجوههم، وإنتظارهم الملول لما سيأتي، والحافلة تنهب الدرب ولا تعير ما يحدث أي اهتمام.‏

    ولم أدر كيف لفت المشهد انتباهي، فقد لاحظت أن المرأة الجميلة واسعة العينين تُنقل نظرها ما بين طفلها والشاب الملتحي الذي راح ينظر إليها لمحاً وبخجل واضح تماماً، لكن نظراتهما لا تلتقي حيث تعود المرأة الجميلة المتوردة الوجه إلى طفلها لتلاعبه، كما يعود الشاب الملتحي ذو الشفتين الرقيقتين إلى كتبه التي يشدّها إلى صدره.‏

    ولم تنقطع النظرات المتبادلة بينهما، فقد بدأ الشاب الملتحي ذو الساعة الذهبية يرسل النظرات الدافئة إلى المرأة الجميلة ذات الشامة الشقراء الباسمة أيضاً، وطفلها يضحك، ويهمهم، ويرفُّ بذراعيه كعصفور أصابه البلل. وشردتُ عنهما قليلاً، رأيتُ الأشجار واقفة بخشوع، والحافلات والسيارات الصغيرة في تسابق محموم كأن الدنيا ستذوب مع مغيب الشمس. ولم تكن سوى البيوت، والدروب، والأشجار منتظرة في ثبات حنون.. هجعةَ الليل القادمة.‏

    وعدت إليهما، فرأيت المرأة الجميلة التي بان جيدها الطويل اللامع، وهي تحاول انتزاع كف طفلها الطرية من يد الشاب الملتحي الذي راح يبتسم لهما، والطفل يرعش، ويحمحم مثل مهرة جفول يروم الوصول إلى حضن الشاب. هنا بالضبط التقت النظرات اللجوجة الحائرة، والابتسامات الممدودة، كما تلامست الأيدي أيضاً، حيث أخذ الشاب الملتحي ذو الشعر الطويل الطفل إليه، ويدا المرأة الجميلة الرخصتان عالقتان به.‏

    تلامست الأيدي، فعلت الوجهين حُمرة خفيفة أشبه بحمرة التوت الشامي. والتمعت الأعين، فرأى أحدهما الآخر بهدوء حنون، لكن وفي اللحظة الأخيرة ارتبكت المرأة الجميلة، وقد بدت ساقاها البيضاوان من طرف ثوبها المشقوق، فحزمت أمرها وأعادت طفلها إليها، وأطفأت ابتسامتها، تماماً كمن يغلق نافذة بحياء شديد.‏

    وعاد الشاب الملتحي البادي الصدر، إلى الوراء قليلاً، ساحباً يده إلى كتبه، وقد انقصفت ابتسامة مثل عود حبق يابس، في هذه اللحظة، توقفت الحافلة ليصعد إليها راكب جديد، ثم انطلقت، ليستعاد المشهد ثانية ما بين المرأة الجميلة ذات الأساور الكثيرة، والشاب الملتحي الذي أخذته الحيرة ولحظات الشرود!!‏

    لقد أحسستُ بأن المرأة الجميلة اقتنعت بأنها لفتت انتباه الشاب الملتحي بزينتها وابتساماتها الصغيرة، ونظراتها الوادعة، وأن الشاب أيقن أيضاً بأنه راق لها بحضوره ولطافته البادية، وغمرني شعور بأنهما، ومن أول كلمة يطلقها أحدهما، سيتفقان، ويبدآان حديثاً طويلاً ينتهي بهما إلى معرفة مطلقة!!.‏

    فعلاً، ها هي المرأة الجميلة ذات الأهداب الطويلة، تضع طفلها في حضنها، وتخرج ورقة صغيرة وقلماً، وتشرع في كتابة كلمات قليلة، وتطويها في كفها دون أن تنظر إلى الشاب الملتحي الذي راح يراقبها بلهفة راجفة، لعلها كتبت له عنوانها، أو رقم هاتفها.. ربما!!.‏

    وحالما انتهت من ضبط طفلها وثيابها، طلبت من السائق أن يتلطف ويوقف الحافلة لكي تنزل، فاستجاب إليها بسرعة عجيبة لكأنه كان يترقب منها طلباً كهذا، وانشغل يرامقها بنظراته الثاقبة. نهضت، فبدت قامتها الطويلة الملأى، ثم هبطت دون أن تعبأ بالشاب الملتحي الذي اصفرَّ لونه واعتكر، ودون أن ترمي له نظرة واحدة.‏

    فقط.. تركت الورقة الصغيرة المطوية تنزلق فوق مقعدها كأي شيء مهمل لا يعنيها أبداً، ومضت، وأبصارنا معلقة عليها. وقبل أن تغلق الحافلة بابها، التقطت أصابع الشاب الورقة باضطراب واضح. فتحها، وقرأ. كنت على مقربة منه؛ إلى جواره تماماً، قرأ، وقرأت:‏

    * "آسفة، كنت أنظر إليك، وأنا أفكر‏

    بولدي، متى سيكبر ويذهب إلى الجامعة مثلك،‏

    ومتى ستنبت لحيته؟!، فلا تذهب بأفكارك بعيداً.‏

    ترى، هل منحتك لحظات من السعادة العابرة، أرجو ذلك..!!"‏

    فغصَّ الشاب الملتحي، وعضَّ على شفته السفلى بانفعال حتى أدماها، ثم دعك الورقة الصغيرة بقسوة شديدة ورماها من النافذة، وقد بدا لي مخلوقاً آخر غير الذي كان.. قبل لحظات فقط!!.‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة مشهد حسن حميد

    تعليقات الزوار ()