بتـــــاريخ : 11/21/2008 7:10:31 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1133 0


    بروفات للحبّ

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نجلا أحمد علي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    لا أكاد أختلف عن رأسمالي كبير أو نجم هوليودي أو صانع سياسة متمرّس قياساً لامتلاء حياتي بالناس. تحضرُني مواعيد أنتظرها ولا أنتظرها.. يدقّ الباب، ويهمي عليَّ الزائرون كالمطر، يتوازعون نهاري بثرثرات وهموم، يبدو أنني مصبّ لكل شجون العالم وإلاَّ فما سرَّ ارتماء الناس بأحضاني؟
    تحضيراتٌ أوليّة للقاءات اليوم تجلو حقيقة الأمر..
    تزورني اليوم سيدة أرستقراطيّة، يقترب اللقاء الذي يحرص هؤلاء أن يكون دقيقاً، موجزاً، عملّياً، القطن والمخمل لا يلتقيان، لذا أستبدل كسوتي البسيطة ونعلي الطبّي ببدلة متأنّقة وحذاء عالٍ
    البدلة من حرير "الكريب" المعرّق، سترة تحبك على الخصر وتنسدل بارتياح على البطن والوركين، ذراعا القبّة يتصافحان في ملتقى النّهدين، أستعين بمشدّ صدري ببطانة الإسفنج لإنهاضهما لمستوى القبّة.
    تنّورتي ضيّقة تنحسر عن الركبة بطول إصبع، أتبختر أمام المرآة.، أدور على كعبيَّ الرفيعين بأُبّهة ملكيّة.، يالي من ممشوقة، من يلمحني يجزم بغباء أنّ (القالب غالب) حتى زنّار (الساتان)، المعقود حول عنقي، و(الدانتيل) الخجول المنساب فوق ذراعيّ لا يصرفان الانتباه عن (مشقتي) الفاتنة.
    يرنّ الجرس، لا أفتح الباب قبل أن أنحت على وجهي الجامد خريطة لابتسامة عريضة.
     ـ آه سيدتي، مرحباً مرحباً، تفضّلي، شرّفي، أشرقت الأنوار، حلّت البركات.
    تتفضّل سيّدة خمسينيّة، تشرّف الصالة باسترخائها على كرسي هزّاز بجوار (البيانو)، إلى حُضنها يثب (توتو)، بفراء كثّ وقوائم قصيرة ثخينة تشير إلى أصل أجنبي.
    هلاّ، تفضّلْتِ بالترويح عن نفسكِ؟!
    أُناول السيدة مروحة يدوّية حزرتُ أنها تلزم في طقس حارّ فهيأتُها مسبقاً.
    مِرسي
    بعد تعارف رسمي أغيب في المطبخ وأرجع بكأسي عصير وحبّات (دروبس) أنثرها على البلاط فيندفع التوتو لتشمّمها ولحسها.
    تستعلم ضيفتي باقتضاب عن وضعي المهني والعائلي وسنّي وخبرتي الموسيقية، تبدو لوهلة أولى متغطرسة، مغرورة بمنبتها وحنكتها، بالتالي عصيّة على الترويض، لكنها لا تصمد طويلاً أمام إيماءات مؤدّبة وابتسامات خجولة أقدمها لها كفرض طاعة يليق بكائن أداؤه لمن علاهُ حظوة.
    تأمل السيدة أن ألقّن حفيدتها أبجدية العزف على البيانو تنفرج أساريري أكثر فهذا توقعي. ألتمس إرجاء طلبها لحين أسمعها نموذجاً من عزفي، ترحب بتواضعي وبدعوتي، تُرنّح ظهرها على المسند الهزاز، وتبدو منتشية بسماع مقطوعة من (بحيرة البجع)، أرفع أصابعي عن المفاتيح، فتصفّق برصانة وصلف وينبح (التوتو) الذي صمت لفترة.. تمتدحني كثيراً، تغدو ابتسامتها أقل كلفة، أستعيذُ بالله من مدائح جمّة تُسلمني للغرور تضحك السيدة، تضحك كثيراً فأتجرأُ وأعرب عن رغبة بكشف خلفّيات حياتها تشطح برأسها وذاكرتها للخلف. كمريض في حضرة طبيب نفساني تنبش ذاكرة خيباتها، أراني أتفهّمها.. أتوحّد معها في مُصابها، تحتضن أصابعي برفق معصمها وتفركهُ بنعومة. يصعقُها تأثري وتحناني، تقطع روايتها وتفتح أجفانها.. تعتذر عن "هذيانها" وتهمّ بالانصراف. أجتهد لإطالة مكوثها الذي "يُثلج" صدري و"يجلو" همّي. أُعدّ القهوة وأقدّمها مع تشكيلة من البسكويت بالكريما والشوكولا. لا يفوتني أن أربّت على ظهر جروها الغالي وألقي له بقطعة، أجلس رافعةً فخذاً على فخذ وأشعل سيجارتها بشحطة ماهرة خاطفة لعود الثقاب.
    تزفر سحابة مكربنة وتقول:
    ـ انقضى الوقت الذي كنّا به ندخّن دون محاذير(ليتَ الشباب يعود)
    تنزلق بنظراتها عليّ:
    ـ قوامك جذاب يذكّرني بماضيَّ.
    "أندهش" ترتسم أمارات اندهاشي على حاجبيَّ وابتسامتي الذاهلة وانفراج شفاهي، أُعجل فألوم جليستي على"ظلم " نفسها.. "من يراك سيدتي يعطيك من العمر خمسةً وثلاثين، قوامك؟ لا يشي بأكثر من أمومة شابةٌ لطفل أو اثنين.."، أُدلي بأحكامي متعاميةً عن انشطاط نهديها ونفور بطنها وضياع معالم خصرها، وأستحسن صبغة شعرها، درجتُها، ماركتُها فكم تليق بنقاء بشرتها مع علمي باحتجابها خلف (تجليدة) من كريمات الشدّ والتبييض.
    تودّعني السيدة بغير ما لقيتني، إنها تمور بالبشاشة والرضا.
    يا الله.، كم أبدو لها ظريفة، لَبِقة. نضرب مواعيدعمل بخصوص حفيدتها تنصرف بيقين تام من (محبّتي) لها.
    لا أكاد أُغلق الباب حتى يُرن جرس الهاتف.
    أمتعض لالتقاط صوت مألوف.. على الطرف الآخر مدير الجمعيّة الخيريّة لمناشط المعوقين.
    ـ تحيّاتي أستاذ، احتراماتي، أهلاً بكم أهلاً.
    يُعلمني المدير آسفاً بتقديم موعد المهرجان الفني للأطفال المقعدين، يقتضي ذلك إلحاق حصة مسائية ببرنامج التدريب اليومي. أُبدي تجاوباً فورياً مشفوعاً بدماثة خلق وسرعة جاهزية:
    ـ أمركم أستاذ نحن في الخدمة.
    يُزايل القلق محدّثي فيهمّ بشكري.. أقطع عليه الدرب:
    ـ ما تقولونَ أستاذ؟.. عفواً عفواً، هذا، واجبنا، ينقصُنا فحسب أن نتشرّف بحسن الظن.
    يالها من تمثيليّة.
    أُنهي المكالمة مستاءةً لإدراج موعد إضافي في لائحتي.. لا يشك الرجل قط بازدواجيتي ونفاقي، وأجزم أنه يغبط نفسه لإبرامهِ عقداً معي عجينة طيّعة أنا، كنز عطاء، أُستاذة (لُقطة).
    بالكاد أُعدّ الشاي، وأكسح بذيل الملعقة شريحة من الزبدة حتى يدق الباب موعدٌ غير مرتقب.
     تُنبؤني العين السحرية بهويّة غير مؤكدة لزائرتي، أهرش صدغي فأتذكّر.. مابال هذه القادمة تتفقدّني بعد سنين؟..
    أُسلم أمري إلى الشيطان فما من غيره وراء مصائبي.أسحب نفساً عميقاً، وإذ أُدير أكرة الباب أصمم لسحنتي تعابير مستطلعة بريئة، أصفنُ برهةً في القامة الشاخصة، بعدئذٍ أصيح بابتهاج:
    ـ أنتِ ؟ مستحيل!!.. ماتزالين عائشة؟!
    نتعانق، أشدّ زميلة الدراسة إليَّ، أهصرها بين ذراعي، يريحها جيشان عواطفي، يلغي المقدمات التي تُربكها بخصوص تبرير الزيارة
    نجلس كسميرين ، نتداول أخبار الرفاق. لا ينكشف سر الزيارة. مسحاً للوقت أتسلح بدبلوماسيّتي.. حواريّة بسيطة ويُماط اللثام.
    ـ عزيزتي الضيّعة انسيها، تَبيتين الليلة عندي.
    ـ لا.. لا.. غير ممكن.
    ـ نتغدّى، نسوح ونتسوّق ونسهر كأيّام زمان
    ـ إن شاء الله مرة ثانية.. فـَ..
    أصعّد وتيرة احتجاجي:
    ـ لاثانية ولا ثالثة، سنوات يا منظومة لم أركِ.. تُخطرين أهلك بالتلفون وتعدين البيت بيتك.
    تفتش عن مخرج (للورطة):
    ـ وحياتك مرة ثانية، ماكنّا اليوم تلاقينا لو لم أجر تحاليل لدى الطبيب.
    ما أسرع ماكدر القلق محيّاي:
    ـ تحاليل؟ .. خير؟
    أفهم أنها خاضت فحوصات لكشف عارض مرضيالتقرير الطّبي لا يجهز قبل ساعة فضّلت (رفيقة الدرب)، قضاءها عندي، أكاد (آخذ على خاطري منها)، لولا تعهّدها الأكيد أن نتزاور لاحقاً.. الوقت يفرّ سريعاً.. لحيويّتي وجاذبيّة إصغائي فضلٌ في هذا
    تودّعني الزائرة آسفةً، تحسٌّ قطعةً من قلبها مودعةً عندي. أُناشدها مداراة صحّتها بسمتي الدافئة، نظرتي الحالمة، يدي الشّادة على يدها تهمس لها:
    ـ لا تُطيلي الغياب.
    الباب يُغلق.
    أفّ.. أفّ أصفع جبيني، الوقت يدركُني. قبل أن يصبح (السيف قاطعاً) أتحضّر لموعدي في الكنيسة المارونيّة. ثمّة تدريبات لجنّاز (الجمعة الحزينة).
    هندامي المبهرج يُسيء للقدّاس ألبس بنطال (شارلستن)، أسود وقميص أبيض بقبّة عالية. أحرص على بساطة مكياجي ونعومة تسريحتي الأخت (ماري روز)، تصفّ المرتلين في أنساق وتوزّع عليهم الكراريس. لا يُشعرني استقبالها الحار بضرورة تعليل تأخيري. في القاعة بعض أعيان..، يستملحونني إذ أضع يدي على معدتي وأخفض عنقي محيية. أرفع غطاء البيانو وأحدد الأنشودة والمنعكس الواجب إحداثه في نفوس الحاضرين..، (وقاري) هو المطلوب لقدسيّة الظرف.. يكتسي وجهي نبالة صارمة وعبوس تأمّلي زهدي لكنهُ صادق، فاضح لحقيقة طبعي. أوقع أول أنغامي فيواكبه المنشدون بمناجاة مؤثّرة:
    ياسيدي كم كان قاسياً
    موتُ صليب العار
    وحملته من قبل أن يحملك
    يابار
    تنسفح ساعتان بين عزف وتجويد أداء جُلُّه يخصّ بكائيّة (الأم الحزينة) ومرثيّات تُجاريها صعوبة.
    وحدها المناحات تردّ صفاء روحي علائم التعب على وجوه المنشدين توقظني من انغماسي بعملي. أعلن كفاية التدريب فيبادرني الحاضرون بامتنان عميق لجهدي. لا أدّعي التمثيل فيما صنعت، لكنّ انحناءاتي المفرطة لدى المغادرة تنذر بالتكلّف لولا تحاملي على نفسي وانطباع بالأنس والكياسة أخلّفه ورائي.
    أصلُ البيت. نصف ساعة تفصلني عن موعدي اللاحق. الوقت عصراً... ماعدتُ أشتاق قالب الزبدة ولا بمقدوري طهو ما يُرضي ذوقي ويخرس جوعي. يرنّ الهاتف. نصف الساعة لا تأذن بالردّ. يروق للطفولة غالباً أن نقتدي بها، .. أن تلتقي الأطفال، يعني أن تغدو طفلاً. تحدوني الفكرة لارتداء فستان جينز وبلوزة مزركشة وانتعال صندل... أغدو أصغر سناً وأَبدى خفّة. لا أُدخل مأوى القاصرين قبل أن أواري تحجُّر ملامحي ونشافتي وبرودة طَلّتي (بمراحب) سارّة؛ وسلامات احتفاليّة:
    ـ مرحباً صغاري؟ .. مرحباً كتاكيتي..؟!.. كيفَ أنتم سَواسني؟
    وجوه الأولاد تنقلب أقماراً تستحي وشموساً
    تخجل. المباسم تنفرج، تتهلّل، والغمّازات تنثني عن ضحكات ناعمة.. أحسُّ أنصالاً تحزّ كبدي. في تضاعيف الحزوز قيوح مُنتنة وآلام تتمخّض عن عقدة ذنب.
    أيُّ جرمٍ أشنع من خداع براءة؟
    أكبس على الفرامل فينكبح شطحان ضميري. أنثر بأريحية "أمومتي"، الخالصة فيسرع الأولاد علىكراسيهم النّقالة ويلتّفون حولي ملائكة تتبرّك بتمجيد إله:
    أبدأ أعزف النّوتة:
    دو ري لالا صول

     
    دو ري لا صول

     
    لا سي دو

     
    دو ري دو سي لا صول

     
    دو ري دو سي لا صول

     
    فا دو فا

     
    يترجمون الفونيمات أداءً لغوياً ذا معنى:
    قُرِعَ الجرسُ

     
    رُنَّ الجرسُ

     
    اسمعوه.

     
    مالهُ مثيلٌ

     
    صوتُهُ جميلٌ

     
    دين دان دون

     
    هل من داعٍ يضطّرني لرصد الحبور البهيج لجوقة عصافيري؟
    للسامع أن يتخيَّل حماسة الكتاكيت وتجاوبها مع الأنغام الموسيقية على امتداد حصة التدريب.لا غرو أن العصافير مهيضة الجناح ـ رغم قصورها وعقوق سيقانها ـ تحلّق بنفسها إلى الفراديس مدفوعةً بحب أمومي أنفحُها به، وسذاجاتٍ أفلاطونية تحكم دنياها.
    عموماً، يصحّ القول بجاهزّية النّمرة الغنائيّة لفئة الأطفال المعاقين بالشلّل. أتستّر على إرهاقي وانتقام جوعي. أقبّل (ملائكتي) فرداً فرداً.. يبادر الإداريّون ـ إذ أنصرف ـ فوراً لشكري.
    دعوني وشأني.
    يكاد صبري النافذ يصيح فيهم. أتجالد. أبتسم لهم جداً جداً.. وتنقلب الابتسامة إلى (تكشيرة)، تفضح تشويهات لثّتي.
    أدركتُ البيت ليلاً.لا مهرب من تطفّل جارة ضجرة، أو غاوية ثرثرة مؤرقة، أو مُريد (تسلية)، عبر اتصال هاتفي بصرف النظر عن التفاصيل
    انهددتُ أخيراً على السرير..
    أجود بمائة ابتسامة حارةً وغمزة عين خفرة لمن يخلع صندلي وينضو عني ثيابي ويُلبسني روب (الديشامبر).. لكن، أبستطاعتي الابتسام؟؟
    حنكي يوجعني من فرط "التكشيرات"، التي وزّعتها اليوم. مقعرةً عينيَّ وغمازتيَّ وخدودي تؤلمني أيضاً لعبوسي دواعٍ موجبة لا مكان لشرحها. فمنذ طفولتي ينادونني (كشّور). لما كبرت اكتسبت مهارة تغليب التطبيع على الطبائع لا أزعم أني كسرت القاعدة، لكن ثمة (طعوم) ناجعة أصيد بها الآخرين.
    بداهتي، طلاقتي، سرعة تلوني، اندفاعات مرحي عذوبة روحي وطيبة نفسي ونقاء سرائري.. عطائي، دأبي، جسارتي، تواضعي، وإيماني بأنَّ لكل مقامٍ مقال.. والأهمَّ: ابتساماتي الساحرة.. عرابينُ حبٍّ جَمّ أهديه لكل الناس.
    مسلسل وقائع اليوم يثبت ذلك. يالي من مرائية.. تصوّروا (كشّور) تبدو غاية في الظرف.
    تبغون زيارتي؟
    أهلاً، أهلاً بكم كُلي لكم.. عمري، حياتي أخطب ودّكم بمحبّة صميميّة.
    فقط أرجوكم
    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()