المقدمة والتوطئة
وأول ما نبدأ به من الحديث ما يتعلق بالصياد، ووصفه، وكيف يكون ماهراً، ثم شأننا وهذا الصياد ، ثم بعد ذلك حينما نربط أمرنا، نمضي قدما لننتفع بما نحتاج في أمر مهم من أمور حياتنا، وفي مهمة عظيمة من المهمات المنوطة بنا ، والتي لا بد لنا أن نعرفها ، وأن يتبصر بها كل أحد ، وهي أن يعرف الجميع كيف يكون الصياد ماهراً.
ونعني أولا بالصياد: المحترف الذي يكتسب من هذه الصنعة، والذي يتفرغ لها، ويبرع فيها، وينتج منها، وليس هو ذلك عابر السبيل، الذي ربما اقتنص طيراً وكيفما اتفق معه الحال، فأما الماهر فهذا الذي نعنيه.
أولا: ما علم الناس ولا يعرفون صياداً يصيد وهو قابع في قعر داره .. وهو جالس في بيته، وإنما لا بد له أن يخرج إلى مكان الصيد حتى يصطاد،
وثانياً: أنه لا يمكن أن يخرج غفلاً من عدته ، ليس معه إلا يدين خاويتين، بل لا بد له من عدة يأخذها معه حتى يصطاد بها، ونحن نعرف أيضا أنه يحتاج إلى تفقد عدته ليطمئن إلى صلاحيتها للصيد، من بعد ذلك فإننا نعرف أنه يختار لكل نوع عدته التي تخصه، فهو يعد الشباك لصيد البحر، والسهام لصيد البر، والبندقية لصيد الطير، وكل عدة لا تنفع إلا لصيد معين. فهو إذا لا بد أن يحدد العدة لحسب الصيد الذي ينطلق إليه ويرغب فيه.
وكذلك نعلم أنه كلما هيأ عدته وكثر أسبابها ؛ فإن ذلك يعود عليه بغنيمة أوفر في الصيد، فالذي عنده شبكة صغيرة لا يصيد مثل الذي عنده شبكة كبيرة، والذي عنده ذخيرة قليلة لا يصيد مثل الذي عنده ذخيرة طويلة - ولاشك - في أن للعدة وتهيئتها أثر بالغ في عظم الصيد وكثرته.
ثم نمضي مع هذا الصياد بعد أن هيأ عدته وكثرها وجعلها مناسبة لصيده ، ثم خرج من داره ؛ فإنه قطعاً- ولا شك - سينطلق لمكان مناسب يخرج منه ويرجع إليه بصيد واحد، فلن يذهب - مثلا - إلى المياه الضحلة التي ليست فيها سمك ، ولن يذهب إلى أرض فضاء ليست فيها طير، لأنه حينئذ لن يكون صياداً ماهراً! بل لن يكون صياداً بالكلية، فعليه إذاً أن يختار المكان المناسب ، وهذا المكان هو الذي تتوفر فيه أعداد كثيرة مما سوف يصيد ، وتتوفر فيه أسباب من النجاح وفيرة ، ثم إذا وصل إلى ذلك المكان لا شك أنه يحتاج:
أولا: أن يفحص المنطقة ، وأن يدرس الموقع دراسة جيدة ، حتى يحدد لنفسه المكان المناسب الذي يتهيأ فيه لصيده ، فإذا كان الأمر يحتاج إلى تخفٍ تخفى عن الوحوش التي تشكل خطراً عليه ، وكذلك من الغزلان التي بمجرد رؤيته تفر منه، وإذا كان الأمر يحتاج إلى مكانٍ رحبٍ لينطلق ويعدو - فلا شك - أنه سيختار ذلك الموقع ، فإذاً مجرد وصوله إليه لا يكفي ذلك ، بل يحتاج إلى دراسة ذلك الموقع وتفحصه، ومن بعد ذلك يتفاعل معه الموقع ، ويقرر المكمن الذي يكمن فيه لصيـده. ثم نرى الصياد من بعد ذلك متربصاً كامناً، متحلياً بالصبر موصوفاً بطول النَفَس، لا يكمن فقط خمس دقائق ، إن وجد صيداً وإلا رجع . هذا إذا كان هاوياً .. نعم ! أما إذا كان ذلك الصيد مصدر رزقه ؛ فإنه- لا شك - سوف يمكث مهما طال الزمن ، ومهما امتد الوقت، ومن بعد ذلك نجده إذا ظفر بصيد يجتهد اجتهاداً كبيراً في إصابته، ولا يتعجل ويرمي طلقته كيفما اتفق، بل يتهيأ، فيضبط شبكته ويضبط منظار بندقيته ، لماذا ؟
لأنه إذا اخطأ في الضربة الأولى التي يقتنص منها، فحينئذ يوفر على نفسه ووقته، ويوفر عدته، ويوفر جهده ، فإذا به يحرص كل الحرص على عدم تنفير الصيد وهذه حاسة مهمة، فالصياد تراه يسير على أطراف قدميه ، ويتوقى إحداث أصوات تنفر الصيد، بل هو يبالغ في الإحسان في الطعم الذي يقدمه حتى لا ينفر منه الصيد ، وهذه سمة أساسية في الصياد ، أما إن تحرك حركة طائشة ؛ فإنه ينفر صيده ، وإذا استخدم طعاماً فاسداً كذلك ينفر صيده ، وهذا لا يكون بحال ماهراً ولا صياداً، ثم إننا نجد بعد ذلك أن طويل النفــس لا يدبّ إلى نفسه اليأس، بل إذا فاته الصيد كمن مره أخرى ، وإذا كان الموقع غير مناسب، انتقل إلى غيره ، لماذا؟
لأنه لا بد له من الصيد، فهولا يستغني عن الموقع لأنه مصدر رزقه.
ثم أيضا نجده لا ينصرف عن مهمته لعوارض أخرى، فلا يصرفه مثلا: جمال المنظر في البحر، وزرقته ، والشمس ولون غروبها ، فيتأمل في ذلك المنظر الجميل، ويضع بندقيته بجانب خضرة الأشجار، وخرير المياه، إن فعل ذلك فهو- بلا شك - قد توجه وجهة أخرى، ونسي المهمة التي خرج لأجلها، وبالتالي فهو قطعاً سيضيع الثمرة التي خرج ليقطفها، وآخر الأمر، فإننا نجد ذلك الصياد إذا وفر بصيده انتفع به من كل الوجوه ، فإذا بلحمه يؤكل ، وإذا بجلده يدبغ ليباع أو لينتفع به انتفاعاً كاملاً .
هذه صورة لهذا الصياد فما صلتنا به، وهل سنتحدث عن صيد اللؤلؤ، أو عن صيد السمك، أو عن صيد الطيور، أو عن أي صيد مما يصاد ؟
ليس ذلك مقصدنا وغايتنا، وإنما هي المقدمة والتوطئة لما نريد أن ننبه عليه ، وأن نتأمل فيه ، ونربط الربط الذي ينقلنا إلى قلب الموضوع ولبّه.
وسنمضي مع بعض أقوال عبد القادر الجيلاني - وهو يبين لنا صفات المسلم الكامل الزاهد البصير - فيقول لنا في وصفه: " الزاهد الكامل في زهده لا يبالي في الخلق، لا يهرب منهم بل يطلبهم " ويقول: " المبتدئ يهرب من الفساق والعصاة، والمنتهي يطلبه ، كيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده " ثم يأتي إلى موقع الذي سينقلنا إلى ربط بين القضيتين، فيقول: " من كملت معرفته لله - عز وجل - صار دالاً عليه، ويصيّر الشبكة ويصطاد بها الخلق من بحر الدنيا " .
هذا حديثنا عنك أيها العالم .. عنك أيها الداعية .. عنك أيها الواعـظ الذي تكلم العلماء في أنك تكون كما قال بعضهم: يصطادون الخلق بشباك الحق، فأنت صياد لكنك تصيد الناس من الفسق إلى الطاعة ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن الغفلة إلى التذكّر.
فهذه هي مهمتك في هذه الحياة ، ولا يمكن أو لا نرضى لك إلا أن تكون صياداً ماهراً، وكما سرنا مع ذلك الصياد في وصفه ، ورأينا كيف تحققت له صفة المهارة ، ويكفي أن يحظى في آخر الأمر بالثمرة التي يرجوها.
وكذلك نمضي معك فأنت الصياد صاحب المنهج ، وأنت تسير على ذات الخطى التي أخذ بها ذلك الصياد الـذي أسلفنا ذكره.